اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

مسيحيّون أمْ نصارى؟؟ (جـ 3-3)

لويس اقليمس

 

   7 شباط 2017

    تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة، إلى المقصود بلفظتي المسيحيين والنصارى وما شكلته هذه التسمية من إشكاليات في الفهم والموقف بسبب التصور الخاطئ لعقيدة أتباع المسيحية وتمسك المقابل بقصور فهمه واستيعابه للمسيحية الحقيقية، وقبول عقيدة البدعة النصرانية التي كانت سارية أيام انتشار الدين الجديد المتمثل بالاسلام.

   كما تطرقنا إلى المشتركات بين الديانات التوحيدية، وما اقتبسه الإسلام من البدعة النصرانية بما تيسر لصاحب الدبن الجديد من تلقين على يد مصدر الوحي، ورقة بن نوفل، الذي كان بين يديه نصّ الإنجيل العبراني المنقوص.

    في الجزء الثاني أتينا على ذكر ما كان سائدًا في الجزيرة العربية من بدع في عهد الإسلام، وتأثير ذلك على الحياة الاجتماعية ومجتمع البداوة فيها. في هذا الجزء الثالث والأخير، سوف أتطرق إلى مسألة طغيان تسمية النصرانية مذاك ولغاية اليوم، مع خلاصة بشرح المفاهيم غير السليمة التي تم اعتمادُها آنذاك، والتي أضحت من مقدسات الدين الجديد، بالرغم من قصورها وعدم صحتها، ما جعل كل ما يتناقض مع ما ورد في قرآن الإسلام، كفرًا وخروجًا عن دين الحق. أرجو أن أكون قد وفيتُ ونقلتُ ولو جزءً من الحقيقة، بالرغم من صراحتها ومرارتها بالنسبة للبعض غير الملمّ بحقائق التاريخ.

    طغيان تسمية النصرانية

   من المؤكد، أن كلمة النصرانية طغى استعمالُها على عهد الدين الجديد أي في العصر الإسلامي تحديدًا، للأسباب التي ذكرناها في السطور السابقة. وكما ذهبتُ إليه، مستفيدًا من النتف المتيسر من المعلومات بخصوص هذه البدعة ومثيلاتِها من الشيع الأخرى التي سادت الجزيرة العربية تحديدًا والمناطق المجاورة لها بفعل حركة التجارة ونقل الفكر والفلسفة، فقد كانت أفكارُها هي السائدة في منطقة الجزيرة العربية. والنصارى فيها، كانَ جلُّهم من يهود متنصرين إلى المسيحية، سكنوا المنطقة في يثرب والحجاز وخيبر وتيماء ومكة واليمامة ووادي القرى، إلى جانب أقرانهم من يهود قنيقاع وبني النضير وقريظة وغيرهم من الذين كانوا نزحوا عن ديارهم العبرانية الأصلية وسكنوا الجزيرة. وإنَّ عددًا من هؤلاء تنصروا مع حفاظهم على أغلب تقاليدهم اليهودية السابقة وبقائِهم على أفكارهم الناقصة عن حقيقة المسيح. فبنوا لهم شريعة جديدة مستفيدين من رهبان وقساوسة خارجين عن الطاعة في ذلك الزمن، مّمن تزعموا تلك الفرق. وهذه التسمية، أي النصرانية، لم ترد قبل ذلك الا في القرآن، بإيحاء من القس ورقة بن نوفل الذي صاحبَ رسولَ الإسلام، لكونِه عمّ السيدة خديجة زوجة الرسول محمد آنذاك. وظلَّ "ورقة" مرافقًا للرسول حتى مماته، حيث انقطع الوحي فترة، وبعدها تغيّر مسار الجماعة الجديدة وشرائعُها وطريقة التعامل مع الغير تمامًا، بعد استقوائها والهجرة إلى المدينة.

   أمّا لماذا شاع استخدام كلمة "نصرانيّ" و"نصارى" في بلدان عربية وإسلامية بالذات، ذلك لأنّ رسولَ الإسلام لم يعرف مسيحيّين حقيقيين في زمانه ولم يتعامل معهم على كونِهم أتباعَ المسيح، "مخلّصًا وإلهًا ابنَ إله"، بسبب أنَّ الشيعة أو الجماعة التي كانت قائمة آنذاك في الجزيرة العربية كانت فريقًا يهوديًا موسويًا متنصرًا خارجًا عن تعاليم العقيدة المسيحية الصحيحة، كما أسلفنا. وهذه الشيعة لم تكن تؤمن بقيم العقيدة المسيحية الحقيقية، كما أتى بها المسيح وأكملَها تلاميذُه "الحواريون" والرسل من بعدِه. فقد ثبت أتباعُها على الكثير من العادات والقيم اليهودية القديمة بحسب التلمود، ولم يتغيروا في سلوكهم، فاحتفظوا من العقيدة المسيحية بالقشور، فحسب. أي أنهم مازجوا بين اليهودية والمسيحية، بحسب الظرف والزمان. وهناك ما يشير لكون النصرانية، بدعة ناشزة وعالّة عن المسيحية أساسًا حاملةً أفكار الفرقة الأبيونية المذكورة.

    إنه وبسبب ظروف المنطقة آنذاك والأرضية الخصبة لتقبّل رياح التغيير، فقد كثر نشاط أهل هذه البدعة واتخذوا لهم منحى مغايرًا، بسبب خلافاتهم الكثيرة حول العقيدة والإيمان والإدارة مع الكنائس الرسولية المعروفة آنذاك في كلّ من أنطاكيا والقسطنطينية والإسكندرية وروما. وقد دخل هذه البدعة يهود كثيرون، كما انضوى إليها نفرٌ من رهبان قمران، بعد خراب هيكل أورشليم، ما اضطروا للهجرة إلى قريش ومكة والحجاز، بعد أن شقوا عصا الطاعة لرؤسائهم وانتهجوا خطَّ العداء والتلفيق والتزوير، حالُهم حال سائر الهرطقات التي ظهرت آنذاك بسبب انشقاقات متتالية في الكنيسة الأولى. وكان من أتباع هذه البدعة، ورقة بن نوفل الذي انتهى به الأمر أسقفًا (كبير قسس) لهذه الجماعة في مكة. فهو الذي شهد، بل قام بتزويج بنت عمه السيدة خديجة من رسول الإسلام محمد بن عبدالله، لقرابةِ عمومةٍ بينهما، وهي كانت تعمل في التجارة. وقد حافظ الزوجان، أي الرسول محمد والسيدة خديجة، على عقيدتهما الأبيونية النصرانية، حتى وفاة السيدة خديجة وابن عمها ورقة. فقد كان الثلاثة على ذات البدعة، حتى تحوّلت إلى حركة جديدة ظهرت في قريش، تنادي بالإسلام دينًا جديدًا. وكان الرسول محمد قد أظهر ذكاءً في التجارة، كما أظهر براعةً في كسب ودّ القبائل إلى جانب دعوتِه، بمساعدة القس ورقة الذي كان يوحي إليه بما في إنجيل متى العبرانيّ المعروف آنذاك في المنطقة، وليس بغيرِه. وساعدته في ذلك أجواء قريش ومكة غير المستقرّة، كي يبرز ويخلف ورقة في زعامة الجماعة، وهو ما كان يهيّئُه لها ورقة حتى وفاتِه. إلاّ أنَّ الأمور سارت بغير ذلك!

    نذكر أنه من بين القبائل القريشية المعروفة التي دخلت دينَ النصرانية آنذاك، بحسب كتاب تاريخ اليعقوبي، قبيلة بني أسد بن عبد العزّى، التي ينتمي إليها ورقة وخديجة، وهما من عمومة الرسول محمد. (تاريخ اليعقوبي، 1/257). كما يؤكد بن قتيبة الدينوري في كتاب المعارف أيضًا شيئًا من هذا القبيل، من أن "النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة" (المعارف لابن قتيبة الدينوري ص621). وفي قريش، التحق بهم حشدٌ من قبائل عربية معروفة، سبق سرد بعضٍ منها. ولعلَّ هذا ما يدعو اليوم العديد من علماء الدين الاسلامي والمسلمين إلى رفض تسمية "المسيحي" والتشبث بكلمة "نصارى"، تعميمًا على المسيحيين، استنادًا إلى ما ورد في القرآن آنذاك.

   وهذا خطأ بالغ، عرّض المسيحيين ظلمًا ومازال، للكثير من المتاعب والمشكلات والمخاطر، لعدم التمييز بين التسميتين والتطبيق بحقهم، كلّ ما خرج به القرآن وأوردهُ عن أتباع تلك البدعة المنشقّة، على أنهم همْ أتباع المسيحية. فمازالَ المقصود بهم دومًا، هم المسيحيون أمس واليوم وغدًا. ومع أنه هناك العديد من الآيات التي يذكرهم فيها القرآن بالخير في طلائع الدعوة الإسلامية، كما وردت في الآيات المكية على عهد القس ورقة، إلاّ أنه انقلبَ عليهم بعد وفاة الأخير ووفاة ابنة عمّه خديجة.

   فقد كان الرسول يعامل الصابئيين والنصارى بمودة وإحسان، إلى حين استقوائِه وجماعتهِ، ونزول آياتٍ قاسية بحقهم، معتبرة إياهم "ذميين". فاختلف التعامل معهم لاحقًا، آخذًا شكلاً مغايرًا بعد الهجرة إلى المدينة وزوال تأثير صاحب الوحي (ورقة)، حيث يعدّهم مشركين يستوجبون القتال أو الجزية أو الإسلام ويحرّم توليتهم في المؤسسات، بل ويشرعنُ استباحةَ أموالهم وحرائرهم وما إلى ذلك.

   وهذا ما نشهده اليوم من تطبيقات مضللة لتلك التعاليم المتناقضة أساسًا في القرآن في مواضع عديدة. فمن الآيات التي تذكرهم بالخير والمودة، ما يرد في سورة المائدة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سوره البقرة 62). وبعكسها، نجد ما ورد في سورة المائدة أيضًا"وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّـهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" (سورة المائدة:13). وهذا عين الظلم في دينٍ يدّعي أتباعُه التسامح والرحمة وطاعةَ الرحمن! ومن المثير، أن بعض البحاثة والمهتمّين، يشيرون إلى أنَّ كلمة "نصراني" في الإسلام، كانت وماتزالُ تُطلق على حاملي الثقافة المسيحية، لغاية اليوم. بل وبسبب الجهل بأصول المسيحية، هناكَ مَن يُطلق كلمة "نصرانيّ" على كلّ صاحب بشرة بيضاء! وليسَ غريبًا أيضًا، أن نسمعَ نعوتًا سلبيةً غيرَها، وفيها شيءٌ من التحريض والرفض من منطلق سياسيٍّ بحت، حينَ نعتِ كلّ ما هو غربيّ ب "الصليبيّ" و"الكافر"، بسبب الجهل بالحقيقة التاريخية.

    فلو كان المقصود بتسمية المسيحيين بالنصارى تاريخيًا، كونَهم أتباع يسوع الناصري الذي عاش في هذه المدينة، فلا بأس ولا اعتراض عليه. وبعكسه، فإنّ ما قصده القرآن بتسميته المهينة للنصارى (المسيحيين) وحسب تصوّره الناقص لهم ولعقيدتهم الجوهرية كما توردها آيات تنتقص منهم ومن عقيدتهم، فهذا غير مقبول البتة. ولابدّ من إعادة قراءة التاريخ والتفسير بموجب الحقائق والوقائع والكتب الصحيحة وليس المنحولة.

   مفاهيم غير سليمة

   من المؤكد، هناك حالات تشويه للحقائق التاريخية بسبب الجهل بالماضي أو في تفسير غيرها، سواءً بسبب النقص في الأصول التي تؤمّن الحقائق والمصادر الملتزمة، أو بسبب الفهم الخاطئ والشارد لتلك الحقائق لعدم الاستعانة بالمراجع والكتب القانونية الموثوقة. وهذا التشويه ينسحبُ مثلاً، على الإرباك وعدم الفهم القائم في إشكالية التثليث التي يرى فيها القرآن، ومن ثمَّ المسلمون عامةً، أنها إشراكٌ في الإله الواحد. فيما أنَّ التثليث أو الثالوث القدّوس الذي يؤمن به المسيحيون، أتباع المسيح، لا تنكر وحدانية الّله، بلْ تعدُّ المسيح إلهً وابنَ إله مشاركًا ومساويًا له في الجوهر عبر الروح القدس المنبثق من الآب والابن، كما يشير إلى ذلك قانون الإيمان المسيحي.

    فالأقانيم الثلاثة هي جوهرٌ متحدٌ واحدٌ في شخص إلهٍ. والمسيحية لا تؤمن بغير إلهٍ واحد قادرٍ على كلِّ شيء وخالقٍ للسماء والأرض وما فيهما. وبالرغم من صعوبة إدراك سرّ التثليث، إلاّ أنَّ الإيمان وحدَه كفيلٌ ببلوغ هذا الإدراك العجيب، بسبب عمق العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، تمامًا كما أنّ للنار ثلاث خواص: فالنار بوحدتِها وذاتِها، تتولدُ منها حرارة، كما ينبثق منها نور. وهذه ليست ثلاثًا، بل وحدةً واحدة غير منفصلة، كما يرى أحد آباء الكنيسة.

   هكذا الثالوث الأقدس، بحسب آباء الكنيسة ومفسّري العقيدة. والإشكالية الثانية تلحق بعبادة سيدتنا مريم العذراء الذي يراه القرآن بمثابة الشرك، بسبب الفهم الخاطئ لصلة العذراء بالمشروع الخلاصيّ ومرتبتِها عند الله وابنها المسيح، الذي شاركته في المشروع الخلاصي من وجهة نظر مسيحية. من الجدير بالذكر، أنه لا يوجد في العقيدة المسيحية أيةُ إشارة إلى آلوهية مريم العذراء، أمّ المسيح، كما يقرأه البعض، أو كما يشاء آخرون الاّدعاء بورودها في بدعٍ ونحلٍ شاعت على عهد نشأة الإسلام أو قبلَه أو وردّ ذكرُها في كتب منحولة لا تعترف بها الكنائس الرسولية.

    فهذا ما كانت تنادي به بدعة المريمية (المريميين) التي اندثرت تمامًا مع مطلع القرن السابع، والتي تجعل من مريم العذراء أمّ المسيح، مشاركةً له في الآلوهة، تمامًا كما في الأساطير القديمة التي تشارك فيه إلهة إلهًا آخر. وهذا ما ترفضه وتشجبه الكنيسة منذ نشأتها، من دون أن تنتقص من منزلة مريم. فحاشا لله أن يتخذ له صاحبة، كما تورد بعض التفاسير الخاطئة! بعد هذه الشذرات، وما تشهده المنطقة من غلوّ في التفسير والتطبيق لتعاليم الإسلام، هذه دعوة ملحة لنشر الوعي وتفعيل سبل الحوار بين الأديان والحضارات بمختلف الوسائل والطرق وبنية صافية وإرادة طيبة، سعيًا وراء خلق مجتمعات متحاورة متحابة تقبل الآخر المختلف، كلّ على دينه وتعاليمه وتقاليدِه ومن دون الانتقاص من هذه كلّها.

    فالمجتمع مختلف الأطياف ومتعدد الأعراق والأديان والمذاهب، هو غنى وليسَ فقرًا أو نقصًا. فهذه جميعًا باختلاف أفكارِها وتراثها وعقائدها ومذاهبها، يمكن أن تشكل دائرة متحابة متجانسة باسم الله الواحد الأحد، الذي يرعى الجميع ويهدي مَن يشاء إلى طريق الخير والقداسة، لمدح اسمِه القدوس وليسَ لتشويهِه والقتل باسمِه وتنصيب الذات حاكمًا بدلاً عنه. فهو الديان الكبير وهو الحافظ للجميع والهادي للجميع دون سواه.

   لويس إقليمس

   بغداد، في 21 حزيران 2015.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة