ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

مجـلة صـدى النهريــن - العدد العاشر / كانون الأول 2009

                                                                                                                                     

اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

طفــل وســلام...

الخورأسقف بيوس قاشا

 

 

        تتغير الوجوه وتنتقل القوة من ناحية إلى أخرى ... عظمة بشرية تزول وأخرى تنشأ ... حروب تخفق وحروب تصيب ... شعوب ترقى وأخرى تُفرَّق ... أجيال تطوي أجيالاً ... دول تُمحى من الوجود وأخرى تُبنى على جماجم الأبرياء ... حضارات تُداس بأقدام الغزاة والمحتلين وثقافات تُرمى أوراقُها على حافة الطرق ... تضيع الحياة من أجل حياة ... وفي هذه كلها لا زال الميلاد هو هو ... في البدء وبالأمس كان، واليوم هو، وغداً سيكون ... هكذا يقول مار بولس:"هو هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عبر 1:18).

        ميلادُ طفل المغارة _ عيسى الحي _ بولادته بدّل التاريخ مرة واحدة وغيّر وجه العالم، وأحداثُ العالم مهما تفاقمت ومهما ربطنا بها مصيرَ الزمن والتاريخ تبقى محطةً عابرة، تكتبُ قصتَها نسبيةُ الإنسان، فيما قصة ميلاد يسوع المسيح كتبها الله في مسيرةِ تجلّيه للإنسان عبر تاريخ الخلاص وهي ثابتة ولا تتغير. فالحرب تشوّه طيبةَ القلب، والشرّ يبدّل براءةَ وجهِ الإنسان، والإنسانية تنجبُ الفراغ، وبكبريائها تدفعُ إلى وحدة الموت ... ولكن الميلاد هو هو معينُ محبةٍ لا ينضب، بلا حدود، فهو مَلِكٌ وينبوعٌ لكلّ مَن يقصد طفلَ الفقراء ... طفلَ المذود ... طفلَ المغارة ... ليكون طالباً في أكاديمية الحياة التي عميدها فقيرُ الزمن وغنيُّ السماء يسوعُ المسيح.


        في تلك الليلة، منذ ألفي عام، وفي مغارة صغيرة، ولد ملك الملوك، فسقطت التيجانُ من على رؤوس ملوك الزمان، ربُّ الأرباب، ليَخزي أغنياءَ السياسة والحروب بفقره، والمتكبّرين وأصحابَ الكراسي بتواضعه ... خالفَ سلطانَ البشر فحرَّرنا من العبودية، عبوديةِ الخطيئة والموت، بعكس أولئك الذين يحتلّون شعوباً ودولاً لتدميرها ولمصالحها الأنانية ... مات من أجلنا، ومنذ موته تعيش الحياة، ووجهه يشرق فينا عبر ميلادِه وميلادُنا باسمه من جرن عمادنا ... منذ ولادةُ طفلِ المغارة مرّت عصورٌ، وغابت وجوهٌ، وتبدّلت معالمٌ، وسادت غياهبُ النسيان، وبقي تاريخُ ميلادِه محطةً، بل آيةً، بل قبلةً يعجز المرءُ _ مؤمناً كان أم غيرَ مؤمنٍ _ عن تخطّيها والوقوفِ غير مبالٍ أمامَها ومنها بـدأ التاريخ إنسانيةً جديدة، تسير _ شاءت أم لم تشأ _ نحو الملكوت، لأن مصيرَ المسكونة رُسِمَ في تلك الليلة العجيبة في بيت لحم، ولا يظننَ إنسانٌ على إنه قادر على تبديل منحى التاريخ، لأن الله إختـار خلاص البشر لا هلاكهم، وانتصار المحبة على البغض والحقد والكراهية والعنصرية والنسبية التي عشعشت في قلوبِ خلائقِ الدنيا من أجلِ غاياتٍ وغايات. فالبشر يرسمون أنفسَهم قضاةً وحكّاماً على أناس أبرياء لا حول لهم ولا قوة إلا كونَهم مسالمين، لأن إيمانهم هكذا أراد، لأنهم أبناء الله بالعماد. نعم، إختار اللهُ سلاماً وليس حرباً، خيراً للناس وليس شراً وشعوذة.


        فاليوم، ولد لنا إبنٌ، أُعطي لنا ولد (اشعيا 9:5) ... ولد لبشر زماننا حاملاً الخلاص، حاملاً الفرح والسلام ليس لأبناء بيتَ لحمَ فقط بل للجميع ... جاء ليقود خطانا على درب السلام هذا ... أليس هذا فرحٌ عظيمٌ للعالم كلهِ؟ ... أليست السماءُ منزّلة بكتب الأنبياء؟ ... أليست مسكنَه؟ ... ألم تقل آياتُ كتبنا أن المسيح آتٍ فآمنوا به لتكون لكم الحياة؟ ... أليست هذه دعوةُ الفرح، إذ أن نورَ الله _ النور الحقيقي _ أشرق على علياء السماء فعجزت ظلمةُ الأرض عن تعتيمه؟ ... ورغم صمت المذود وسكوت مريم ويوسف والرعاة، أطلقت ملائكة السماء ترتيلة لا زالت تعيش في أعماقنا وسطور حياتنا ... ومَن منّا رتّلت له السماء يومَ مولده؟ ... أليست الترتيلة علامةَ العظمة بفقره، وعلامة الملوكية بمذوده، وعلامة العطاء بتواضعه؟.


        أعزائي الكرام، اليوم نعيش في عالم لا شفقة فيه، حيث يشعر البشر أكثر فأكثر بأنهم مخدوعون، والوقت والسياسة والمال يمارسون هيمنة عديمة الرحمة ... في هذا العالم العديم الشفقة ظهرت نعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع الناس، فكان رحماناً رحيماً، رؤوفاً، طويلَ الأناة، كثيرَ المراحم والوفاء، أتى ليسكن بيننا، ليحررنا من سلطان العبودية، وبنعمته يحطّم منطقَ الإنتقام، ويعطي الحياة بسخاءٍ كبير، فيسامح الذين غدروه، ويقبّل الذين إحتقروه، ويبني مع الآخر مسكناً شبيهاً بمغارة الوليد _ مغارةِ بيتَ لحم _ ويحوّل عقليّتَه وقوّتَه من ساحة حرب إلى واحة سلام، ليجعل من بحر الشقاء وسكب الدماء فسحةً للسماء، فيها طيرنا يغنّي غناءْ ... وإنسانُنا يرتّلُ دون عناءْ ... وهواءنا يهبّ حيث يشاءْ ... فيكون الله فينا ومنّا وبيننا، ليعيش كلٌّ في سلام وصفاء ... وما أجمل هذه الأجواء.


        أعزائي ... إن رسالةَ المسيح المتجسد هي مفتاحٌ لسرّ الإنسان، وهذه الحقيقة علّمنا إياها نبيُّ الرجاء وخادمُ الله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته "فادي الإنسان"، قال: إن الله بتجسده أضفى على الحياة البشرية بُعداً ثابتاً وفقاً لمحبته ورحمته، وقد فعلَ ذلك بكل سخاء ... نعم، اليوم ولد لنا مخلّصٌ ... بشرى تزفّها السماء لأرض الشقاء ... أجل، في شقاء المذود نجد عينَ الإيمان، وقدرةَ الله وحكمتَه، وخلاصَه، ولكي يكون الميلاد عيداً علينا أن ننظر إلى صاحب العيد، وإذا كان صاحب العيد بعيد يبقى العيد بعيد ... ومع صاحب العيد تكمن العظمة في الإنسان وليس في ظروفه ... أنظروا، ما الذي أبعد الإنسان عن السلام؟ ... أليس هو الذي يجلس في قصور فخيمة؟ ... ومَن هو الإنسان الذي يحقق السلام؟ ... أليس الفقراء والمساكين والذين وجودُهم في زوايا هم يستطيعون أن يؤمّنوا السلام؟ ... فالفقراء والبؤساء والبسطاء، بولادة فقير المغارة، أصبحوا خميرة للسلام ولا أجمل!.


  واليوم ... أين هو الميلاد؟ ...


        مسيحيو العالم يتهيأون كل عام _ في مثل هذا اليوم _ للإحتفال بميلاد المخلّص ... وإحتفالاتنا منذ سنين _ هنا في العراق _ إحتفال ديني حزين بسبب نزاعات دائرة في منطقتنا الشرق أوسطية ... أنظروا الأرض المقدسة، أصبحت اليوم بلا سكانها الأصليين بسبب الإحتلال غير المقبول! ... أنظروا إلى العالم، أليس هو ساحة حرب ودمار ... بشر يأكل بشراً ... غزاةٌ يدمّرون بلداناً ... مصلحيون يفتشون عن أنانيتهم! ... أين أصبحنا من رسالة الأنبياء؟ ... لماذا نقرأ كتبَ السماء ... هل لنبشّر بأنفسنا عظماء أم لنكون فقراء أمام رب السماء، وأغنياء برحمته، وبعطائه بسخاء، فنقدم لعراقنا الجريح كل نصيحة ودواء، ونضمّد جراح المصابين والبؤساء؟ ... وإلى متى يبقى أبناء البلد الغني فقراء؟ ... أليس الوطن كله لرجاله وللنساء؟ ... أليس الوطنُ أمانةً في أعناقنا، وشعبُه نحن عليه موكَلون لنكون معه أمناء، فنعطيه الأكل والشرب والغذاء، ساعة يدعونا يجدنا، ومتى يشاء؟ ... والمسيح _ عيسى الحي _ أليس هو رب الأموات والأحياء؟ ... ألا يدعونا اليوم في ميلاده إلى أن نتكاتف _ نحن المسيحيون الطيبون المسالمون والمحبّون لكل فئات أبناء الوطن، مسلمين وصابئة وإيزيديين _ ونعمل كلنا جاهدين، مسامحين، غفورين بعضنا لبعض، لكي نُرضي رب السماء. فلا معنى للصلاة إنْ كانت صلاة أولاد آدم، صلاة شفهية، كبريائية، أنانية، خالية من روح التواضع والمحبة وحب الآخر واحترام حرية الإيمان وممارسة العبادة بكل حقوقها ... فالمسيح جاء ليُحيي الإنسان لا ليقتله ... هل يجوز نحن أن نقتل الأبرياء؟ ... هل نحن أصبح إسمنا قائين؟ ... وإلى متى يبقى بلدنا هابيل؟ ... أليس في عملنا هذا قد قتلنا الطفل الوليد الذي أتانا من السماء، وأعلنت لنا ملائكته مجداً لله في العلى وعلى البسيطة السلام والبقاء والمسرّة الصالحة لبني البشر والأبناء الأحبّاء؟.

        نعم أعزائي الكرام ... لقد دعا البابا بندكتس السادس عشر إلى لقاء مع مختلف الأديان وخاصة مع أبناء الديانة الإسلامية لتوحيد الجهود من أجل عدم تدمير الإنسانية، بل العيش المشترك عبر ثقافات حضارية مشتركة، وبناءِ جسورٍ وتعبيدِ طرقٍ للسير عبر الزمان بكل أمان، لأنه هكذا توصينا الأديان، يقول بندكتس السادس عشر ... فالديانة قد شكّلت اليوم العامل الأعظم في حياة البشر، حتى عندما تصبح غير مقبولة بتحوّلها إلى السياسة، وتصبح غير مقبولة أكثر عندما تصبح السياسة ديناً ... نحن مع وليد المغارة يسوع المسيح، نمدّ أيدينا إلى إخوتنا المسلمين في هذا البلد الجريح ... كنا ولا زلنا وسنبقى أبناء مخلصين، أمناء، أوفياء لجارنا، لوطننا، لأرضنا، لترابنا ... داعين أبناءنا عدم الرحيل، فالبلد يحتاج إلى الجميع، وكفانا ما سكبنا من دماء وخسرنا من أموال زهاء ... والسماء اليوم تدعونا عبر وليدنا أن نتكاتف كلُّنا من أجل هذا الوطن، والوطن أولاً وآخراً، والإيمان يعيش في أفئدتنا وقلوبنا فيكون الوطن للجميع والدين لله ... وما أجمل حريةُ الإنسان في عبادته وكرامته ... ومن أجل هذه القِيَم جاء رسول السلام _ عيسى الحي _ يسوع الفادي _ فقير الفقراء، ليغني كل الفقراء، ويشفي جرح البؤساء، ويرفع المتواضعين والضعفاء ... فهو الذي قال:"جئتُ ليس من أجل الأصحّاء بل المرضى والأشقياء".


        يا رب، اليوم في هذا اللقاء، نحمل إليكَ يا وليد المغارة _ يا طفل السماء _ قلوبنا وأجسادنا ... طهّرها من دنسها، من الخطيئة ... أطرد عنها الحقدَ والكراهية والبغضاء، واملأها حباً وغفراناً وصفاء ... واجعلنا أن ننظر إلى الأطفال الأبرياء ... إنهم أطفالُكَ. فأطفال العراق، أعزائي، أصواتهم تدعونا، أنبقى ندفنهم أحياء؟ ... لا، لا أبداً، فالرب _ بنعمته _ اليوم بولادته، يدعونا إلى أن نجدد أنفسنا وحياتنا ورسالتنا، ونطهّر أفكارنا وأفئدتنا ... وما أطيبَ أن تكون مريم العذراء _ أمّ البشر _ أمّ الكون _ شفيعة الفقراء _ هي التي تدلّنا إلى حيث المسيح ولدَ، ومعها نجعله يولد فينا، لنكون ليس أمواتاً بل أحياءً وحاملي الضياء ... فيوحنا الرسول يقول:"فيه كانت الحياة، والحياة كانت النور" ... وكل عام وأنتم بخير ... ولد المسيح ... هاليلويا.





 

الذهاب الى اعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة