الأخبــــــــــار
سر الزواج في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية
لأب سالم ساكا
المقدمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
في السابع من كانون الأول من العام 1965 وَقَّعَ السعيد الذكر
البابا بولس السادس، وجميع الأساقفة المشاركين، ونشر وثائق
المجمع الفاتيكاني الثاني بخصوص موضوع ''الكنيسة في العالم''.
تَتحدَّثْ هذه الوثائق على كرامة الإنسان الشخصية من حيث أنَّه
صورة الله، قادر أن يعرف ويُحبَّ خالقه الذي أقامه سيِّداً على
كلِّ المخلوقات الأرضية ليَتسلَّط عليها ويستخدمها مُمِّجداً
الله (فرح ورجاء، العدد/12-13).
إنَّ الإنسان لكونه يشترك بنور العقل الإلهي، يحقُّ له أن
يُفكِّر، إنَّه يفوق بعقله عالم الأشياء. إنَّ طبيعة الإنسان
هذه العاقلة تجد كمالها في الحكمة. إنَّ هذه لتجذب بعذوبة وقوة
عقل الإنسان إلى البحث عن الحقِّ والخير وإلى محبَّتهما.
فالإنسان الذي يتغذَّى من ذلك يُقاد من العالم المنظور إلى غير
المنظور (فرح ورجاء، العدد/15، 1-2). الإنسان يتَّجه نحو الخير
بملء حريَّته، وفقط عندما يتخلَّص من عبودية الأهواء يحصل على
هذه الكرامة، كرامة الحريَّة (فرح ورجاء/17). إنَّ الإنسان
وعظمته لا يمكن أن تُفهم حقاً إلاّ من خلال سرِّ الكلمة
المُتجسِّد، يسوع المسيح، آدم الجديد. إنَّه الإله الكامل
والإنسان الكامل، لقد أخذ طبيعتنا البشرية دون أن يمتصَّها
فرفع هكذا طبيعتنا أيضاً إلى مرتبة وكرامة لا مثيل لهما (فرح
ورجاء، العدد/ 22، 1-2) . الإنسان بالإضافة إلى كرامته الشخصية
إنَّه فرد إجتماعي. وإنَّ ميزة الإجتماعية التي يَتميَّز بها
الإنسان تُظِهر أنَّ هناك إرتباطاً بين إنطلاقة الشخص وتقدُّم
المجتمع ذاته. فالشخص الإنساني، بطبيعته نفسها هو بحاجة ماسَّة
إلى حياة إجتماعية. فالحياة الإجتماعية ليست للإنسان شيئاً
إضافياً: فبالتبادل والحوار مع إخوته البشر وبالخدمات التي
يؤدِّيها الواحد للآخر، ينمو الإنسان وفقاً لطاقاته ويستطيع أن
يجيب على دعوته. ومن الروابط الإجتماعية الضرورية لإنطلاقة
الإنسان أنَّ بعضها يتَّفق مباشرةً وطبيعته الحميمية
''كالعائلة'' (فرح ورجاء، العدد/25، 1-2). من هذا المنطلق
سنُسلِّط الضوء على موضوع ''سرُّ الزواج'' مستندين إلى المبادئ
التي أتانا بها المسيح من خلال الكتاب المُقدَّس وما جاء في
''التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية''.
تعريف سرُّ الزواج
''عقدُ الزواجِ الذي صنعه الخالقُ ونظَّمه بشرائعه، والذي به
يُنشئُ الرجلُ والمرأةُ، برضى شخصيّ لا نكوص عنه، شركةً بينهما
في الحياةِ كلِّها، من طبيعته أن يهدف إلى خيرِ الزوجين وإلى
إنجاب البنينَ وتنشئتهم'' (القانون/776 -البند1). إنَّ وثيقة
المجمع الفاتيكاني الثاني ''الكنيسة في عالم اليوم'' تلقي
الضوء على مفهوم الزواج كعهدٍ بين أشخاص ينوون العيش المشترك
في الحبِّ والحياة: ''لقد أسَّس الخالق وَجهَّز بشرائع خاصة
تلك الشركة العميقة في الحبِّ والحياة التي يؤلِّفها الزوجان:
إنَّها تقوم على إتفاق القرينين أي على رضاهما الشخصي الذي لا
يُنقض. إنَّها لمؤسَّسة تُثبِّتها الشريعة الإلهية وتنبثق، في
نظر المجتمع نفسه، عن العمل البشري الذي به يعطي كلُّ من
الزوجين ذاته للآخر ويقبل الآخر. ''إنَّ هذا الرباط المُقدَّس
لا يخضع لهوى الإنسان. إنَّ غاية الزواج هو خير الزوجين
والأولاد والمجتمع أيضاً (…) فالرجل والمرأة أصبحا بعقد الزواج
جسداً واحداً لا إثنين (متى 19: 6) ليعاضدا هكذا ويساعدا
أحدُهما الآخر بإتِّحاد شخصيتهما وأعمالهما الإتِّحاد الوثيق
(…). إنَّ هذا الإتِّحاد الوثيق الذي هو عطاء متبادل بين
شخصين، كما أنَّ خير الأولاد، يتطلَّبان أمانة الزوجين المطلقة
ويقضيان بوحدة لا تقبل الحلَّ'' (فرح ورجاء/48). إنَّ أهداف
الزواج لا يمكن أن تخضع لحكم الإنسان، لأنَّ الله ذاته هو واضع
شريعة الزواج ومزوِِّدُه بالقيم والأهداف. إنَّ الأهداف
الأساسية لشركة الزواج هي خير الزوجين والأولاد. هذا الخير
الكلّي للزوجين وللأولاد هو من ضمن مُخطَّط الله الخالق. في
مُخطَّط الله يصبح الزوجان في الزواج أيضاً والدين، يتعاونان
يساهمان بشجاعة في حبِّ الله الخالق والفادي الذي يريد
بواستطهما أن تكبر دائماً عائلته بالذات وتزداد غنى. ''غير
أنَّ الزواج لم يُؤسَّس لإنجاب البنين فقط، إنَّما طبيعة العهد
غير المُنْحَلْ القائم بالزواج وخير البنين أيضاً تقضي بأن
يكون الحبُّ المتبادل مُعبَّراً عنه بالإستقامة، بأن يَتقدَّم
ويزدهر. ولذلك حتى وإن لم يكن من أولاد، وإن يكن ذلك معاكساً
لرغبة الزوجين الشديدة، فالزواج كتعاون وإتِّحاد يشمل الحياة
كلِّها ويبقى يحتفظ بقيمته وبعدم إنفصامه'' (فرح ورجاء 3/50).
الزواج في تصميم الله.
وحدة الزواج وعدم إنحلاله:
لنقرأ النصوص الإنجيلية التالية ليتأكد لنا بأنَّ الزواج
المسيحي لا يمكن إلاّ وأن يتَّصف بالوحدة وعدم الإنحلال:
(متى5: 31-32؛ 19: 3-9؛ لوقا 1: 18؛ رومية 7: 1-31؛ قورنثس 7:
2؛ و10-11 و39؛ آفسس 5: 33). مع ذلك قد قيل: ''مَن طلَّق
إمرأته، فليعطها كتاب طلاق. أمّا أنا فأقول لكم: مَن طلَّق
إمرأته، إلاّ في حالة الفحشاء عرَّضها للزنى، ومَن تزوَّج
مطلَّقة فقد زنى'' (متى 5: 31-32).
إنَّ الوثاق الدائم وغير القابل للإنحلال الذي يَتميَّز به
الزواج أعلنه آدم بإلهام من الروح القدس، يوم قال: ''هذه
المرأة هي عظم من عظامي ولحم من لحمي. ولذلك يترك الرجل أباه
وأمَّه ويلزم إمرأته فيصيران جسداً واحداً'' (تكوين 2: 23؛
آفسس 5: 31) وأن لا يجمع ويربط هذا الوثاق إلاّ بين شخصين
(1قورنثس 7: 2)، فلقد علَّمه الربَّ يسوع بوضوح أكبر، حين
ذكَّر بهذا الكلام وكأنَّه من فم الله، وقال:''فلا يكونان
إثنين بعد ذلك، بل جسد واحد'' (متى19: 6)، وأكَّد فوراً متانة
هذا الوثاق بالكلمات التي سبق لآدم أن قالها منذ زمنٍ بعيد
''فما جمعه الله لا يُفرِّقه الإنسان'' (متى19: 6).
