ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

المديرية العامة لأوقاف الصابئة المندائيين

مجلة آفاق مندائية - العدد 45 السنة الرابعة عشر - نيسان 2009

 

اتصلوا بنا

أرشيف الاخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

 

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

   حركة التنوير المندائية وآفاقها الجديدة

موسى خميس

 

    اتسعت في الاونة الاخيرة دائرة حملة راية اليقظة الفكرية بين المندائيين، وشهدت محافلنا الاعلامية مخاضات تصارح الافكار النهضوية، وصار الحديث عن اسس النهضة والتنوير يتمايز عما جاء به عدد من مفكرينا ومثقفينا في العقود السابقة، واستبدلت الاسئلة بصدد المقايسات بين الواقع الثقافي والحضاري الحالي وامكانية استيعاب الاوضاع المستقبلية للطائفة المندائية. وباسئلة جديدة حول البحث عن هوية مستقلة تتخلى عن الماضي، وتبدأ من حيث بدأ ابناء الطائفة في العيش باوطان وثقافات جديدة.
    في السابق كان المندائيون يصغون الى ما يجيء به عدد من المستنيرين من مناضلين سياسيين ، والذين بنوا وجهات نظرهم على فكرة التقدم بالمعنى الاخلاقي والثقافي، وحاول العديد منهم ان يعيد انتاج فرضيات تبني نفسها على ايديولوجيات سياسية معينة، بنت نفسها هي الاخرى ،على التفسير الاقتصادي للتاريخ، والنظرية النسبية ونظرية التطور وغيرها من منجزات العقل الانساني الذي لازالت اجيالنا الجديدة تغرف من عطاءاتها الكبيرة، وما اكتسبه هذا الجيل التنويري للاستزادة منه وترجمة تلك المعارف وتعميمها. وفي كل محاولات رواد الحداثة، امثال نعيم بدوي وغضبان رومي وعشرات غيرهم، كانت تلك المحاولات تستجيب الى نزعة ترى بضرورة عدم الانحراف عما ترسمه الايديولوجيا. وبالطبع لم يقف مشروعهم التنويري عند هذه الحدود، بل حمل في طياته مضامين اجتماعية وانسانية على درجة من الريادة والتطور. وكان لابد ان تنشأ، بالمقابل، اجيال اخرى تحاول ان ترى بان التطور هو حالة من محاولات الارتقاء المرتبط بتقدم العلوم والكشوفات والتكنولوجيا الجديدة ، على ضوء ما فرزته الاوضاع السياسية من متغيرات اجبرت غالبيته المندائيين للنزوح الى عوالم جديدة لتشكل لهم اوطان وبيئات جديدة تحتضن تاريخهم وتراثهم وآمالهم وطموحاتهم.
    لقد انفتحت العديد من بوابات العالم امام المندائيين، واصبحنا امام رياح التغييير التي كانت تعصف هنا وهناك، ومع ان الحملة التنويرية التي قادها الرواد لم تدم طويلا، غير انها زرعت بذور التطلع الى حياة مختلفة، توجت بمحاولات لاصلاح الشأن الديني وتشذيب ماعلق بجوهر الدين، الا ان الاوضاع السياسية التي كانت سائدة في البلاد ولعقود امتدت لعشرات السنين اجهضت كل محاولات الاصلاح والتحديث، فتركزت الجهود خلال عقدين من الزمن اثناء حكم النظام السابق على الاكتفاء وحفظ الذات المندائية مما يواجهها من مخاطر, وكانت الطليعة المندائية المتعلمة قد عانت من المحاولات المتسلطة في تحجيم وجود ابناء الاقليات الدينية المعنوي وضربه باي ثمن، فانصب همها على كيفية الحفاظ على ابناء المندائية واستمرار وجودهم الانساني.
    اعتبر مريدوا النهضة المندائية الايمان بالعلم سلاحا ماضيا لادارة معاركهم ضد شيوع الكثير من الافكار والممارسات الغيبية التي كانت في احيان كثيرة تتحكم في مفاصل الحياة الاجتماعية. لذا صاغوا خطابهم النهضوي على البنية العلمية اولا، واضعين امامهم مهمة اشاعة هذا المنحى وتبسيطه امام المندائيين اينما تواجدوا في مدن العراق، فظهرت اول اصداراتهم، من خلال عدد من الترجمات والكتابات الصحفية، حيث اعلنوا ايمانهم بنظرية التطور ومادية الكون، وقدسية الجوهر المندائي، وكانوا اينما حلوا، منابر ريادية في الدعوة الى تبني الفكر الانساني الجديد الذي يبني نفسه على احترام حقوق الانسان، كما دعوا الى بناء انسان المستقبل وتمجيد عقله والتثقيف بقيمته وتمجيد روحه. ودعوا الى حرية المرأة وسفورها والاهتمام بادبها ،التي يضمن ديننا حريتها ومساواتها الكاملة مع الرجل. ومع ان كتابات بعضهم( الراحل نعيم بدوي) كانت بعيدة عن التخصص، وتخضع الى نزعة انتقائية في ميادين التربية والتعليم وحرية المرأة، غير ان من يطلع عليها في وقتنا الحاضر يدرك اهمية المعارف التي كانت تضخها الى مواطن عصرها، وجرأتها في تناول كل الظاهرات، وبعقل ديمقراطي لايقف عند حدود للتحرك. فقد نجد عدد من المقالات التي نشرها ببعض الصحف والمجلات ،تنحو نحو تلمس الحقيقة دون عوائق او حدود مسبقة، مغ ان الرجل عانى من الاضطهاد والفصل الوظيفي والحرمان ودخل السجون( سجن نقرة السلمان والحلة).
    لقد وجد ممثلو هذا التيار، في انتشار منطق العقل في الغرب، ومنطلقاته لفهم الطبيعة والكون، مفتاح السر لتشكل النهضة التي كانوا يطمحون لتحقيقها، فغدت مهمتهم في تمجيد العقل ، تعني ضمنا، ايجاد منطق للصراع مع الافكار السلفية بتقويض سلطتها في الوجدان الشعبي المندائي لكي يقوى على النهوض بمنطق سجالي، بعيدا عن المسلمات التي صاغتها تلك المعتقدات التي اكتسب الفرد المندائي بعضها من جيرانه الذي عايشهم مئات من السنين.
    اسس كل من هؤلاء مشروعه المعرفي على منظومة الثقافة العالمية الحديثة، التي ألم كل منهم بجوانب واسعة ومتعددة منها، وحول كل منهم ان يوصلها الى القارىء والمستمع في اطار ينطوي على نزعة انطولوجية تتناسب مع مراحل معينة مررنا بها في واقع تطور الفكر بصورة عامة. ويعود فضل مساهماتهم الكتابية الى اتجاهاتها التربوية التي بنوا فيها اجتهاداتهم على وقائع تاريخية وشخصيات ونماذج تولوا التعريف بها وبفكرها ونزعاتها ومصائرها، وكان اسلوبهم، على وجه العموم، منبريا على طريقة دعاة العصر، يعتمد على التشويق والجذب، وادهاش القارىء والمستمع، واثارة اهتمامه، دونما يحاول اي منهم ، البحث في المجردات، او الغوص المعقد في عمق الافكار والمفاهيم التي يطرحها. واتذكر عندما كلفني الخال الراحل نعيم بدوي بتصميم غلاف كتاب حكايات واساطير مندائية للمستشرقة الليدي درووار، الذي ترجمه مع المربي الراحل صديق عمره غضبان رومي ، استفسرت منه حينها عن مدى اهمية ترجمة كتاب عن اساطير وخرافات مندائية، في الوقت الذي يحتاج به المندائي الى معرفة الفكر والثقافة والفلسفة الغنوصية العريقة، فقال لي( لا نستطيع ان نتصور نهضة عصرية لطائفتنا ، مالم تقم على مبادىء الحرية والمساواة والدستور مع النظرية العلمية والى جانبها فهم التراث والاساطير، فلكي نبعد هيمنة الفكر الغيبي والتخلف، علينا قراءة هذا الفكر ونتاجاته، وعلينا ان نعزز ثقافتنا بموروثنا لتجاوز محدوية الفكر الفقير).
    بعد الضربة التي وجهت للطائفة المندائية في السنوات الاخيرة اثر اسقاط النظام السابق، وما اصبنا به من حالة تشتت خطيرة لايعرف مدى ابعادها السلبية على استمرارية الوجود المندائي في المستقبل البعيد، فان الخطاب المندائي حاليا الذي شابه في البدايات الكثير من التلاوين التي تأثرت وللاسف بانتماءات البعض السياسية الى الفكر القومي العربي الضيق، الا ان هذا التيار الجديد بكل اجنحته الاكثر توقا لتحقيق العدالة والمساواة والحرية، يرى بان العامل الثقافي، هو المنهج الامثل بالتطور التدريجي وعدم الضياع الذي يخلقه هذا التشتت الجغرافي. ان التيار الجديد يرى بعد التجارب السياسية التي اتصفت بالمرارة والالم والضراوة ، تحتم بضرورة بقاء المثقف والمفكر بعيدا عن الانتماءات والميول والاتجاهات، ليظل فكر المثقف المندائي في حالة تشكل مستمر، وبالاخص تصوره عن النظام الاجتماعي الذي ينبغي على الكتل المندائية ان تبنيه لنفسها وهي داخل بناءات اجتماعية وفكرية متحضرة وجديدة.
    ينبغي ان تكون لنا كمثقفين مندائيين ، ثوابت اساسية لافكارنا الجديدة ، تدعنا نعتقد بان بناء النهضة التنويرية المعاصرة الاوائل كانوا وحتى النهاية ، اوفياء لفكرة حرية الانسان. وان اليوم اختلفنا في تصوراتنا في اساليب التطبيق، فليس لنا ما نخافه بعد ما اصابنا هذا الكم الكبير من المظالم،كما ليس لنا ان نخلق مسافات بيننا وبين كل من يقترب الى حقوقنا الانسانية المشروعة، الا ان علينا ان لا نضع مسافة مع اي دعوة للتجديد واعادة النظر بما اصاب تراثنا ومعتقداتنا وفلسفة ديننا العميقة، لان على عاتق اي منا مسؤولية يمارسها كل منا فلكل عصر ثقافته و بلاغته الخاصة به.
    علينا ابتكار اساليب جديدة للتعيير، في اساليبنا التي ينبغي ان تخدم افكارنا، لان الفكرة ينبغي ان تكون في خدمة الحياة والمجتمع والتقدم، وان التزامنا بقضيتنا الانسانية يجب ان تنطلق من نظرة شمولية ترى ما لم يلحظه الاخرون، وتسبر اعماق المحنة الخفية وتظهر عيوبها وتحدد افاقها الجديدة في الوقت نفسه. على جيل التنوير المندائي الجديد التفاعل مع الحياة الجديدة، وغاية المثقف ان يحول همه الذاتي الى هم الجماعة التي ينتمي روحيا اليها، وواجبه ان يسخر قلمه في المعارك ضد الطغاة والانتهازيين والساقطين والمزايدين، وفي هذا الامر نبقى اوفياء للافكار النهضوية التي بشر بها الجيل الراحل، ولنا بعدد من رجال ديننا المتنورين عونا في دخول عالم الحداثة ما دمنا جميعا نحتفظ بقيمة وجوهر هذه الديانة التي لاتعوض.