اتصلوا بنا

الأرشيف

مجلة صدى النهرين

اخبارنا

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

الأخبــــــــــار

 

الفلسفة وفن الحياة

الأب هاني دانيال الدومينيكي

 

     ما الحقيقة ؟ كيف أو لماذا نُمّيز بيانا ما بأنه صحيح أو خاطىء ، وكيف نفكر ؟ ما الحكمة ؟ هل المعرفة ممكنة ؟ كيف نعرف ما نعرف ؟ ما هو أساس الفعل الاخلاقي (قيميا، أو مؤسساتيا )؟ أي الاعمال صحيحة ، وأيها خاطئة ؟ هل القيم مطلقة أم نسبية ؟ هل الانسجام مع الطبيعة هو هدف الانسان ؟ ما الفرق بين الجمال والجميل ؟

     مقدمة وقف مدرس بعد تعيينه مدرسا للفلسفة في الكلية امام طلابه يسألهم قائلآ :ما الفلسفة وماذا يعني أن" يتفلسف " امرىء ؟ فبدأكل واحد يعطي تعريفا كان في ذاكرته ، فمنهم من قال:ان الفلسفة علم يختص بدراسة الظواهر غير المرئية ،واخرون ،انها تهتم بتعريف مفاهيم مثل الروح والنفس والجسد .فتوقف الجميع عن الكلام ليسمعوا جواب الاستاذ بلهف ، لكنهم فوجئوا بجواب غريب ، لم يتوقعوه من استاذ متخصص بالفلسفة عندما قال :"لا اعرف!".فسخر الطلاب منه متسائلين :كيف، وهو مدرس مادة تخصص فيها ، لايعرف أبسط ما فيها ، أي تعريفها بكلمات وجيزة! 

     موضوع الفلسفة يتأمل الفلاسفة مفاهيم كالوجود أو فعل الوجود أو المبادىء الأخلاقية كالسعادة والمعرفة والحقيقة والجمال ، من خلال تساؤلات كهذه : ما الحقيقة ؟ كيف أو لماذا نُمّيز بيانا ما بأنه صحيح أو خاطىء ، وكيف نفكر ؟ ما الحكمة ؟ هل المعرفة ممكنة ؟ كيف نعرف ما نعرف ؟ ما هو أساس الفعل الاخلاقي (قيميا، أو مؤسساتيا )؟ أي الاعمال صحيحة ، وأيها خاطئة ؟ هل القيم مطلقة أم نسبية ؟ هل الانسجام مع الطبيعة هو هدف الانسان ؟ ما الفرق بين الجمال والجميل؟

     هل الفلسفة علم كباقي العلوم ؟ كان المدرس محقا ، عندما أقر بجهله لتعريف وافي للفلسفة . فجوابه صحيح وحقيقي وينبغي أخذه بنظر الاعتبار . أذ لا تمتلك الفلسفة مادة تحللها وتدرسها لتعطي نتائج عنها ! فينبغي أذا طرح سوأل يمهد فهم جواب المدرس : ما هي المعايير التي تحدد ميدانا ما على انه علم ؟ فكلمة "علم" مهمة وتساعد على فهم الفلسفة ، فعندما نتكلم عن اختصاص علمي مثلا كالبيولوجيا أو السايكلوجيا ، يتكون أسم من هذه العلوم من كلمتين : بيو(الحياة) أو سايكو(بسكيه- نفس) اليونانيتين ، مضاف اليها كلمة (لوجيا) أي "اللوغوس" والتي تعني "خطاب أو كلام عن " ،علم الحياة وعلم النفس . فالعلم ميدان ، من ناحية ، يمتلك مادة يدرسها (الحياة والنفس) يسعى الوصول من خلالها الى علمية حقيقة يثبتها مع مرور الزمن ، ومن جانب أخر ، له منهج أو طريقة تعتمد مجموعة أسس وقواعد ونظريات ، تنتظم وفق منطق معين . فالكيمياء مثلا ، تهتم بطبيعة المادة عن طريق تقسيم مكوناتها الى العناصر وجزيئات وذرات لتدرس الاواصر التي تنبني من خلالها ، ويمكن أخضاعها للتحليل واستقاء حقائق تصف طبيعة هذه المواد والرياضيات ، تهتم بعملية ربط ما هو رقمي وحسابي من خلال نظريات وبراهين حسابية ، والتاريخ منهج يدرس الفترات الزمنية ومجريات الاحداث لأستقاء فكرة معينة لاعادة بناء منظور عام للحركة البشرية هكذا اقر الإنسان بتلك الميادين كعلوم حقيقية. فأي بحث ملم في هذه العلوم ينبغي عليه الاخذ بالاعتبار كل هذه البراهين المثبتة مسبقا ويدرسها خلال سنوات ليتخصص بها .فلا يمتلك الحق في تجاوزها أو حتى الادلاء برأي يخالفها بل ملزم يقبلها كما هي . لكن الحال يختلف مع الفلسفة التي ، في منهج بحثها ، تبتعد جذريا عن العلوم لأسباب عدة :1) عدم أمتلاك الفلسفة لمادة خام خاصة بها لكي تعالجها لتقصي الحقائق . فمادة الفلسفة هي "رغبة " الأنسان في البحث والتعلم ، أي في ديمومة السؤال الذي يطرحه على نفسه .2) حيوية الفلسفة كامنة في قدرتها المستمرة في طرح الأنسان أسئلة على الاحداث ، لماذا يحدث هذا ولا يحدث غيره ؟ وهذا يعني أن ذاتية الأنسان تؤدي لا مركزيا في الفلسفة ، أذ لسنا ملزمين باللاقرار بما وصل اليه الفلاسفة قبلنا أو القبول به . وهذا ما لا نجده في العلوم .3) تتناقض الانظمة الفلسفية بعضها مع الاخر مهما كانت متقاربة ، أو مع ما سبقها من تيارات ومذاهب فكرية . فعلى سبيل المثال ،يعد كلا من القديس توما الاكويني واللالماني الملحد كارل ماركس من أعمدة الفكر الغربي الفلسفي ، فقد أسس كلا منهما مذهبا فكريا معترف بها ، ولكن ، في الوقت عينه، يناقض احدهما ما جاء به الاخر . أما معطيات واستنتاجات علم ما يجب أن تتفق فيما بينها . فلو كانت الغاية من دراسة الفلسفة مجموعة معلومات دقيقة ، فخيبة الامل كبيرة عندئذ ، أذ لا تسعى الفلسفة الى أمتلاك مادة كالعلوم بل تسعى الى نفض الغبار عن الفكر وتراكمات كسل الفكر.

 الأنسان وأصل التساؤل الفلسفي أن الفلسفة موضوع شائك ، أذ انقسم المفكرون في كيفية طرحه . فتكمن مشكلة دارسي الفلسفة في تحديد نظام خاص بها أو في مادة تهتم بدراستها أو أعطاء مسار تاريخي منطقي . ولد الفكر مع الأنسان وصاحبه منذ لحظات وجوده الاولى . فعندما أحتك بالطبيعة وبظواهرها ، أجبر على أن يتألقم عندما حاول أيجاد مكانته داخلها . فكان يفكر في مسائل وجودية جوهرية مثل : سبب وجود الحياة والموت والخلود .... فصور الكون بحسب مخيلته الذهنية فوضعه في أطار سحري مجسم ومسرحي ، عندئذ ولدت الاساطير التي حاول ، من خلالها ، التعبير عن رغبته في تعليل ما يطرأ على حياته وما يحدث في الكون . مع قدوم الفلاسفة الاغريق،وفي مقدمتهم سقراط (399-470 ق.م) ، بدأعصر جديد من الفكر الانساني فحاول التعبير عن تساؤلات الانسان المصيرية عندما وضع الاساسات الاولى "للمفاهيم " مثل "الوجود" و"الحركة" و"الصيرورة" . فترك الاساطير مقللا من شأنها فرأى فيها صبيانية فكرية ومراهقة للمخيلة . ولد عندها الفكر المنظم كما نعرفه اليوم من سقراط وولد معه ما يسمى "المفكر " والفيلسوف . فتنوعت الاجوبة مع من جاء بعد سقراط من مفكرين وفلاسفة وجاءت تفسيراتهم متباينة " بل متناقضة في الكثير من الاحيان بسبب أختلاف شخصياتهم . فالفلسفة اذن حركة حيوية تنعش الفكر الانساني وتجسد قدرته على طرح الاسئلة على نفسه وعلى محيطه . أرسطو الاول (384-384 ق. م) كان يعتبر السياسة ، والفيزياء ، علم ألارض ، علم الاحياء ، وعلم الفلك كفروع لعملية البحث الفلسفي . طور اليونانيون ، من خلال تأثير سقراط وطريقته ، ثقافة فلسفية تحليلة ، تقسم الموضوع الى مكوناته لفهمها بشكل أفضل . في المقابل نجد بعض الثقافات الاخرى لم تلجأ لمثل هذا الاتجاه الفكري أو تؤكد على نفس المواضيع . ففي حين نجد الفلسفة الهندوسية لها بعض تشابهات مع الفلسفةالغربية ، لا نجد هناك كلمة مقابلة ل"فلسفة " في اللغة اليابانية ، أو الكورية أو عند الصينيين حتى القرن التاسع عشر ، على الرغم من التقاليد الفلسفية المؤسسة لمدة طويلة في حضارات الصين . فقد كان الفلاسفة الصينيون ، بشكل خاص، يستعملون تعاريـف لم تكن مسـتندة على الميزانية المشتركة (كما الحال في الفلسفة اليونانية)، لكن مجازية عادة تشير الى مواضيع عدة في نفس الوقت.

 الفلسفة بحث لا تملّـك ان مصطلح "الفلسفة" اذن مبهم عندما يفهمه البعض على انه علم وحكمة ، بالعكس ان "فيلو صوفيا" تعني باليونانية "محبة او رغبة الحكمة " في الحكمة وليست الحكمة ذاتها . هكذا يميز فيثاغورس بين الحكمة (علم) وبين الرغبة او محبتها(الفلسفة) والفيلسوف كارل ياسبرس (1883-1969) يؤكد نظرة فيثاغورس عن معنى الفلسفة . في كتابه "مدخل الى الفلسفة " ، يشدد ياسبرس على الاختلاف الموجود بين جوهر الفلسفة "كبحث" عن المعرفة ومحاولة لأمتلاكها. فالفلسفة "تخون" نفسها عندما تتحول الى عقائدية ، اي علم مثبت يعتمد صيغ جامدة وعقائد مغلقة . يتطلب من المتتبع لمسار الفلسفة الخروج الى الطرقات والبقاء دوما في حركة ،فالاجابات ليست مهمة بالنسبة الى الفلسفة بقدر الاسئلة نفسها فالاجابة تتحول بدورها الى سؤال جديد .فالبحث الفلسفي يدعو الى نوع من التواضع الحقيقي على النقيض من الموقف المتكبر للعقائدية التعصبية الجامدتين : لأن المتعصب في رأيه يزعم أحتواء الحقيقة وامتلاكها ، فلا يحتاج من بعد ، ان يبحث اكثر فيقع في تجربة فرض حقيقته على الاخر . في حالة المتعصب ، قد انحط البحث والتقصي عن الحقيقة الى ادنى درجاتهما ، حين يقع المفكر في وهم امتلاك اليقين . في حين ان الفيلسوف يجبر نفسه لتكون مسافرة في دهاليز الحقيقة ومعها وليس مالكها كالمتعصب . ينبغي على الباحث والفيلسوف التحلي بالتواضع الفكري الذي يقتضي منهما الاقرار بأنهما لا يملكان الحقيقة وليست فيهما ولكنها أمام الجميع وفي متناول من يعتبرها . فالفيلسوف ليس منشرحا وراضيا عن امتلاكه حقيقة مطلقة ولا حزين وتعيس ، وضحية المعاناة من جراء شكوك لا يمتلك أية أجوبة تجاهها ، بل هو بالأساس انسان قلق لا بالمعنى النفسي ، لكن بالمعنى الوجودي ، أي غير مكتف بما هو عليه فيبقى في بحث مستمر عن الحقيقة التي يشعر أنه معمول لأجلها.

 الفلسفة فعالية خاصة بالانسان كما ان وظيفة اليد حمل الاشياء ، والمعدة والهضم ، والرجلين التحرك والانتقال ، هكذا بالنسبة الى الفلسفة ،فهي تمثل فعالية العقل وغايته . فلو بقي الانسان بدون حركة فهو يفقد قابلية الحركة وتشل رجله هكذا بالنسبة الى العقل فيمكن أن يتحجر أن لم يستخدم . يمكن لمس أصابة الفكر بالشلل أن لم يستعمل عندما تتنتهي العطلة الصيفية في المدارس يكون من الصعب على الطالب العودة الى استعمال فكرة مرة ثانية ، لأنه قد تركه لأشهر. فكيف الحال في مجتمعات بأكملها قد تركت استعمال عقولها أو حاربتها لقرون مضت ولا زالت ؟! فبدل أن يكون فيها الأنسان منتجا (وهذه غاية الحياة) يسهم في تقدم البشرية وفي مسارها نحو كمال الانسانية ، اصبح مستهلكا فقط . ففقد، عندئذ ، اهم مكونات انسانيته ككائن مدعو لأن يتعلم ويفكر ليعرف كيف يعطي . مالذي تقدمه مجتمعاتنا لأطفالنا أو ماذا تعلمهم ؟ ان اغلب المجتمعات العربية استهلاكية ، ربت افرادها على الاستهلاك ، فقلما نجد بضاعة صنعت في بلد عربي ذات مواصفات مقبولة . لماذا ؟ الغرب مجتمع منتج عموما لأنه استعان بفكره واستثمره بشكل سليم . فاخترع كل ما بين ايدينا من اجهزة وتقنية . فالغرب يصنع لكي يتقدم الى الامام اكثر فاكثر ليغذي ديمومته ، اما مجتمعاتنا فهي تستهلك لأنها بحاجة الى امتلاك هذه المنتجات فبقيت في تبعية فكرية ومادية للغرب . فكل حضارة وقعت جل همها في الاستهلاك ستختفي يوما ما . ان كلمات المسيح واضحة في ضرورة اهتمام المرء بالحاجات الروحية والفكرية لا بالحاجات المادية والأستهلاك فقط ، لأن هذه ستنضب يوما . فمن بنى بيته على الاستهلاك قد حكم ، منذ تلك اللحظة ، عليه بالأنهيار . أين ولدت "شرعة حقوق الأنسان " ؟ لهو صحيح أن أساساتها هي من الكتاب المقدس وحتى في حضاراتنا ، وبخاصة من الادبيات القانونية النهرانية ك"مسلة حمورابي" لكن هذه الجذور بقيت طي النسيان الى أن قام الفكر الغربي بنبش تلك الادبيات فـي حضاراتنا . فالفضل يعود اليهـم في تفسير النصوص المقدسة . أننا مع الاسف قد توقفنا عن التفكير منذ زمن بعيد ، على عكس أجدادنا الفلاسفة العرب مثل أبن راشد والفارابي واباءنا السريان مثل يحيى بن عدي وحنين بن اسحاق وقبلهم مثل أفرام السرياني وغيرهم .فمن يتوقف عن الانتاج يشبه شخصا لم يعد يمتلك شيئا فيقوم باكل ما خزن قبلا في ثلاجته ، فتصبح الحال اسوأ ، عندما يستهلك حتى ما قد خزنه ، فيبدأ بالسرقة ومعاداة الاخرين . وما الاصولية والرجعية التي نشهدها في مجتمعاتنا ألا طريقة لمعاداة الاخرين ومحاولة سلبهم لما يملكون لان الاصولي شخص فقد ملكة التفكير فأفلس فكريا ولم يعد أمامه حل سوى سلب الاخر ونهبه . الانسان مدعو ، اذن، لينتج ويثمر . وكلمات المسيح تتفق جميعها على ان الانسان ينبغي ان يثمر ، فعندما يتحدث عن دخول الانسان الى غرفته للصلاة ، فهو يصف حاجة الانسان الى التفكير و التأمل في الحياة وفي حياته الشخصية بالذات لكي يمتليء من الانسانية والروحانية فيتجنب استهلاك ايمان غيره . لا يستطيع الانسان ان يعطي ان كان فارغا . في الانجيل يضع المسيح الغباء والحماقة من بين خطايا النجاسة ، اي ، كل ما يخرب طبيعة الانسان الحكيمة من الداخل ويفسدها (متى 7/22-23).لأن دعوة الانجيل مبنية على أيقاظ الانسان من الخمول والسطحية ، اي الحماقة وعدم التبصر داخل الامور . ان شبابنا المتغربين امام تجربة فقدان أبسط قيمهم الاجتماعية ، لأنهم تهربوا على الخنوع بسبب الدين أو بسبب الأنظمة التعسفية . فصلابة الدين وتعسف الأنظمة الحاكمة يفرغ مجتمع من نسغه ومحتواه الأنساني . فيتفاجىء الشباب العربي في الغرب أمام نوعية الحياة فيستنشق حرية لم يعرفها فيصبح فريسة تذوقهم الحرية لأول مرة ، فالكثيرون يضيعون في دهاليزها ، ويرون فيها حرية "عمل كل شيء وفي كل وقت " وهذا يفسر أرتفاع نسبة الجرائم في جالياتنا العربية فليس من المدهش ارتفاع نسبة الجرائم في جالياتنا العربية . فليس من المدهش ارتفاع نسبة الألحاد بين المغتربين العرب اذ تنفسوا الصعداء عندما بلغوا بلدا غير عربي ، وأبتعدوا عن تعسفية أنظمة حاكمة وكابحة لحرية الفرد. فأول ما يبحثون عنه هو كسر أقرب قيد له أو التخلي عنه : الدين والسياسة.

تناقض الأنظمة الفلسفية كل مفكر يدل برأيه في الفكر وفي خبرته الشخصية ليشرح الوجود . فنشأ التناقض في الأنظمة الفلسفية بسبب تباين التفسيرات ، والتاريخ شاهد على التناقض . فمن الفلاسفة من حاول أن يدحض ما جاء قبله ، فوجه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1973) مثلا، في مقدمة كتابه "الكون والزمن " (1927) ، نقدا الى الفلسفة القديمة بسبب انشغالها بالمسائل الثانوية وتركها "طرح تساؤل الوجود" و "عن معنى الانسان ان يكون موجودا " . مع هذا ، فقد استمرت الفلسفة مع مفكرين اخرين ، فكل فيلسوف يشبه فنانا يضيف على الفكر مما لديه ، معبرا عن تساؤل الفلسفة الأساسي ، على طريقته الخاصة . هل ينبغي عد الفلسفة بالنهاية ، أشبه بعملية "اجترار " لنفس التساؤل ؟ ليست الجدالات والنقاشات بين الفلاسفة والمفكرين عقيمة وتقود الى الشكاكية والسفسطائية ، لكن تمرين للروح والعقل . فأصالة الفيلسوف تكمن في قدرته لا على تقديم حقائق ثابتة في عقدانية خانقة ، بقدر ما تدفع خبرته الاخرين لكي يتبنوا شاغله . ونذكر عبارات كانطا بهذا الخصوص : " لايوجد فلسفة بمقدورها أن تعلمنا حقائق لأننا لا نتعلم شيئا سوى أن نتفلسف ؟" أي ان الفلسفة تكشف جزءا من طبيعة الأنسان عندما "يتفلسف".

لسطحية والغباء ، خطيئة أصلية الفلسفة اذن محاولة محاربة السطحية التي تقود دائما الى أحكام متسرعة تؤذي الاخرين . ماالسطحية سوى تقاعس الانسان وأبتعاده عن ما هو مدعو لأن يعيشه ، كان الفيلسوف الفرنسي عمانوئيل مونييه (1905-1950) يصف هذا التقاعس وعدم الرغبة في البحث عن الحكمة في الحياة ك"خطيئة أصلية " تولد مع الانسان وترافقه طوال حياته ، تهدده في كل حين ، وأن لم يحاربها فستفسد طبيعتـه ، فيقول مونييه :"هناك خـطيئة اصلية فلسفية ليس مضمونها مقتصرا على الفلاسفة ، بل يرتكبها كل شخص يلجأ الى الطمأنينة (والكسل) ، فيتقاعس الضمير النكرة (قيل أو قال ) لا يقبل مصيره بوضوح و شجاعة " . الخطيئة الأصلية اذن هي كل ما يجعل من الانسان عبدا لنزواته فيستبعد الاخر ، فلا ينظر اليه الا كشيء يستعمله لفترة ويرميه بعد حين . بل قد تظهر حالة التقاعس عندما يفقد شخص ما الامل في الحياة فيقلل من قدرة الاخرين على مساعدته . هكذا فالخطيئة الاصلية رفض قاطع للتقدم ، أي أنها أساسا ضد طبيعة الانسان المدعو الى التحرك الى الامام وهي سوء استعمال الشخص لمواهبه وطاقاته فيوجهها الى اهتمامات اخرى غير خدمة الاخرين في المجتمع . لذا فالخطيئة الأصلية خطر باطني يمكن تلافيه عندما يمسك الشخص بزمام المسؤولية المقاسمة ويرى فيها ضرورة لبناء مجتمع ملؤه أشخاص واعين . فالهرب أمام المسؤولية أن يأخذ شكلا أخر عندما يحتمي وراء رتابة الأنظمة (وحتى الأديان ) وخمولها . فيمكن لمجتمعات بكاملها أن تخضع لخطيئة التهرب فتحيط أعضاءها برفاهة نفسية جماعية ، فتبتعد عن ما هو شخصي قاتلة في الوقت عينه حيويته الفردية . أليست مجتمعاتنا الكسولة والمستهلكة والتعود والتبعية تحت نير خطيئة كبيرة عندما تعيش ضمن نمطية قاتلة وخادعة ؟ كل نظام سياسي أو ديانة ، ترك التفكير بحكمة ، يعجز عندها عن الأجابة عن تساؤلات الناس ، فيقوم بالاختباء وراء أنظمة جامدة ومبادىء جافة ، لم تعد تنتج ثمرا بل تفرز سموما كالخوف والارضاخ الشمولي الذي ينتهي به المطاف الى ممارسة العنف بأشكاله كافة . فمقياس الحياة الحقيقية ليس في كمية الهواء الذي تنفسه الشخص أو السنوات التي عاشها لكن في قدرته على تنفس الحرية وعيشها . فالفكر يبني قناعة لدى الأنسان بضرورة التقدم الى الأمام فهو الذي يملك لجام الحرية الجامحة ، فيسيطر عليها ، ويجعلها حرية ترى فتتعامل ، تسند فتبني ، لا تخبط أعمى يسحق كل ما يلامسه.

 الخير العام غاية الفكر الحقيقي يعتقد البعض أن الفكر سلاحا "ذو حدين" ، يبني (التقدم ورفع المستوى الاجتماعي ) ، أو يدمر (حروب قتل ومذابح منظمة ومعمولة بمكر . لكن لا ينبغي أن يقع المرء في هذه الثنائية العقيمة لأنها تقلل من شأن الفكر ومكانته ، فهو ليس أداة ، نستعملها كما يحلو لنا ، خاضعة لمزاجيات وتقلبات داخلية ، بل ملكة تجعل من الكائن البشري انسانا ، أي تميزه فرادة وجودة عن باقي الموجودات بما فيها الاقرب ألينا ، أي الحيوانات . فالفيلسوف (الحكيم) المخلص للحياة وللفكر ، يسعى الى البناء دوما . فالفكر ليس مضرا لأنه جزء من طبيعة الانسان ، يعتمد عليها . فلو كان الانسان محبا للخير فالفكر لديه يتجلى في أروع صوره ويبحث دوما عن البناء ، فالمحبة بناءة دوما ، هناك أواصر وثيقة بين حب الحكمة (المعرفة ) والمحبة . أما اذا استعملت قابلية الفكر لغاية دنيئة ، أي تؤذي الشخص نفسه أو الاخرين ، فلا يمكن ان نطلق عليها فكرا خبثا . فالفكر دائما خير . أوصى الله أدم ليستعمل فكره وينظم العالم والمخلوقات . عندما يمسي ادم كل مخلوق ، فهو يرتب الخليقة كلها بفكره .في اليوم السادس بعدما خلق الله الانسان ، أوصاه قائلا : "أنموا وأكثروا وأملئوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وطير السماء " (تك 1/28). كانت خطيئة أدم انه أساء استعمال قدرته على التفكير وشوهها محولا اياها الى أداة تملك . فالاستعمال الخاطيء لاي شيء يؤول الى المشاكل. ان اللهطلب من الانسان أن يلتزم تجاه قدرته الفكرية ويستعملها بشكل لائق ، لكن أدم ، بدل أن ينظم ما حوله ، حولها الى كسل وتعود ، فالتملك هو تكديس ، وينطبق على الفكر أيضا ، فالفكر كأشياء مخزونة طويلا يرفض المرء أخراجه واستعماله فيفسد!

      النمطية هناك مرض الفكر أو مرض الفلسفة ، وهو "التعود " ، يقود الأنسان الى الأحتماء وراء نظام أو نمط فيسبب بطريقة أكثر خادعة الى رفض التزام الأنسان بمسؤولية وجود الأخرين حوله. فيطلق الفيلسوف عمانوئيل مونييه صفة "تقاعس". هذه الحالة تمثل نحيا قطعيا أمام أحداث الحياة اليومية . فالنظام المغلق يمثل ملجأ يناقض الألتزام . لذا كان مونييه واعيا على خطورة قولبة الانسان داخل الانظمة ، فنراه يستعمل في مؤلفاته كلمات قاسية ليصف بها الشخص الذي لا يجابهها ، مثل "صراع" ، و"معركة" . سواء كان التصرف نمطيا أو تعودا، فكلاهما يحولان دون دخول المرء معترك الحياة الفاعلة فيوهمناه بوجود ما يشده بالعالم والمجتمع لكن ذلك ليس سوى وهما وأفتراضا. فالنمط أو التعود، وجهان للعملة نفسها "حالة الخطيئة" التي تمثل "خيانة" الانسان نفسه والعالم . أما لجوء مونييه الى استعمال كلمة "أصيلة" وهو تعبير لاهوتي روج له القديس أغسطينوس(345-430) ثم تبناها الكاثوليك الغربيون خصوصا )لأنها مع وجود كل أنسان منذ ولادته وترافقه على الدوام وتظهر في تصرفاته . فالخطيئة عبارة عن "خلل"في الوجود وتهرب من مجابهة الحياة .على غرار التعود ،يضع الانسان الخاضع للنمطية وللروتين جل عناية في بلوغ أقصى مستوى من السكون والطمانينة ، فينظر بسلبية الى كل ما هو مقلق وما يدعو الى التفكير والى القلق أمرا سلبيا لأنه يعبر عن عدم ارتياح ، لا بالمعنى النفسي كمرض لكن بالمعنى الوجودي أي عندما لا يسعى الانسان الى التساؤل عن معنى الحياة : "لماذا نحن موجودون ؟" ولتفادي ذلك القلق ، يحيط الانسان نفسه بشتى وسائل الامان الزائفة كمخدر ومسكن وقتي ، فيكبت أكثر فأكثر قلق الانسان . استنتج عمانوئيل مونييه من تحليله لحالة الانسان الغربي ، أنه مهما كانت أنظمته قوية وأنماط مجتمعه تحقق له الطمأنينة ، لكن سيأتي يوم تكتسح قوة القلق الوجودي كل الحواجز الكاذبة والاطر التي تنصبها الأنظمة السياسية . لان مفعول التخدير وقتي لا يدوم ، وحالما ينتهي مفعوله تتساقط تلك الأنظمة . فلا يكفي أذن ، اخماد قلق الوجود فيه كي يصبح الانسان بمنأى عن تقلبات الزمن وجريانه . فالنمطية والخمول يحولان الانسان من كائن مستقبل الى غير فعال.

خلاصة

عندما يرى الفيلسوف في الفلسفة ضرورة حيوية البحث نفسه ، يتجنب عندئذ عدها قابلية تملك ، فالعمل الفلسفي يأخذ معنى جديدا ويصبح مرادفا للنشاط الفكري . فالتفكير لدى الفيلسوف أشبه بحركة رجوع نحو الداخل ، عن طريقها يعيد طرح حقيقة المعرفة التي يمتلكها . فواقع الحياة والخبرة الناتجة منه تضع أمام المرء كما هائلا من الاراء والافكار . فممارسة مهنة مثلا ، أو امتلاك المعرفة العلمية تساعد على التعامل مع مفاهيم أخرى أكثر دقة و شمولية ، فمهما وفرت كل هذه الميادين من خبرة حياتية عميقة لا يمكنها ، في أي حال من الاحوال ، أن تحل محل الفلسفة ، فمكانة الفلسفة تبقى هي هي ، مرافقة الانسان في بحثه عن معنى وجوده كي يقوم بمسؤولياته بشكل أفضل . وهذه المهمة لا يمكن لأي ميدان، تقنيا كان أم علميا أن يقوم بأدائها.

المصادر:

1)مؤلفات مونييه ، ج 3 ، مدخل الى المذاهب الوجودية . دار النشر سويي ، باريس، 1947.

 2) أميل برهييه ، تاريخ الفلسفة ، ج 1 ، تر . جورج طرابيشي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1982

3)معجم الفلاسفة ، جورج طرابيشي.

 4) المعجم الفلسفي ، جورج طرابيشي ، ج 1و2 .

 

 

الذهاب إلى أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة