اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

سهل نينوى: قرار أمريكي يحسم المصير

لويس اقليمس

 

   18 ايلول 2016

 

 تزايدت في الأيام الأخيرة، تصريحات ومطالبات ومداخلات ولقاءات حول مصير سهل نينوى ما بعد داعش، بالرغم من بعد المسافة بينه وبين عمليات التحرير المتعثرة. والجميع يدرك أنّ الصراع بشأنه، سياسيّ بحت وليس اجتماعيًا، وهو يتعلّق بمصالح أطراف تسعى لاستغلال المواقف واستدرار العواطف واستخدام ضغوط في اتجاهات عديدة، بما فيها من وعود عرقوبية غير ذات قيمة في الوقت الراهن، أو تلميحاتٍ بتهديدات معينة أو حتى تهديدات صريحة ضدّ مَن يقف متحديًا مصالح هذا الطرف أو ذاك في تحديد هيكلية محافظة نينوى وإدارة ملفها، ولاسيّما سهلها الداخل في إشكالية المناطق المتنازَع عليها، بالرغم من كونه بعيدًا كلَّ البعد عن شيء يدخلُ مناطقَه في مثل هذا النزاع غير المتكافئ. فمنطقة السهل بعمومها خليطٌ متجانسٌ، من أقوام ومكوّنات عربية وسريانية مسيحية وإيزيدية وشبكية وكاكائية وصارلية وتركمانية وشيءٍ قليلٍ من الكردية. ومَن يتبجّح بانتمائِه الكرديّ عاطفيًا بكلّيتِه من دون قرائن ملموسة، ومنها اللغة التي هي أساس الهوية لأيّ مكوّن، فهو كمَن لبسَ البرذعة وحطَّها على ظهرِه تحاشيًا لحرّ الصيف وبرد الشتاء، أو كالبقرة التي أُلبسَتْ سرجًا ووُضع على خاصرتِها تهريجًا وتلميحًا للسخرية منها بمناسبة وبدون مناسبة.

     نظريًا، بل منطقيًا، ليسَ من المنصف ولا من المعقول أن تطالبَ جهاتٌ محددة منتفعة من العملية السياسية، أيًا كانت وجهاتُها ومصالحُها، من أبناء السهل وهم بعدُ في الأسر أو في مناطق النزوح الكارثية خارج بلداتهم، مطرودين من منازلِهم، ومحرومين من حلالِهم، ومسلوبين من إرادتهم، أن يقرّروا مصيرَهم ويعلنوا زواجَهم المبكر، بل زواج الغصب والإكراه، من شريكٍ لم يثبت جدّيتَه في التعامل مع مشاكلِهم ومع هوياتهم ووجودهم وحقوقهم وكيانهم ومصيرهم المعوَّم. فالصفقة المثيرة للجدل التي تمّ بموجبها تسليم مناطقهم للدواعش وأعوانهم ومَن لفَّ لفَّهم، بعد 6 آب 2014، وما سبقها من حرمانهم حتى من أسلحتهم الشخصية الخفيفة، وما رافقها من وسائل تمويه وتشويه ووعود لسادة القوم ومراجعهم الدينية "السذّج" أحيانًا، المصدّقين والمؤمنين بالكلام المعسول الذي بلغهم ويبلغهم سواءً من الجانب الكرديّ الذي كان يحكم سطوتَه على مناطقهم، أو من جانب إدارة المحافظة على السواء، أثارت في حينها تساؤلات كثيرة ومريبة. فهذه كلّها تتطلّب تحكيم العقل وسداد الرؤية وبعد النظر في التعاطي مع مصير شعب، بل شعوب السهل المبتلى بمصالح أطراف متناقضة دينيًا ومذهبيًا وإتنيًا وفئويًا ومناطقيًا ولغويًا ووجوديًا وكلّ ما له صلة بالهوية التي تطبع شعوب السهل التقليديّ.

     من حقّ الأطراف المشمولة بهذا المصير والحريصين من أبناء الوطن والمتعاطفين المتزنين مع حقوق شعوب السهل جميعًا، أن يدلوا بدلوهم ويكون لهم وقفة وطنية، خارجًا عن هفوات التماهي والعاطفة والتعاطف والمجاملة التي تتغلّبُ عادةً على قرارات وآراء وأحكام أصحاب القرار ومَن بيدهم اليد الطولى لتقرير ما يتحتّم عليه الظرف القائم كواقع حال، وما يراه مواطنوهم، من دون خجل ولا مواربة ولا مجاملة. فمَن حمَّلَ أميركا، وأخصّ به بطريرك الكنسية الكلدانية لويس ساكو مؤخرًا، راعيَة العملية السياسية التي تتحكم بمجريات الأمور، "مسؤولية أخلاقية" في مساعدة الشعب العراقي وفي التعاطي مع هذا الملف الشائك الذي يتعلّق بمصير شعوبٍ أصيلة طالها الهوان والتشريد والقتل والاغتصاب والسبي والتهميش والإقصاء، يدركُ تمامًا ما معنى أن يتهجّرُ أتباعُه بين ليلة وضحاها ويصبحوا خارج منازلهم مشرَّدين يعتاشون على مساعدات إنسانية تغدقها دول ومنظمات وجهات خيرية، أو أن يكونوا مشتتين في دول الاغتراب بعد أن لفظهم بلدُهم وضحّى بهم السياسيون الفرقاء المتصارعون على المال والجاه والسلطة والأرض والمتنافسون من دون خجل لارتقاء السلّم العليا في الفساد والإفساد بالأرض، بشرًا وحجرًا وثروةً. أما السياسيون من أتباع هذه الشعوب المهجّرة ومسلوبة الإرادة، فجلُّ ما يهمُّهم، هو الواقع السياسي الذي يضمن لهم مكانةً ويديمُ ولأحزابهم موقعًا في العملية السياسية، حتى لو حصلَ ذلك متاجرةً بحقوق شعوبهم وعلى حساب معاناتهم وفوق آلامهم. فالموقف برمّته لا يرضى بالمساومة على المصير، كما لم يعد يتحمّل المزيد من الصبر والتعلّق بقشّة أمل غير مقبولة ولا أمينة في ظلّ الأجواء المشحونة بين طرفي النزاع، حكومة بغداد المركزية وحكومة إقليم كردستان الماضية في مشروع الاستقلال الأكيد. فالأطراف جميعًا، منتفعة من الواقع المزري الذي آلَ إليه واقع حال البلد. والأطراف جميعًا تتحمّلُ وزرَ خطاياها بحق الشعب العراقي عمومًا وشعوب الأقليات الدينية والإتنية بخاصة.

    فقد تمّت المتاجرة بمصير هذه الأخيرة، حينما آلتْ حقلاً مفتوحًا لصفقات سياسية بين المتورطين في جريمة التهجير، عسى الأيام تكشفها للملأ وتتولى حكومة وطنية قادمة محاسبة كلّ متورّط وفاسد ومفسدٍ بحق شعب العراق وإتنياته. وهذا لن يحصل إلاّ في ظلّ سلطة قضائية مستقلّة وغير مسيّسة، لا تقبل العمل بتوافق السياسيين الفاسدين، الذين يسوّقون المحاصصة ويجعلونها فوق الدستور والقانون. لقد طالب الكثيرون ب"ضمانات دولية لحماية المكونات الإتنية والدينية، ومنهم المسيحيون، في سهل نينوى لضمان عودتهم إلى مناطقهم،وإبعاد مناطقهم عن الصراعات القائمة بين بغداد وأربيل".

     فيما آخرون، ارتأوا أن يتمّ هيكلة المحافظة والسعي لإقامة نظام إدارة ذاتية للمكوّنات المعنية، أو حتى تشكيل محافظات أخرى تقف إلى جانب محافظة الموصل بموجب المادة 125 من الدستور، وتشكيل إقليم بالمحافظة، على غرار إقليم كردستان، كما يسمح به الدستور الأعرج القائم. وهذا ما كشفته اللقاءات المكثّفة الأخيرة من جانب دبلوماسيين دوليين وأمريكان وغربيين مع قيادات دينية وسياسية وشخصيات اجتماعية، عززتها تصريحات سياسية من كلّ من حكومتي المركز والإقليم. ويُستشفّ من هذا الحراك السياسي والدبلوماسيّ وجودُ مشروعٍ قائمٍ على الرفوف تسعى الإدارة الأمريكية لحبكِه ونسجه وتهيئتِه بعد تحرير الموصل ومناطق السهل التي تعود لشعوب الأقليات المهجَّرة، موضوعِ النزاع بين أطرافٍ عديدة. وجميع هذه اللقاءات تضمنت مناقشة رؤى ووسائل وأفكار، كما تطرقت إلى الوضع العام في البلاد والصراعات القائمة وأفضل السبل لمواجهة الإرهاب وأدواته والمرحلة ما بعد داعش.

    إننا نرى، أنّ الكلمة الأولى والأخيرة، ستكون لراعي العملية السياسية، أميركا، التي تديرها عن بعد وتنفذها أدواتُها بالنيابة عنها. وأميركا، وحدها عبر أدواتها هذه من دبلوماسيّيها وسياسيّين وزعماء كتل وأحزاب، هي مَن تتحكم بمقاليد الأمور في العراق والمنطقة، وفقًا لمخططاتها الجهنّمية ومشروعها القومي الكبير لإعادة هيكلية دول المنطقة وفق ساكس - بيكو جديد، والتي ابتدأتها بحجة دمقرطة بلدان الشرق الأوسط وخلاص شعوبها من نير أنظمة دكتاتورية.

 لقد بدأتها انطلاقًا من العراق في 2003، بحجج واهية أثبتت الوقائع فراغَها من أية نسمة مشروعة، وامتدت لغيره، ولا نعرفُ متى ستكتمل وأينَ ستصل ومن ستطال لاحقًا! فالغربُ بقيادة أمريكا، ينفذ مشاريعه برويّة ويشنّ حروبَه بعيدًا عن أراضيه كما يطيبُ له وفقًا لمصالحه، طالما يجدُ مِن سذّج الساسة والزعماء في المنطقة مَن يضمن منهم التمويل ويديم إشعال الحطب في نارٍ متأججة منذ سنوات، ليسَ لشعوب المنطقة أيةُ منفعة في تواصل أوارها. وأميركا وحدها مع أتباعها الغربيين، هي التي تقرّر مصير الشعوب والقضاء على الإرهاب من بقاء فلوله لاستخدامها وفقًا لمصالحها القومية متى اقتضت الحاجة وأينما توفرت الفرصة. لذا، لم يعد من المقبول، ولا من العدل بقاء هذه المناطق ضحية صراعات ونزاعات أحزاب وكتل سياسية وعشائر من جهة، وفريسةً سهلة أو لقمةً سائغة دائمة بين مطرقة الكورد حينًا وسندان العرب حينًا آخر.

   كما ليسَ من الإنصاف أن تتحولَ الضحية إلى جلاّد بعد أن كانت شاركتها شعوبُ المنطقة المتضررة ذاتَ المصير وذاتَ الظلم وذاتَ الظروف القاسية أيامَ النضال ضدّ الدكتاتوريات والطغيان. من هنا، لا بدّ من تهيئة الأرضية المقبولة والكفيلة كي تتولى شعوب سهل نينوى بدون تمييز ولا تحديد، وبكلّ حريتها، إدارة شؤونها وتقرير مصيرها ومسك الأرض، بعد تهيئة الظروف المناسبة بعد تحريرها من قبضة داعش الإرهابية وإخراجها عن سطوة الميليشيات والأطراف المتاجِرة بمصيرها. وهذا الأمر، في اعتقادنا، لن تستطيع أية قوة رادعة، سوى أميركا ذاتُها، من فرضِه على الأطراف المتنازعة بكلمة منها على الطاولة السياسية. وهذا مطلب الجميع وأمنيتهم، كي تعود المنطقة إلى صيغة التعايش السلميّ سابق العهد، ويسود السلام والمحبة بدل الاحتقان والكراهية. وبذلك ينعم الوطن وأهلُه بما يستحقونه من كرامة وحقوق وعدل ومساواة في وطنهم وأرضهم ووسط مواطنيهم وجيرانهم.

   فأمريكا التي قلبت الموازين وذرّت الغبار وافتتنت هنا وهناك، هي صاحبة الكلمة الطولى وهي أيضًا صاحبة القرار في ترويض الثوار وتهدئة الفتن وكبح جماح الميليشيات وشبكات الفساد ومافيات السطو والسرقة والقتل، بل وأصحاب الأيديولوجيات الأصولية التي تتاجر بالناس وتستغلّهم لخدمة مصالحها القومية، كلّما رغبت في ذلك وفقًا لحاجة الظرف، مكانًا وزمانًا.

    في الحصيلة، لا نعتقد أنّ ما يجري على الساحة السياسية بهذا الخصوص، من عملية استعراض للعضلات نتيجة للتشنجات القائمة بين المركز والإقليم، وما بينهما من جهات منتفعة ممّا يجري بدون مسوّغ أخلاقيّ، يخدم العملية السياسية لهذه الشعوب ويساعد في الحفاظ على مستقبل حياتها وتقرير مصيرها، بعيدًا عن كلّ هذا وذاك. فليس من المقبول ولا من الحق أن يُسلّطَ سيفٌ على رقاب شعبٍ، ويُطلبُ منه تقرير مصيرِه تحت التهديد. فهذه سياسة مَن يعيشُ في الغاب ولا يقبل بحرية الغير في التعبير عن الذات والموقف والمصير. فلا التصعيد الكلامي ولا المهاترات ولا التجاذبات السياسية غير الناضجة ولا التحدّث باطلاً باسم الشعوب المقهورة والمغلوبة يمكن أن تنصف أصحاب الحق والقرار والمستقبل. أمّا مَن يسعون للاحتكام إلى الدستور الأعرج، فهُم شلّة ضالّة لا يعنيهم مَن وكيفَ كتبه ولمصلحة مَن بالدرجة الأولى.

    من هنا، كان الأجدر بالسياسيين، لو كان بقي لدى بعضهم ولو النزر اليسير من الوطنية وحب الأرض والشعب والوطن، أن يلقوا تناقضاتهم السياسية جانبًا ويوقفوا العمل بالدستور القائم ويعملوا على درج تعديلاتٍ أساسية فيه، تضمن رسم المصائر وتكفل الحقوق والواجبات وحفظ ما بقي من ماء الوجه أمام الشعب المتمزّق نسيجُه بسببهم وبسبب أفعالهم الشائنة وفسادهم اللامحدود ونجاتهم من القانون بسبب مبدأ التوافق والمحاصصة الذي ضمن لهم امتيازات وحصانات.

    إنّ كلَّ مَن يتحدث عن تفاهمات مسبقة قبل التحرير حول مستقبل الموصل وبلدات السهل بعيدًا عن رؤى أهل البلدة والسهل وتطلعاتهم وانقشاع الغيوم السوداء عن غشاوة عيونهم، عليه أن يتذكر أنه يلعبُ بالنار التي قد تحرقُه قبل أن يتنعم بما يهواه ويخطّط له. فالموصل وبلدات سهل نينوى ستكون عصيّةً على الطامعين وشوكة في عيون العملاء، مهما طغا هؤلاء وقدّموا من خدمة جاهزة للغريب الطامع والمنفِّذ للإملاءات الخارجية التي لا تخدم أهلَ السهل المحترق بنيران هذا الغريب الماكرة وبأساليبه الشيطانية ووعوده العرقوبية التي لا تؤكل ولا تسمّن. فاستغلال الظروف لتحقيق مكاسب ضيقة، لا تنسجم مع المصلحة الوطنية العليا، كما تتنافى مع احترام هوية المناطق المحتلة من قبل داعش ومع رسم مستقبل شعوبها وخياراتها وإرادتها.

    وما يدور في الكواليس من مشاريع تقسيمية لمحافظة نينوى إلى عدة محافظات، هو في الحقيقة تحقيق لرغبة الأسياد، "الأمريكان والغرب قدمًا بفكّ ارتباط أراضٍ عراقية خالصة تاريخيًا وتقليديًا وديمغرافيًا ومنحها هدية للدولة الكردية الماضية في مشروع الاستقلال، الذي نؤيده جميعًا من حيث كونه حق مشروع لتقرير مصير شعبٍ عانى كثيرًا، ليس وحده بل وقد شاركته جماعات أخرى في ذات المصير وذات النضال، من ديانات وإتنيات لأقليات لم تُنصف على مدى التاريخ.

    ألحراك الأخير للإدارة الأمريكية والنشاط الذي تقوم به المنظمة الدولية وغيرُها ومعها دول الغرب في لقاءاتها وتخرّصاتها الإعلامية وتصريحاتها السياسية في محاولة لجسّ نبض الشارع العراقي، وبصورة خاصة شارع المكوّنات في سهل نينوى ومراجعها الدينية والسياسية، كلُّها تصبّ في ذات المنحى، كي تكوّن صورة عن رؤية مستقبلية للمنطقة بعد التحرير. وأعتقد أنَّ ما أدلى به غبطة البطريرك ساكو مؤخرًا، يكفي أن يكون الجواب الأكثر شمولاً وحرصًا ومحبة لشعبه ولشعب العراق بأجمعه، بل للعملية السياسية ككلّ.

   والمهمّ في هذه المرحلة الحرجة، دعم جهود الدولة العراقية موحدةً من أجل القضاء على السرطان الداعشي الخبيث قبل استفحالِه، ومن ثمّ التفكير في مرحلة لاحقة لوضع الأسس التي تدعم إعادة ترتيب البيت الداخلي لهذه البلدات عبر الحوار والدراسة الواقعية لمستجدّات الأحداث ووفق السبل التي تؤمّنها الدول الراعية لإعادة ترتيب البيت العراقي بعد زوال الأسباب والظروف الشاذة جميعًا. وبغير هذه الترتيبات المتأنّية، لن تشهد المنطقة استقرارًا وسلامًا وتعايشًا بين مختلف مكوّناتها، طالما هناك فكر مختلف ومصالح متناقضة وارتباطات مع أطراف خارجية طامعة .

 

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة