اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 سرطان الفساد ومحاسبة الأدوات

لويس اقليمس

 

   16 تشرين الاول 2018

 

   لم يأخذ ملف الفساد، المالي والإداري بخاصة، في العراق ما يستحقه تمامًا من إجراءات رادعة وصارمة في كشف المستور وتبيان الفضائح، ليس في صفوف الساسة فحسب بل في مفاصل الدولة الإدارية برمتها من دون استثناءات. فالملفات التي هدّد البعض ممّن في أعلى السلطة التنفيذية بكشفها في مناسبات كلّما اشتدّت فيها ألوان الخلافات بين الشركاء الأعداء، أو تلك التي ماتزال ملفاتُها تركن على رفوف القضاء المتماهي والمراوغ، ماتزال مثار حديث الشارع الساخن الذي ينتظر ويبحث عمّن سيقلب الطاولة في لحظة غضب وطني أو شعور بنخس الضمير المستغرق في سبات عراقيّ عميق. فهذه الآفة التي تحركت كالنحلة العاملة وشوهدت تهرول وترقص في كلّ زاوية وتبحث كالسرطان في كلّ شبر في مؤسسات شبه الدولة التي أدارتها منذ السقوط المأساوي على أيدي الغازي الأمريكي وأعوانه، ماتزال فاعلة حتى في أحلك الظروف التي تمرّ بها البلاد وبالذات بعد فصل الانتخابات التشريعية المأساوي بحيثياته ونتائجه وبالمستقبل الغامض الذي ينتظره العامة من السلطات التي سينتجها البرلمان الجديد.

   إنّ الأساس الذي تبنى عليه ديمقراطيات العالم، ليبرالية كانت أم علمانية أم شعبية أو ما سواها من الأشكال، يشير إلى سلطة الشعب في اختيار ممثليه، أي أنْ يكون الشعب هو مصدر السلطة. وهذا في اعتقادي قد ينطبق على البلدان المتحضرة حصرًا حيث يقظة الشعب الرقابية على أداء الدولة وأركانها، وعبر معارضة قوية فاعلة تعي ما تفعله وما يترتب عليها من واجب وطني وشعبي مسؤول. أمّا في منطقتنا العربية ودولنا الإسلامية، والعراق من ضمن صفوفها، فمثل هذا المبدأ ما يزال بعيد التطبيق بسبب ضعف الوعي الجماهيري، وضعف الرصانة في مراقبة أداء الحكومات والسياسيين، ورفض أحزاب السلطة التخلّي عن مفهوم التوافق المدمّر المعتمد على اقتسام الثروة والسلطة بطرق غير مشروعة، إضافة إلى أدوات المحسوبية والمنسوبية والمجاملات والصفقات التي تجري من تحت الكراسي وعلى المناضد من دون ملاحقة ولا محاسبة. وهذا ما شهدناه في أحدث تجربة "ديمقراطية" في البلاد حينما عزف أكثر من ثلاثة أرباع الشعب عن المشاركة في الانتخابات التشريعية في أيار 2018 بسبب حالة الياس والقنوط التي أخذت مأخذها عبر فعاليات سابقة ولم تسفر عن تغييرات في الحياة العامة ولا في الخدمات ولا في حماية المال العام والحفاظ على ثروات البلاد من السرقة والسطو بكلّ الأشكال والوسائل عن طريق أحزاب السلطة التي ماتزال تراهن وتتمسك بسياسة المشاركة في السلطة عبر التوافق والتحاصص في إجراءٍ احترازيّ للبقاء فيها قدر ما ساتطاعت من أجل تحاشي المحاسبة والاقتصاص. فمعظم طبقات الشعب العراقي ما تزال من السذاجة وضعف الوعي ما يجعل استمرار بقائها فريسة للمخادعين من قبل ساسة أحزاب السلطة الذين يجيدون ترويضهم وخداعهم بمسميات دينية ومذهبية وطائفية وعرقية وعشائرية. وبالرغم من استفاقة البعض، كما عبّرت عنها الانتفاضة البصراوية الأخيرة ومناطق غيرها بعد تجارب مأساوية متكررة في النتائج والأفعال وواقع الحال، إلاّ أنَّ الفأس ما يزال واقعًا في الرأس، و"كأنّك يا أبا زيد ما غزيت"!

  السؤال المحيّر والمريب في آنٍ معًا، لماذا تلكّأت جهات في السلطة، القضائية والتشريعية والتنفيذية كانت لها قوتُها وصلاحيتُها ودعمُها الشعبي والمرجعي والشارعي والثقافي، وأخفقت في وضع حدّ للكمّ الهائل من أدوات الفساد والشخوص والأيادي القذرة وأصحاب الضمائر الميتة التي خانت الوطن وضربت عرض الحائط بأمنيات الشارع الذي بقي مكتويًا بنيران هذه الأدوات السياسية والإدارية؟ والإجابة بسيطة في نظر المراقب اللبيب والمتتبع لحركة الفساد وأدواته، وهي ممكنة التلخيص بكون "الكلّ مثل الكلّ" في السلطة، مشارك ومؤازر ومستفيد ومستنفع من الوضع القائم وفق منهج المحاصصة المعتمد منذ عقد ونصفه. فالسارق لا يقوى على الاعتراف بجريرته طالما كان حرًّا طليقًا ويجد في أركان السلطة مَن يحميه ويبرّر فعلتَه أو يشاركه أو يتسترُ على أفعاله وسرقاته وخدعه في العمل. وحينما يجد قوّة أقدرَ منه على حمله للاعتراف بما سرقه ووضعَ يدَه عليه من دون وجه حق أو بالحيلة أو الغش، حينئذٍ فقط يمكن وضع حدود جازمة على كلّ مَن تسوّلُ له نفسُه العبث بمقدّرات الدولة وثروات البلاد لكونها من حق الشعب وليس للحكّام ووعاظ السلاطين ولصوص الليل والنهار من أحزاب السلطة، لاسيّما تلك التي تتستر بأذيال الدين وتتاجر باسم الفقراء ومآسيهم وترقص على جراحاتهم اليومية بعباءة دينية وطائفية ومذهبية بحيث جعلت شعب العراق في الحضيض بين شعوب العالم تُداس كرامتهم بعد أن كانوا بالأمس اسياد الحضارة وأركانها لحقب مختلفة.

   مَن يكشف الفساد ومَن يحاسب عليه

  ليس كافيًا أن نسمع مَن يلوّح بأصابعه بكشف أركان الفساد وأدواته ولا يطيق فعل شيء إزاء آفة سرطانية نخرت جسد البلاد والحكومة واستنفذت مواردَ الميزانية الريعية بل زات من المديونيه كي ترهنَ مستقبل الأجيال القادمة التي لم تولد بعد، بحيث تم تقييد البلاد بأغلال الديون والقروض التي لا طائل من ورائها سوى تكبيل اقتصاد البلاد وارتهانها بالدول التي تقدّمها. وهناك تخوّفات أن يتحول مصير جزء كبير من هذه القروض والديون والمساعدات لتجد طريقها إلى جيوب أحزاب السلطة كما في سابقاتها.

  وهذا ما حصل وما طرق أسماعَنا بمطالبة جهات معينة بحقها في جزء منها لصالح مؤسساتها أو وزاراتها أو حتى أقاليمها. ومن المؤسف حقًا، أن يتجاوز الفساد المواردَ الريعية ليطال المساعدات والقروض والديون، إن صحّ مثل الكلام. لقد كشفت رسالة المرجعية العليا، الحريصة على ثروات الشعب وموارد البلاد في شقها "الإعلامي" في الأقلّ، عن تخوّفات وتسريبات أنباء عن حالة ميؤوس منها في حالة استمرار ذات الوجوه في قيادة السلطة في البلاد. فعبارة "المجرَّب لا يجرّب"، واضحة في دلالاتها، وقاصمة في ردعها، ومتشكية من الوضع القائم منذ أكثر من 15 عامًا من الحكم الفاسد، ومنتقدة للأحزاب الفاشلة التي حكمت وماتزال من دون الرسو إلى ميناء الأمان وخدمة الشعب وتثبيت الأمن والاستقرار. فالتظاهرات التي شهدتها مدن الجنوب الغنية بثرواتها والفقيرة في خدماتها ومشاريعها، إلى جانب مختلف الجرائم وحالات الاغتيال التي طالت نفوسًا بريئة في الأسابيع والأيام القليلة المنصرمة، كلها تنذر بشؤم متواصل حول حالة اليأس والقنوط التي توشحَ بها المجتمع في عموم البلاد. فلا صاحبة الجمال والأناقة نجت من المطاردة والقتل، ولا صاحب الراي الحرّ والتعبير وجد نافذة للترويح عن النفس والنجاة من الملاحقة، ولا منتقد الأحزاب والميليشيات السائبة بدأ يشعر بالأمان والاطمئنان. وهذا بطبيعة الحال بسبب استمرار حكم أحزاب السلطة التي جرّبت الحكم وفشلت، ولكنها ما تزال متمسكة بتلابيبها بأسنانها وأرجلها وأياديها، خوفًا من كشف عوراتها وفضح سرقاتها والذهاب بها إلى القضاء العادل عندما يستيقظ هذا الأخير من غفوته ويتسلّم زمام المبادرة في محاسبة أهل الفساد من دون خوفٍ من أدوات السلطة وأحزابها التي عليها ملفات فساد تنتظر فتحها من جهة وطنية شجاعة لا تخشى قهر أركان الظلم والفساد. فالملفات جاهزة لدى الجميع، والكلّ مثل الكلّ متهيّء لتقديمها للقضاء إنْ بقصد المقايضة او المساومة أو بدافع النكاية والانتقام أو لأسباب أخرى في نفس عيسو!

   ما من شكّ، أنّ مَن يتردّد في كشف الفساد وأدواته وشخوصه وكذا في تسمية الأشياء بمسمياتها، وهو في موقع المسؤولية التنفيذية والتشريعية والقضائية أو حتى المعنوية والأدبية من دون لفّ ولا دوران ولا مجاملة ولا تهاون في سبيل أداء الواجب الوطني، يكون بالتأكيد شريكًا وربيبًا وحاميًا وداعمًا لصانعه وفاعله على السواء. وإلاّ ما السرّ في إرجاء تقديم ملفات لصوصية كشفت بعضها جهاتٌ مستقلّة وطنية وأخرى حكومية مثل سرقة ثروات نفطية، وعمليات غسيل أموال ضخمة لأحزاب في السلطة وساسة عبر مكاتبهم الاقتصادية، وكذلك الاعتداء على المال العام، ووضع اليد على ثروات البلاد السائبة وعقاراتها، والتحكم بالمنافذ الحدودية والكمارك، والتصرّف بميزانيات وزارات جعلتها أحزاب السلطة إقطاعيات ملك صرف وما شاكلها.

   لسنا هنا بصدد إلقاء اللوم على القضاء العراقي الذي لا نعرف طبيعة تشابكه مع الأحداث ومع أحزاب السلطة والحكومة ومَن يقف وراء مثل هذا السلوك غير القويم. كان الأرجح بالقضاء الذي يصل إلى سمعه خدوش أو حتى نتفٌ من رائحة هذه الملفات الفاسدة أن يبادر إلى اتخاذ ما يلزم إزاءها وعدم التردّد في تقفي آثارها والبحث عن مصادرها ووضع اليد على شخوصها ومواقعهم تأكيدًا على استقلاليته ونزاهته وعدم تأثره بمصالح أركان السلطة والأحزاب المتسلطة وزعمائها الذين يديرون دفة القضاء من خلف الكواليس. ففي الوقت الذي ندرك تمامًا حجم الضغوط التي تفرض على هذه السلطة بطريقة أو بأخرى، سواءً من جهات دولية خارجية أو أخرى داخلية قريبة من المرجعيات الدينية التي لها باعُها وتأثيرُها في توجيه سياسة البلاد، فإننا نؤكد أنّ مصلحة الوطن فوق كلّ مصلحة وأرفع من مصالح الساسة والأحزاب الدينية والطائفية والعرقية التي تدير شؤون البلاد والعباد بطريقة أقلّ ما يُقال عنها أنها فاشلة وخارج السياقات الوطنية وبعيدة عن مصالح الشعب الذي يُسيّر كالقطيع بلا راعٍ صالح! فمحاربة الفساد تكون بالأعمال وليس بالأقوال.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة