اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 حرية الغير شأنٌ مقدّس وسلوك

حضاري مطلوب

لويس اقليمس

 

  25 كانون الثاني  2019

 

          في عصر الفوضى القائمة في سلوك النظام العام للبشر وتزايد الأنانية بفعل تفضيل المصالح الشخصية والمذهبية الضيقة وفرض الرأي والمعتقد على الغير المقابل، تتعالى أصوات هادئة وعقلانية متزنة تدعو لاحترام الآخر المختلف كسلوك بشريّ مطلوب في الحياة العامة من أجل ديمومة التعايش الأخوي وبناء السلم المجتمعي بين الأفراد والجماعات المختلفة. فالمجتمعات التي تقيم وزنًا لحامل الفكر الآخر المختلف في الرأي والرؤية وفي الدّين والعقيدة وفي البشرة والعرق وفي الجنس واللون تحظى بأعلى درجات الرقيّ والتمدّن بسبب انفتاحها وقبولها بوجود هذا المختلف وبكيانه الذي يمكن أن تتخذ من اختلافه دافعًا تعزيزيًا لتقوية الأواصر المجتمعية والوطنية والعالمية ووسيلة إضافية لتعدد قنوات التفاهم والتحاور أملاً ببلوغ مجتمع متماسك نموذجيّ قادر على تجديد الحياة من دون أن يشيخ أو يتعثر بسبب التقادم في العمر والحياة. كما أنّ احترام حرية الغير والإقرار بحقوقه في المجتمعات المتقدمة تعني من جملة ما تعنيه، استقرارًا للوضع الاجتماعي وترسيخًا لمبادئ التعايش بين مكونات المجتمع وتنشيطًا للتفاعل وتبادل الرأي على أمل الحصول على مجتمع نظيف متماسك خالٍ من الكراهية عندما يضع حدودًا لكلّ أشكال التطرف والتمييز والتحريض ضدّ الآخر المختلف.

    عموم البشر قد خُلقوا ليكونوا أحرارًا لا عبيدًا، بحسب مفهوم الله الخالق كما تقرّه الأديان التوحيدية وغير التوحيدية منها. وهذا ما تعزّزه أيضًا لائحة شرعة حقوق الإنسان ومختلف المنظمات الدولية التي تعنى بهذه الحقوق وتسعى لصيانة الحريات العامة والخاصة لعموم الجنس البشري. ولأنَّ زمن الاستعباد قد ولّى، فإنّ خيارات البشر وحريتهم في التعبير والرأي والسلوك الحياتي الخاص والعام ينبغي أن تكون موضع احترام وتقدير إلاّ فيما يتجاوز على حقوق الغير الخاصة وتتقاطع مع العام فيه. وكما يقول المثل المتداول "حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر". ولكنْ لن يكون بالإمكان تحقيق هذا المستوى من النضوج في التعامل السلوكي بين البشر إلاّ من خلال سمة الانضباط والسيطرة على سطوة الجموح الكامنة في النفس البشرية، أي بعبارة أخرى عبر إيجاد صيغة للتوازن في العقل والإرادة والوسيلة البشرية المستخدمة لضمان سلوك هذا الانضباط المطلوب.

    اختلاف في الموروث وفي الثقافات

     تختلف ثقافات الدول والمجتمعات في النظرة للآخر المختلف بسبب الاختلاف في معتقدات شعوبها وتأثرها أو تطبّعها بموروثات دينية وعشائرية ومناطقية لا تخلو في الكثير من الأحيان، من حيّز واسع من الترّهات والخرافات البالية التي لم تعد صالحة في عالم اليوم. فمثل هذه النظرة قد تؤطّر نوعية هذا المجتمع أو ذاك في ضوء ما هو قائم وباقٍ من هذه الموروثات على الأرض لغاية الساعة. من هنا، ليس من المقبول إحياءُ شيء من هذه القيم القديمة البالية الموروثة والمنقولة عن أحاديث وتفاسير أملتها ظروف تاريخية في حينها وكانت لها أسبابُها وحيثياتُها ومعالجاتُها وأخرى غيرها ممّا أملته وفرضته حقبة محددة مظلمة في مسيرة حياة مجتمعات وشعوب. أمّا أن يُصار إلى انتقائية تحريضية متعمدة تشوبها الكراهية ولا تخلو من روح الانتقاص من كينونة الآخر ومن حريته ومن حقوقه الإنسانية والوطنية والمجتمعية في النظرة إلى الغير المختلف، ففي هذا شيءٌ غير مقبول بل مرفوض جملة وتفصيلاً في مدى الرؤية الصائبة إلى هذا الآخر المختلف، سواء كان فردًا في المجتمع، أو مكوّنًا ضمن مكوّنات أخرى متعايشة تاريخيًا وجغرافيًا وحياتيًا. ذلك لأنّ مثل هذه الانتقائية المؤدلجة والمنغلقة على الذات عندما لا تخضع لشيء من الانضباط الفكري والإنساني والمجتمعي والدولي على السواء، فمن شأنها أن تقضي على مشروع الحرية المشروعة للجنس البشري التي حباها الخالق مجانًا لجميع البشر من دون تمييز. وفي حالة غياب مثل هذا الانضباط في السلوك والرأي وفي التعامل البشري والأممي بين الشعوب والدول المختلفة، يُخشى من فقدان العالم لتوازنه وإغراق المجتمعات في صخب الاستغلال بعضها لبعض ومحاربة بعضها بعضًا تحت مسميات كثيرة تتاجر بالحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الأديان والمذاهب بحجة صيانتها. لقد أضحت هذه الأخيرة من بين شعارات العصر لفرض الرأي واستباحة حقوق الغير وشنّ الحروب ضدّ الأمم والشعوب والدول، بل ضدّ مجتمعات وجماعات دينية وطنية تعرّضت وماتزال تتعرّض لانتهاكات متكررة، ما جعلها في طريق الانقراض مع تقدم الأيام وتوالي السنين. ولنا في العراق والمنطقة، ما يؤكد مثل هذه المخاوف والتجاوزات المرفوضة في أشكال الانتهاكات وأنواع الإبادة التي تعرّضت لها مكونات ومجتمعات دينية وعرقية ما أدى بها إلى التناقص المفجع في أعدادها بل إلى الانقراض بسبب توالي التحريضات ضدها.

    التسامي في احترام الغير من مسلّمات المجتمعات المتحضرة

    صحيح أن الأمم والشعوب تمرّ بدورات حضارية متجددة بفعل تجدّد نسل مجتمعاتها وتلقيحها بأخرى قادمة من وراء الأسوار كلّما تسنت الفرصة لذلك. لكنَّ ما خبرته الأيام والحياة أنّ الأمم المنفتحة الذهن والمقرّة بحرية الغير وحقوقها والقادرة على استيعاب مشاكل العصر ضمن مجتمعاتها تحافظ على طراوة هذه المجتمعات وتمنح دولَها امتيازًا في النماء المتسامي دائمًا نحو الأفضل في الأمن والسلام والرفاهية وفي احترام الفرد والأسرة ومختلف المجتمعات القاطنة بين ظهرانيها. ففي مثل هذه المجتمعات يكون للإنسان قيمة وثمن، قبل أي شيء، لكونه خليقة الله الحرّة بصورته الحسنة والمباركة، وثانيًا لكونه العنصر الأساس في أيّ تطوّر، سواء كان ذلك سلبيًا من أجل التدمير والتخريب أو إيجابيًا لأجل البناء والحياة.

     تعلمُنا الحياة أن احترام الغير هو قيمة إنسانية عليا وأنَّ الإقرار بحرية الغير لا ينتقص من مهابة الشخص ولا من موقعه في المجتمع والدولة، بل يزيد من حب الناس له ومن تعلقهم بما يبدر عنه من فكر متزن وحسن سلوك ورؤية في شؤون الحياة المختلفة. قد تزيد مساحة هذا الاحترام أو تنقص وفقًا للشخص المقابل ومستوى الاستعداد للتفاعل مع هذه القيم المجتمعية الأصيلة أو المكتسبة. لكن الإنسان في ضوء سلوكه وتصرفاته هو الذي يفرض مثل هذا الاحترام على الغير، أيًا كان معتقده أو دينُه أو موقعه في المجتمع بسبب كونه سمة بشرية حباها الله لكلّ إنسان خُلق على الأرض. ومن ثمّ، لا يمكن القبول بالتمييز في تقبّل الآخر لأسباب دينية ومذهبية واجتماعية واقتصادية ومناطقية وعشائرية. فهذه الأخيرة أضحت من بين مسببات تأخر الشعوب والأمم بسبب ببقائها رهنَ سلوكيات موروثة أضحت في زمن الماضي، أو نتيجة لتأثرها بتفسيرات دينية غير محكمة منقولة بالتتابع عن الغير وهي لم تعد تصلح في زمن العولمة والانفتاح، أو بسبب رضوخها لتقاليد مجتمعية وقبلية اندرست ولا يمكن العمل بها بعد اليوم في ظلّ قيام نظام دوليّ متطور قائم على القانون والنظام والمساواة والعدالة التي تفتقر إليها مجتمعاتُنا ومؤسساتُنا الحكومية والدينية لغاية الساعة.

     من المعيب، فيما العالم غائص في عولمة القرن الحادي والعشرين ويشهد لتطور تقنيات روبوتية قد تحلّ مقام الإنسان في بعض فعالياته البشرية الحيوية، أن يقبل البعض بعودة عقارب الساعة إلى الوراء وبإحياء فتاوى ظلامية أو أحاديث سوداوية عفا عليها الزمن تحث وتحرّض على الكراهية وعلى قتال المختلفين في الدين عن دين الأغلبية ورفضهم وعدم مشاركتهم مناسباتهم ومظاهرَهم الاحتفالية بالرغم من لجوء نفر من هؤلاء المحرّضين وناكري وجود الآخر لاستخدامات تجارب هذا الآخر المرفوض من قبلهم والتمتع بتقنياته المتطورة. ففي هذا تناقض عقيم لا يستوي فيه العقل الناضج وصاحب الفكر المنفتح مع إرادات الشر التي يستكنّ إليها هؤلاء النفر الشاذ الذي مازال يعيش في سبات القرون المظلمة.

     من هنا تستوجب مثل هذه الحالات الشاذة التي تسعى بين فترة وأخرى لإثارة حساسيات دينية تمييزية في أوساط المجتمعات المتعددة بغية تهميش الآخر المختلف وإلى قتاله وتكفيره ضمن نظرة دونية تحطّ من حرية الغير وتنتهك حقوقهم في الحياة وفي اختيار المعتقد والدين الذي يرونه مناسبًا، تستوجب تكاتف المجتمع لعزلهم وإبعادهم عن تولّي مناصب مهمة في الدولة أو وظائف يمكن استغلالها في تهميش الآخر والتحريض على قتاله ورفضه متناسين أن "لا إكراه في الدين". فهل يُعقل اليوم في زمن الحريات والديمقراطية أن يتجرّأ فرد أو مَن يتولى منصبًا أو مسؤولية مجتمعية أو دينية بالتقليل والاستهانة من مواطنه الذي يشاركه الوطن والمصير ذاته، أو أن يرفض حق الحرية لأخيه في الإنسانية بسبب اختلافه عنه في الدين أو المعتقد أو الجماعة التي ينتمي إليها، أو أن يستخفّ من شأن زميله في المدرسة أو نظيره في العمل أو نديمه في المطعم أو الشارع؟

  ضوابط لصيانة الحريات

    أسئلة كثيرة بحاجة إلى تمحيص ودراسة من أجل إيجاد حلول مقبولة شاملة ووضع قيود قاطعة ورادعة لكلّ مَن يحاول العبث بحرية الغير أو أن ينتقص من كيانه. فالحرية الشخصية والدينية كما الحق في الرأي والتعبير وفي اختيار شكل الحياة ونمط العيش تبقى من ضمن الممتلكات المقدسة للفرد والجماعة، ومن المحظور المساس بها إلاّ إذا تجاوزت حدود السلوكيات العامة وتعدّت حق الآخر في اختيار طريقه ونمط حياته وشكل معتقده وفلسفته في الحياة.

     وبالنتيجة كلّ شيء خاضع للسلوك الحضاري للفرد والمجتمع أو لغيابه وتعطيله. إنّما شكل هذا السلوك يخضع لجملة قوانين وضوابط تعمل على صيانة الحريات واحترام التعددية لدى الآخر وبما لا يتنافى ولا يتقاطع مع الأعراف والذوق العام ولا يمس الصالح المشترك للمجتمع والدولة. وسيبقى مثل هذا السلوك جزءً جوهريًا معبّرًا عن طبيعة ثقافة الفرد والمجتمع والدولة في متلازمة ثلاثية رابعُها الوعي الدينيّ الناضج وروّادُه من المعتدلين من أحباب الله ومن خلقه المتزن المتكاثر كرمل البحار والأنهار.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة