ديوان اوقاف الديانات المسيحية والايزيدية والصابئة المندائية

الانتخابات من منظور الكتاب المقدس - البحث عن القادة الأمناء والعدلاء

الكاتب رائد نيسان حنا







        

بينما تستعد دول العالم لخوض غمار العمليات الانتخابية التي تُحدد مسارها السياسي والاجتماعي، يبرز تساؤل هام: كيف يمكن للمبادئ الأبدية للكتاب المقدس أن تُلقي بظلالها على مفهوم "الانتخابات" الحديثة واختيار القادة؟ على الرغم من أن النصوص الكتاب المقدس لم تتناول "الديمقراطية" أو "التصويت" بشكل مباشر، إلا أنها تُقدم إطارًا غنيًا للتعامل مع موضوع القيادة، المسؤولية، والعدالة، وهو ما يُعد جوهر أي عملية انتخابية تهدف إلى الصالح العام. 
القيادة في الكتاب المقدس: اختيار إلهي ومسؤولية بشرية 
الكتاب المقدس يعرض نماذج متنوعة للقيادة، من الأنبياء والملوك إلى القضاة والشيوخ. غالبًا ما كان اختيار القادة يأتي بتدخل إلهي مباشر، كما حدث مع موسى، داود، وشاول. ومع ذلك، لم يكن هذا الاختيار يُعفي القادة من مسؤوليتهم تجاه الشعب والله. بل كانت قيادتهم تُقاس بمدى التزامهم بالعدل، الرحمة، والالتزام بالشريعة. 
• مفهوم "الخادم القائد": يُبرز الكتاب المقدس مفهوم القيادة كخدمة. فالمسيح نفسه قال: "ليس ابن الإنسان قد أتى ليُخدم بل ليَخدم" (متى 20: 28). هذا المفهوم يدعو القادة المنتخبين اليوم إلى رؤية مناصبهم كفرصة لخدمة الشعب، وليس كامتياز للسلطة أو المنفعة الشخصية. 
• مسؤولية العدالة والنزاهة: يشدد الكتاب المقدس مرارًا وتكرارًا على أهمية العدل في الحكم. "اطلبوا الحق، حاكموا المظلوم، انصفوا اليتيم، حاموا عن الأرملة" (إشعياء 1: 17). هذا المبدأ يُعد حجر الزاوية في أي حكومة تسعى لتحقيق الاستقرار والازدهار. القادة، سواء كانوا ملوكًا أو منتخبين، مسؤولون أمام الله والناس عن ضمان العدالة لجميع أفراد المجتمع، وخاصة الفئات الضعيفة. 
دور الشعب في المنظور الكتابي: مسؤولية الاختيار والمساءلة 
على الرغم من أن الاختيار الإلهي كان سمة بارزة في العهد القديم، إلا أن هناك أيضًا أمثلة تُظهر دور الشعب في قبول القادة أو رفضهم. فتنصيب الملوك كان غالبًا يتطلب موافقة الشعب، كما حدث مع شاول وداود. هذا يُشير إلى أن للشعب دورًا، وإن لم يكن تصويتًا مباشرًا، في المساءلة ودعم القادة. 
من منظور الكتاب المقدس، تُصبح "الانتخابات" اليوم فرصة للمواطنين لممارسة مسؤوليتهم الروحية والأخلاقية في اختيار من يمثلهم. هذه المسؤولية تتضمن: 
• البحث عن الحكمة والفهم: "من يسعى للبر والرحمة يجد حياة وبرًا وكرامة" (أمثال 21: 21). يجب على الناخبين البحث عن القادة الذين يُظهرون الحكمة، الفهم، والقدرة على اتخاذ قرارات تُحقق الصالح العام، لا المصالح الذاتية. 
• التمييز بين النوايا والأفعال: "لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكمًا عادلًا" (يوحنا 7: 24). يُشجع الكتاب المقدس على النظر إلى ما وراء الوعود البراقة، والتركيز على سجل القادة، أخلاقهم، ومدى اتساق أقوالهم مع أفعالهم. 
• الصلاة من أجل القادة: "فاطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نعيش حياة هادئة ومطمئنة بكل تقوى ووقار" (1 تيموثاوس 2: 1-2). هذا المبدأ يُذكر المؤمنين بأن لهم دورًا روحيًا في دعم القادة، حتى لو اختلفوا معهم، والصلاة من أجل حكمتهم. 
التحديات المعاصرة في ضوء المبادئ الكتابية 
تُقدم الانتخابات المعاصرة تحديات لم تُعرف في العصور القديمة، مثل: التضليل الإعلامي، الانقسام الحزبي، والتأثر بالمصالح الخاصة. في هذا السياق، تُصبح مبادئ الكتاب المقدس أكثر أهمية من أي وقت مضى: 
• الصدق والشفافية: تُحذر النصوص من الكذب والشهادة الزور، مما يدعو إلى الشفافية الكاملة في الحملات الانتخابية والوعود السياسية. 
• التركيز على الفقراء والمهمشين: تُشدد الشريعة على الاهتمام بالفقير، الأرملة، واليتيم. القادة الذين يُركزون على تحسين ظروف الفئات الأكثر ضعفًا هم الأقرب إلى المبادئ الكتابية. 
• الوحدة وتجاوز الانقسامات: رغم وجود اختلافات طبيعية، تُدعو الكنيسة والمؤمنون إلى الوحدة في الروح. هذا المبدأ يُمكن أن يُلهم الناخبين والقادة على حد سواء لتجاوز الانقسامات الضيقة والعمل معًا من أجل الخير المشترك. 
خلاصة: نحو حكم يحركه الإيمان والأخلاق 
إن الانتخابات، من منظور الكتاب المقدس، ليست مجرد عملية سياسية لتبادل السلطة، بل هي فرصة مجتمعية لإعادة تأكيد الالتزام بالقيم الأخلاقية، البحث عن العدالة، واختيار قادة يُظهرون صفات الحكمة، النزاهة، وروح الخدمة. إنها دعوة للمواطنين للمشاركة بمسؤولية، وللقادة للسعي وراء حكم يُرضي الله ويُفيد البشرية. هل نختار أن نُبني أنظمتنا الانتخابية على هذه الأسس الخالدة؟