هل الثقافة مرغوبة في عالمنا اليوم؟ سؤال يطرح نفسه
الكاتب رائد نيسان حنا
23 ايلول, 2025
في عالم يركض بخطى متسارعة، وتسيطر عليه شاشات الهواتف الذكية وسيل من المعلومات اللحظية، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: هل الثقافة ما زالت مرغوبة في يومنا هذا؟ هل يخصص الناس وقتاً للقراءة، والفنون، والتفكير النقدي، أم أن هذه الممارسات أصبحت ترفاً لم يعد له مكان في حياتنا العصرية؟ الإجابة على هذا السؤال ليست ببساطة "نعم" أو "لا". فالثقافة في يومنا هذا ليست غير مرغوبة، بل تغيرت طريقة التفاعل معها. الثقافة، في جوهرها، هي المعرفة والفهم العميق للحياة والإنسان. ورغم أن أشكالها التقليدية قد تبدو أقل حضوراً، إلا أنها لم تختفِ. أن الثقافة لم تمت، بل ارتدت ثوبًا جديدًا يناسب العصر الرقمي. في الماضي، كانت الثقافة مرتبطة بمكان محدد وأسلوب معين: • المكتبات هي المكان الأساسي للقراءة. • المسارح ودور السينما هي مصدر الفن والدراما. • المتاحف والمعارض الفنية هي فضاء العرض الثقافي. أما اليوم، ومع التكنولوجيا، فإن هذه الأشكال التقليدية لم تعد حكراً على مكان مادي. الثقافة اليوم صارت: • رقمية: الكتب أصبحت متوفرة على شكل إلكتروني يمكن قراءتها في أي مكان. • متعددة الوسائط: الفن لم يعد مقتصراً على اللوحات، بل أصبح هناك أفلام وثائقية، وفيديوهات قصيرة، وفنون رقمية. • متاحة للجميع: يمكنك الآن زيارة أشهر متاحف العالم من منزلك عبر الإنترنت، أو مشاهدة مسرحية من هاتفك. لذلك، "الثقافة ليست غير مرغوبة، بل تغير شكلها"، وأن الرغبة في المعرفة والفن لا تزال موجودة، ولكن طريقة الوصول إليها واستهلاكها تغيرت لتصبح أسرع وأكثر مرونة وتنوعًا. هل الثقافة في حالة إهمال ونسيان؟ قد يبدو للوهلة الأولى أن الاهتمام بالثقافة قد تراجع. ففي السابق، كانت المكتبات العامة تعجّ بالزوار، والمنتديات الأدبية تزدهر، والناس يتناقشون في أحدث الإصدارات الفكرية. أما اليوم، فنجد أن الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة الأخبار العاجلة قد طغى على اهتمامات الكثيرين. ولكن، هل هذا يعني أن الثقافة أصبحت في حالة إهمال ونسيان فعلي؟ الأمر ليس كذلك تماماً. إن ما يحدث هو تحول في طبيعة الاهتمام، وليس اختفاءه. الاهتمام بالثقافة اليوم لم يعد محصوراً في الأشكال التقليدية. • من الكتاب إلى الشاشة: صحيح أن عدد القراء للكتب الورقية قد تراجع، لكن القراءة لم تمت. ملايين الأشخاص يقرأون المقالات، والقصص، والروايات الرقمية على هواتفهم وأجهزتهم اللوحية. منصات مثل "جود ريدز" و"أبجد" أوجدت مجتمعات افتراضية للقراء، مما يؤكد أن الشغف بالمعرفة لا يزال حياً. • من المسرح إلى المنصات الرقمية: لم يعد المسرح هو المصدر الوحيد للمحتوى الدرامي. المنصات الرقمية مثل "نتفليكس" و"شاهد" قدمت مجموعة هائلة من الأفلام والمسلسلات الوثائقية والفنية التي تحمل رسائل ثقافية عميقة وتناقش قضايا معقدة، مما يتيح للجميع الوصول إلى محتوى ثقافي متنوع. • من المتاحف إلى المعارض الافتراضية: أصبحت المتاحف والمعارض الفنية تتيح جولات افتراضية عبر الإنترنت، مما يتيح للملايين حول العالم فرصة مشاهدة الأعمال الفنية النادرة دون الحاجة للسفر. هذه التحولات تظهر أن الرغبة في الاستهلاك الثقافي لم تتراجع، بل انتقلت إلى منصات جديدة أكثر سهولة ووصولاً. التحدي يكمن في عمق الثقافة لا في وجودها التحدي الحقيقي الذي يواجه الثقافة اليوم ليس في مدى رغبتنا فيها، بل في مدى عمقها. مع انتشار المعلومات السريعة، قد يكتفي الكثيرون بمعرفة سطحية أو عناوين عابرة. • سهولة الوصول مقابل عمق الفهم: الإنترنت يقدم لنا كماً هائلاً من المعلومات، لكنه قد يمنعنا من التوقف والتأمل. يمكننا أن نجد عشرات المقالات عن "الفلسفة اليونانية" في ثوانٍ، لكن قراءتها لا يعني فهمنا لها أو استيعابنا لأبعادها. • ثقافة الاستهلاك السريع: منصات مثل "تيك توك" و"يوتيوب شورتس" تعتمد على المحتوى القصير والسريع، مما يجعلنا نفضل المعلومة المختصرة على التفاصيل المعمقة. هذا يؤثر على قدرتنا على التركيز والتفكير النقدي. خلاصة القول: الثقافة مرغوبة ولكن... إن الثقافة في يومنا هذا مرغوبة ومتاحة للجميع أكثر من أي وقت مضى. الرغبة في المعرفة والفن لم تمت، بل تغيرت قنواتها. لكن التحدي يكمن في كيفية تحويل هذه الرغبة من مجرد استهلاك سريع إلى فهم عميق. علينا أن ندرك أن الثقافة ليست مجرد ترف أو هواية، بل هي ضرورة لتكوين شخصية واعية وقادرة على فهم العالم من حولها. إن بناء مجتمع مثقف لا يعني بالضرورة العودة إلى أشكال الماضي، بل يعني استغلال أدوات الحاضر لخلق جيل يفكر، ويتأمل، ويقدر المعرفة بعمق. الثقافة اليوم لم تعد في الكتب فقط، بل في الطريقة التي نفكر بها ونحلل بها المعلومات التي تأتينا من كل حدب وصوب.