في قرارات المجمع التريدنتيني (المسكوني التاسع عشر) عام 1563
حول موضوع الزواج، جاء مبيِّناً بأنَّ وثاق الزواج لا يحلَّه
زنى أحد الزوجين، وبأنَّه لا أحد منهما، حتى البريء الذي لم
يكن سبب الزنى، يستطيع، مادام الزوج الآخر على قيد الحياة، أن
يعقد زواجاً آخر. يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل رومية:
''أوَتجهلون، أيُّها الإخوة، وإنّي أكلِّم قوماً يعرفون
الشريعة، أنَّ لا سُلطة للشريعة على الإنسان إلاّ وهو حيّ؟
فالمرأة المتزوِّجة تربطها الشريعة بالرجل ما دام حيّاً، فإذا
مات حُلَّتْ من الشريعة التي تربطها بزوحها. وإن صارت إلى رجل
آخر وزوجها حيّ، عُدَّتْ زانية. وإذا مات الزوجُ تَحرَّرَتْ من
الشريعة، فلا تكونُ زانيةً إذا صارت إلى رجل آخر''(رومية 7:
1-3). أمّا ما يخصُّ الفراق، نقرأ في رسالة القديس بولس الأولى
إلى أهل قورنتس: ''وأمّا المتزوِّجون فأوصيهم، ولست أنا
الموصي، بل الربّ، بأن لا تفارقَ المرأةُ زوجها، وإن فارقته
فلْتَبقَ غير متزوِّجة أو فلتصالِح زوجها، وبألاّ يتخلَّى
الزوجُ عن إمرأته''(1قورنثس 7: 10-11). أمّا قول القديس بولس
''إنَّ المرأة تظلُّ مرتبطة بزوجها ما دام حيّاً، فإن مات
زوجها أصبحت حُرَّة، لها أن تتزوَّج مَنْ شاءت، ولكن زواجاً في
الربِّ فقط'' (1قورنثس 7: 39) أي يجب أن تتزوَّج من رجل مسيحي.
جاء المسيح إذن ليعيد الخليقة إلى نظامها الأول الذي بلبلته
الخطيئة، وهو يؤتينا من القوة والنِعمة ما يُمكِّننا من أن
نعيش الزواج في بُعده الجديد. فالأزواج لن يُدركوا (متى19: 11)
معنى الزواج، في معناه الأصلي ولن يتمكَّنوا من أن يعيشوه
بمعونة المسيح، إلاّ إذا إتَّبعوا المسيح وزهِدوا في أنفسهم،
وحملوا صليبهم (مرقس 8/34). نعمة الزواج هذه إنَّما هي ثمرة
صليب المسيح ومصدر كلِّ حياة مسيحية (آفسس 5: 25-26).
قداسة الزواج (1تسالونيقي 4: 3-8؛
عبرانيين 13: 4): ''إنَّ مشيئة الله إنَّما هي تقديسكم،
ذاك بأن تجتنِبوا الزنى وأن يُحسن كلُّ منكم إتِّخاذ إمرأةٍ في
القداسة والحرمة فلا يدع الشهوة تستولي عليه كما تستولي على
الوثنيين الذين لا يعرفون الله، ولا يُلحِق بأخيه أذىً أو
ظلماً في هذا الشأن، لأنَّ الربَّ ينتقم في هذه الأشياء
كلِّها، كما قلنا لكم قبلاً وشهدنا به، فإنَّ الله لم يدعُنا
إلى النجاسة، بل إلى القداسة. فمَنْ يستهين إذاً بذلك التعليم
لا يستهين بإنسان، بل يستهين بالله الذي يهبُ لكم روحه
القدوس'' (1تسالونيقي 4: 3-8). ويضيف: ''ليكن الزواج مُكرَّماً
عند جميع الناس، وليكن الفراش بريئاً من الدنس، فإنَّ الزناة
والفاسقين سيدينهم الله'' (عبرانيين 13: 4). إنَّ الربَّ يسوع
غمر ببركاته هذا الحبَّ المُتعدِّدَ الوجوه (حبُّ الزوجين
لبعضهما البعض، حبُّ الوالدين لأولادهم، حبُّ الأبناء لآبائهم)
والصادر عن ينبوع المحبة الإلهيّ، والقائم على صورة إتِّحاد
المسيح بالكنيسة. إنَّ الحبَّ الزوجيّ الحقيقيّ يرتكز على
الحبِّ الإلهي، وهو يستمدُّ معالم طريقه وغناه من قوة المسيح
الفدائية ومن عمل الكنيسة الخلاصيّ، حتى يقود الزوجين إلى الله
بطريقة فعليَّة ويساعدهما ويؤيِّدهما أباً وأماً في مهمَّتهما
السامية (فرح ورجاء/11، 35، 41).
لذلك يجد الأزواج المسيحيون في هذا السرِّ الخاصّ عوناً وشبه
تكريس، وبقوة هذا السرِّ يقومون بمهمَّتهم الروحية والعائلية،
تغمر روح المسيح حياتهم بالإيمان والرجاء والمحبة، فيزدادون
بلوغاً إلى كمالهم الذاتي وإلى قداستهم المتبادلة، وهكذا
يسهمون معاً في تمجيد الله. الأبناء، وجميع الذين يعيشون في
نطاق العائلة، وقد تقدَّمهم ذووهم بالمثل والصلاة العائلية،
يكتشفون بأشدِّ سهولة طريق السلوك الإنسانيّ والخلاص والقداسة.
أمّا الأزواج، وقد خُصّوا بشرف الأبوَّة والأمومة ودورهما،
فإنَّهم يبذلون قُصارى جهدهم في القيام بواجب التربية، ولاسيما
التربية الدينية، وهو الواجب الذي يقع عليهم بالدرجة الأولى.
ولمّا كان الأولاد أعضاءً فاعلين في العائلة، فإنَّهم يعملون
بطريقتهم الخاصّة على تقديس والديهم. وهم بروح عرفان الجميل
والبرِّ البنويّ والثقة المخلصة، يُكافئونهم، وبأخلاق البنوّة
يرعونهم في شدائدهم وفي عزلة شيخوختهم.
وعلى الجميع أن يحترموا الترمُّل بشجاعة الروح في خطِّ الدعوة
الروحية ''لاتُعنِّفْ شيخاً، بل عِظْه وعظَكَ لأبٍ لك، وعِظْ
الشبّان وَعْظَكَ لإخوةٍ لك، والعجائز وَعظَكَ لأمُّهاتٍ لك،
والشابات وَعْظَكَ لأخواتٍ لك، بكلِّ عفاف'' (1طيماثوس 5/3).
ولكلِّ عائلة أن تتبادل مع غيرها الخيرات الزمنيَّة بسخاء.
وهكذا فالعائلة المسيحية، وقد صدرت عن زواج هو صورة لإتِّحاد
المحبَّة بين المسيح والكنيسة وإشتراك فيه، تُظهر للجميع ما
للمُخلِّص من حضور حيٍّ في العالم، كما تُظهر طبيعة الكنيسة
الحقيقة، سواء كان ذلك بالحبِّ الروحي والخصب والمثمر والوحدة
والأمانة، أو بالتعاون الودّي عند جميع الأعضاء.
الزواج هو أحد أسرار الكنيسة السبعة، والذي يجعل منه سِرّاً
هو أنَّه علامة مُقدَّسةٌ تهب النعمة وتُمثِّل عرس المسيح
والكنيسة السرّي. ويُعبِّرْ عن شكلِ هذا العرس وصورته في وثاق
الإتِّحاد الحميم الذي يربط بين الرجل والمرأة، والذي ليس هو
إلاّ الزواج نفسه. ومن ذلك ينتج أنَّ كلَّ زواج مشروع بين
المسيحيين هو في حدِّ ذاته وبطبيعته سرٌّ من الأسرار.
الواجبات التي تنشأ من سرِّ
الزواج: ''وليقضِ الزوجُ إمرأته حقَّها، وكذلك المرأة
حقَّ زوجها. لا سُلطة للمرأة على جسدها فإنَّما السلطة لزوجها،
وكذلك الزوج لا سلطة له على جسده فإنَّما السلطة للمرأة، لا
يمنع أحدكما الآخر إلاّ على إتِّفاق بينكما وإلى حين كي تتفرغا
للصلاة، ثمَّ عودا إلى الحياة الزوجيّة لئلا يُجربكما الشيطان
لقلَّة عفَّتكما'' (1قورنثس 7/3-5). بذل النفس هو القاعدة في
العلاقات الزوجية، وكلُّ إستخدام أناني للزواج مرفوض. الإمتناع
بين الزوجين الذي يَتحدَّث عنه القديس بولس يجيزه لفترات
محدودة ولا يجعل منه واجباً.
في أفسس5: 22-33 وقولسي3: 18-19 وطيموتاوس2: 11-15 يَتحدَّثْ
القديس بولس عن الأخلاق البيتية التي يجب أن تسود في الأسرة
الواحدة بين الزوجين، بحيث نجد بأنَّ العلاقة الزوجية تقوم على
العلاقة بين المسيح والكنيسة وهي تلقي من جهتها ضوءًا عليها
(طيطس 2: 4-5؛ ا بطرس 3: 1-7).
الزواج تحت حكم الخطيئة
على الرغم ممّا ذُكِرَ حتى الآن بخصوص قداسة الزواج وعلى أنَّه
مؤسَّسة إلهية وقد سنَّ الله شرائعه، إلاّ أنَّنا نجد
تَصدُّعاً للشركة الأصلية بين أول رجل وأول إمرأة، بين آدم
وحواء. لقد توشَّحت علاقاتهما باتهامات متبادلة (تكوين 3: 12)،
وميلُ أحدهما إلى الآخر، وهو الهبة التي حباها الله نفسه لهما
(تكوين 2: 22) تحوَّلت إلى علاقات تَسلُّط وشهوة (تكوين 3/16)
ودعوتهما الجميلة إلى الخصب والتكاثر وإخضاع الأرض (تكوين 1:
28) أمست مرهقةً بأوجاعِ الولادة وكسب الرزق (تكوين 3: 16-19).
إنَّ إيماننا يُعلِّمنا أنَّ هذه البلبلة لا تأتي من طبيعة
الرجل والمرأة ولا من طبيعة علاقاتهما، بل من الخطيئة،
فالخطيئة تعني الفوضى، الفوضى في العلاقة مع الخالق ومع بعضنا
البعض. كما وأنَّ العلاقات بين الرجل والمرأة حتى يومنا هي
دائماً عرضةً للخلاف، وروح التَسلُّط والخيانة والسيطرة
والصراعات قد تصل إلى حدِّ الكراهية والقطيعة. لا يمكن
للمُجرِّب وللخطيئة بأن يُغيِّرا من نظام الخلق، إنَّ الله في
رحمته اللامتناهية لا يبخل بمنح نعمه لشفاء جروح الخطيئة،
وبدون هذه المعونة يعجز الرجل والمرأة عن تحقيق وحدة حياتهما
التي لأجلها خلقهما الله ''منذ البدء'' (تكوين 3:21). وما
تُعاقَبُ به الخطيئة من أوجاع الولادة، والعملُ بعرق الجبين،
إنَّما هو من قِبَلِ العلاجات التي تحدُّ من شرور الخطيئة. بعد
السقطة، يساعد الزواج في التغلُّب على الإنطواء على الذات و
''الأنانية'' والبحث عن اللذَّة، كما يساعد في الإنفتاح على
الغير والتعاون وبذل الذات.
الإحتفال بالزواج
في ما يتعلَّق بصورة الاحتفال الصحيح بزواج مسيحي، فإنَّ
الحضور الفعّال للكاهن وأقلَّه لشاهدينْ ضروري، ويتمُّ بحسب
تقليد وطقوس كلِّ كنيسة ذاتية الحقِّ.
- بحسب التقليد اللاتيني: الزوجان هما خادما نِعمة الزواج،
يمنحان أحدهما الآخر سرَّ الزواج بالإعراب عن رضاهما أمام
الكنيسة (القانون/1623 من مجموعة الحقِّ القانوني الخاصِّ
بالكنيسة اللاتينية). ويتمُّ عادةً في غضون القداس، بداعي
الصلة القائمة بين جميع الأسرار وسرِّ المسيح الفصحي. ففي
الإفخارستيا نُحيي ذكرى العهد الجديد الذي فيه إتَّحد المسيح
إلى الأبد بالكنيسة عروسه الحبيبة التي ضحَّى بذاته لأجلها.
فيجدر إذن بالزوجين أن يُرسِّخا توافقهما على تواهب الذات
والحياة باتِّحادهما بالمسيح في تقديم ذاته لأجل الكنيسة
(القانون/1621).
- أما في تقاليد الكنائس الشرقية، فالمحتفلون -أساقفة أو
كهنة- هم شهودٌ على الرضى المتبادل بين الزوجين (القانون/817
من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية)، ولكن بركتهم ضرورية أيضاً
لصحَّة السرِّ (القانون/828 من مجموعة قوانين الكنائس
الشرقيّة). الليتورجيات على أنواعها، حافلة بصلوات البركة
والدعاء، تتوجَّه الكنيسة إلى الله بطلب نعمه وبركاته للزوجين.
وفي صلاة الاستدعاء الملحوظة في حفلة الزفاف، ينال الزوجان
الروح القدس عربون شركة الحبِّ بين المسيح والكنيسة. فالمسيح
هو خاتم ميثاقهما ومصدر حبِّهما على مدى الزمن، والقوة التي
بها تَتجدَّد أمانتهما (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،
العدد/1624).
فعلى العروسين ألاّ يَشغُل بالَهما أمام الهيكل إلاّ
حضورُهُما أمام الربِّ الذي يمنحهما هذه النعمة العظيمة
وإصغاؤهما إلى تعاليم الكنيسة بخصوص الزواج، وأن يُصلِّيا في
قلبهما كي يتمكَّنا بأن يتشبَّها دائماً بعلاقة المسيح بعروسه
الكنيسة، من تضحية ومحبَّة وليحافظ على عفَّة وقداسة عهد
الزواج هذا. أمّا فيما يخصُّ التهيئة المألوفة لسرِّ الزواج
فهي تضمُّ الخطوبة وتدريب الخطيبين والمناديات. وأنَّ التفسيح
من موانع الزواج (القرابة الدموية، القرابة الروحية، العمر،
رباط زوجي سابق وموجود، إختلاف الدين، الرسامات الكبرى، النذور
الاحتفالية، إلخ...) يجب أن يُنال التفسيح منها من قِبَل
الرئيس الكنسي الخاصّ قبل الاحتفال بمراسيم الزواج. الرضى في
الزواج طرفا الميثاق الزوجيّ هما رجل وإمرأة مُعمَّدان، طليقان
من كلِّ قيد زواجيّ يُعربان بحريَّة عن رضاهما: وتقوم
''الحريَّة'' هنا على ما يلي:
- أن لا يُمارَس أيُّ ضغطٍ على طالب (أو طالبة) الزواج؛
- ألاّ يحول دون زواجهما أيَّ مانع طبيعيّ أو كنسيّ.
مفاعيلُ سرُّ الزواج
الوثاق الروحي: إنَّ الرضى الذي يتبادله الزوجان عطاءً ذاتياً
وقبولاً، يختمه الله نفسه. ومن هذا الميثاق ''تنشأ مؤسَّسة
يُثبِّتها الشرع الإلهي'' (التعليم المسيحي للكنيسة
الكاثوليكية، العدد/1639). الوثاق الزوجي يقيمه إذن الله نفسه،
فينجم عن ذلك أنَّ الزواج المحتفل به والمكتمل بين مُعمَّدين
لا يجوز أبداً حلَّه… وليس في مقدور الكنيسة أن تتصدَّى لهذا
الترتيب الذي شاءته الحكمة الإلهية (التعليم المسيحي للكنيسة
الكاثوليكية، العدد/1940). إنَّ السبب الوجيه الذي يدعو إلى
تلك الإرادة الإلهية نجده في المعنى السرّي الذي يمتاز به
الزواج المسيحي، الذي يَتحقَّق بوجه تامٍّ وكامل في الزواج
المُتمَّمْ بين المؤمنين. فإنَّ بولس الرسول يشهد ويقول في
رسالته إلى أهل أفسس بأنَّ زواج المسيحيين يُمثِّل الإتِّحاد
الكامل والقائم بين المسيح والكنيسة: ''إنَّ هذا السرّ لعظيم،
وإني أقول هذا في المسيح والكنيسة'' (آفسس5: 32). هذا
الإتِّحاد، ما دام المسيح يحيا وما دامت الكنيسة تحيا به، لا
يمكن أنْ يذوب من جرّاء أيِّ إنفصال. وهذا التعليم يلقيه علينا
أيضاً القديس أوغسطينوس عندما يؤكِّد قائلاً: ''إليكم ما
يُحافَظ عليه في المسيح والكنيسة: لا يجوز للزوجين أن يفسخا
حياتهما المشتركة بواسطة أيِّ طلاق. إنَّ إعتبار هذا السرّ هو
عظيم في مدينة الله أي كنيسة المسيح، حتى إنَّه، حين تُزوَّج
النساء لإنجاب الأولاد، لا يجوز أنْ تُترك المرأة العاقر
للزواج من إمرأة خصبة. نعمةُ سرِّ الزواج: إنَّ هذا السرّ في
الذين لا يضعون أمامه عقبة، لا يُنمّي النعمة المُقدَّسة فقط،
وهو مبدأ دائم للحياة الفائقة الطبيعة، بل يُضيف عليها أيضاً
نِعماً خاصة، ومبادرات صالحة، وبذورَ نِعم. وهو يرفع بذلك
ويُحسِّنْ القوى الطبيعية، لكي يستطيع الزوجان، لا أن يفهما
فقط بالعقل، بل أن يَتذوَّقا في العمق وأن يحفظا بثبات ويريدا
بالفعل ويُتِّما بالعمل ما يختصُّ بالحالة الزوجية وغاياتها
وواجباتها. ويمنحهما الحقَّ في عون النِعمة الحالي، كلَّما
إحتاجا إليه، لإتمام واجبات هذه الحالة (من رسالة البابا بيوس
الحادي عشر ''الزواج الطاهر'').
فوائدُ الحبِّ الزوجي ومقتضياته
-وحدة الزواج وديمومته: الحبُّ بين الزوجين يقتضي، من ذات
طبيعته، الوحدة والديمومة في شركةٍ شخصيةٍ تشمل الحياة كلِّها:
''هكذا ليسا هما بعد إثنين، بل جسد واحد'' (متى 19/6). إنَّهما
مدعوان إلى أن ينموا كلَّ يوم في شركتِهما، عبر الأمانة
اليومية للوعد الذي يَتضمَّنه الزواج بتبادل العطاء كاملاً.
هذه الشركة البشرية تَتثبَّتْ وَتتنقَّى وتكتمل بالشركة في
يسوع المسيح، النابعة من سرِّ الزواج، وَتتعمَّقْ باشتراك
الزوجين في حياة الإيمان وفي الافخارستيّا''(التعليم المسيحي
للكنيسة الكاثوليكية، العدد/1644). المساواة في الكرامة
الشخصية التي يجب الإعتراف بها للمرأة والرجل، في نطاق الحبِّ
المتبادل والكامل، تُظهر بوضوح وحدة الزواج التي ثَبَّتها
الربُّ يسوع. تَعدُّدُ الزوجات ينقض هذه المساواة في الكرامة،
ويناقض الحبَّ الزوجي في وحدانيَّته ومطلقيَّته'' (التعليم
المسحي للكنيسة الكاثوليكية، العدد/1645).
- أمانةُ الحبِّ الزوجي: كثيرون من أبناء هذا العصر يشيدون
بالحبِّ الحقيقيّ القائم بين الزوج والزوجة والذي يظهر بوجوه
تختلف باختلاف ما للشعوب والأجيال من عادات وتقاليد سليمة.
وهذا الحبُّ الإنسانيّ الرائع، في كونه إنعطافاً إرادياً من
شخص إلى شخص آخر، يشتمل على خير الشخص البشري بكامله، وهو من
ثمَّ يستطيع أن يُغني تعبيرات الجسد والروح بشرفٍ خاصٍّ، وأن
يضفي عليها قيمةً وسطوعاً على أنَّها مقومات الصداقة الزوجية
وعلاماتها الخاصة. وقد إرتضى الربُّ، بلمسة خاصَّة من نعمته
ومحبَّته، أن يعافي هذا الحبَّ ويكمِّله ويسمو به. وحبٌّ كهذا،
يجمع في ذاته البشريّ والإلهيّ، يقود الأزواج إلى تبادل في
العطاء الذاتيّ الحرّ يظهر في العاطفة والتعامل، وَيتخلَّل في
الحياة كلِّها. بالإضافة إلى أنَّه يكتمل وينمو بالممارسة
السخيَّة.
فهو يتفوَّق تفوّقاً شديداً على الميل الشهوانيّ المُجرَّد
الذي يَتبخَّر بسرعة وبطريقة يُرثى لها، إذا تمت ممارسته
بأنانية. هذا الحبُّ الذي أقرَّه التَعهُّد المتبادل، والذي،
فوق كلّ شيء، قدَّسه سرَّ المسيح يبقى في السرّاء والضرّاء على
أمانته الثابتة جسداً وفكراً، ويأبى من ثمَّ كلَّ زنى وكلَّ
طلاق. يجب تثقيف الشبّان تثقيفاً ملائماً في الزمان والطريقة،
ليحيطوا بكرامة الحبِّ الزوجيّ ومهمَّته وممارسته، وأفضل ما
يكون هذا التثقيف في حضن العائلة. فإذا نشأوا على الطهارة،
إستطاعوا في الوقت المناسب أن ينتقلوا إلى الزواج بعد خطبة
لائقة وخالية من الشوائب (تعليم الكنيسة الكاثوليكي،
العدد/1646؛ 1647؛ 1648؛ فرح ورجاء، العدد/49).
- الانفتاح على الخصب: الزواج والحبُّ الزوجي موجَّهان
بطبيعتهما إلى إنجاب النسل وتربيته. والأولاد أطيب مواهب
الزواج، وبهم أعظم الخير للوالدين أنفسهم. إنَّ واجب نقل
الحياة البشرية والتربية الذي يجب إعتباره رسالة الزواج الخاصة
يعرف أولئك الأزواج أنَه إشتراك منهم في محبَّة الله الخالق،
وأنَّهم فيه بمثابة المترجمين عن قصده تعالى. وعليهم من ثمَّ
أن يضطلعوا به بروح المسؤولية الإنسانية والمسيحية، وأن يعقدوا
لأنفسهم في ذلك حكماً سديداً، خاضعين لله خضوع إحترام،
ومتَّفقين في الفكر والعمل، فينظروا نظرة واحدة إلى ما فيه
طريق الولادة، ويتبيَّنوا أوضاعهم وأوضاع عصرهم المادية
والروحية، وأخيراً يحسبوا حساباً لخير الجماعة العائلية،
ولحاجات المجتمع الزمني وحاجات الكنيسة نفسها. وليعلم الأزواج
المسيحيون أنَّه لا يجوز لهم، في طريقة سلوكهم، أن يسيروا على
هواهم، بل عليهم أن يخضعوا أبداً لسلطان ضميرهم، على أن يكون
هذا الضمير في خطِّ الشريعة الإلهية، وعليهم أن يُذعنوا لسلطة
الكنيسة التعليمية التي تُفسِّرْ هذه الشريعة في ضوء الإنجيل
تفسيراً صحيحاً.
الزواج لم يوضع لإنجاب الأولاد فقط، بل تقضي طبيعة التَعهُّد
الذي يُعقد بين الأشخاص عقداً لا يقبل الفسخ، ويقضي خيرُ
الأولاد أن يَظْهرَ حبُّ الأزواجِ المتبادل قويمَ الطريقة، وأن
يُنمَّى ويقوَّى فيبلغ كمالُه. ولهذا فإنْ خَلا الزواجُ من
الأولاد، وكثيراً ما يكون ذلك بخلاف رغبة الأزواج الشديدة، فهو
يبقى رباطاً وإتِّحاداً مدى الحياة، ويحتفظ بقيمته وعدم قبوله
الانفصام. (تعليم الكنيسة الكاثوليكي، العدد/1652؛ 1653؛ 1654؛
فرح ورجاء، العدد/50).
الخاتمـــة
في أيامنا، وفي عالم بات، في معظم الأحوال، غريباً عن الإيمان
بل مناوئاً له، أصبحت العائلات المسيحية على جانبٍ كبير من
الأهمية، بصفتها مواقد إيمانٍ حيٍّ ومشعّ، إنَّها ''الكنيسة
البيتية''. فعلى الوالدين أن يكونوا لأبنائهم في شؤون الإيمان
أول المُعلِّمين والمثال، وأن يُعنَوا بدعوة كلٍّ منهم ولاسيما
الدعوة المُقدَّسة… بقبول الأسرار ثمَّ بالصلاة والحمد وشهادة
السيرة المُقدَّسة، ثمَّ بنكران الذات والمحبَّة الفعّالة… في
البيت يَتعلَّم الولد الصبر وبهجة العمل، والمحبَّة الأخوية،
والسخاء في الصفح وإن تَكرَّرَ، وخصوصاً العبادة الإلهية
بالصلاة وتقدمة الحياة''.
وأخيراً يوجِّه التعليم المسيحي دعوة إلى الجميع ولا سيما
الرُّعاة، بإحاطة العازبين بالمحبَّة والاهتمام، فإنَّهم وإن
كانوا لا ينتمون إلى أسرة بشرية، ولاسيما الذين يعيشون روح
التطويبات واهبين حياتهم لخدمة الله والقريب. هؤلاء كلُّهم يجب
أن نفتح لهم أبواب المنازل، ''الكنائس البيتية''، وأبواب
الأسرة الكبرى أي الكنيسة. ''فما من أحدٍ بلا أسرة في هذا
العالم: فالكنيسة هي بيت الجميع وأسرة الجميع، ولاسيما
المتعبين والرازحين تحت أعبائهم'' (متى 11: 28) (تعليم
االمسيحي الكاثوليكي، العدد/1655؛ 1656؛ 1657؛ 1658).
الذهاب إلى أعلى
الصفحة/a>
العودة للصفحة السابقة
|