التاريخ الأيزيدي القديم 

زهير كاظم عبود


   يقول وول ديورانت في (قصة الحضارة): (في بحر الأجناس المتلاطم أخذت بعض الدول الصغرى تتشكل ، ويكون لها نصيب صغير في تراث الجنس البشري ، وأن لم يزد نصيبها هذا على أن تكون ناقلة وموصلة . ويهمنا من هذه الشعوب الميتانيون وليس ذلك لأنهم أعداء مصر الأقدمون في الشرق الأدنى بل لأنهم أول الشعوب الهندوأوروبية التي عرفناها في اَسيا، ولأنهم أول عبدة الآلهة -مثرا، وإندرا، وفروناالتي انتقلت منهم الى فارس والهند، الجنس الذي كان يطلق عليه من قبيل التيسير الجنس الآري) . مع أن المنطق يقول أن لكل فعل ردة فعل، الا ان ما وصل من قراءات تاريخية مجتزاءة من تاريخ الأيزيدية يدل بما لا يقبل الشك أن هذه المرويات كتبت بعين واحدة ووفق توجه غير محايد، وبقصد أخفاء حقائق كثيرة عن أبناء هذه الديانة لغرض وضعهم في مشهد بائس لا يمكن للقارىء أن يطلع على حقيقة تخالف هذا المشهد، ولهذا كان الأيزيدي دوما منكسراً ومهزوماً ومسبياً بل وقابلاً بكل ما يتعرض له وفي هذا الأمر خلاف واضح للحقيقة وتحريف عميق للواقع، ويقيناً لو سألت أي عراقي عن حقيقة التعميم الذي لحق بالتاريخ الأيزيدي بالأضافة الى التشويه والتخرصات لفترة ليست بالقصيرة من عمر الزمن، مما جعل العديد من أهل العراق فيما يخص أيزيدية العراق يعتقدون بصحة التخرصات والمرويات المشوهة عنهم، حيث لم يكن هناك البديل الذي يعتمد الحقيقة والنقل الصادق أذ كان الأيزيدية يفتقدون الى وجود كتاب منصفين ومحايدين يكتبون حقائق تأريخهم، ومن يقلب في كتب التأريخ الحديث يجد حيفاً وظلماً كبيرين لحق الأيزيدية دون أن يكون دافعها الغل والحقد والكراهية التي تعشش في ضمير من تصدى للكتابة عن هذا الجانب، او انه كتب خشية من سطوة التطرف او المعالاة في الفكر الديني أو القومي. ونلاحظ أن جميع الوقائع والمعارك كان فيها الأيزيدي الضحية المستكين والخانع الذي يستسلم لقدره دون أدنى موجبات القتال المقابل أو حتى الدفاع عن النفس، وهو منطق غير مقبول وغير صادق لأن الحال في مواجهات قد تكون خاسرة ولكنها على الأقل تسجل الجزء الثاني من الحقائق التأريخية، وجميع الكتب تتحدث عن حملات وحروب و قتال يتم شنها من قبل حكام وسلاطين وجيوش لغرض سحق الأيزيدية أكثر وأنهاء وجودهم والقضاء عليهم نهائياً، مع أن النتيجة اليوم أننا بتنا نجد الأيزيدية أكثر تمسكاَ بديانتهم وبتأريخهم برجال دينهم أكثر من ذي قبل، بل وتوسعت أعدادهم وأنتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.


  عموماً فأن أغفال ذكر المعارك التي قادها زعماء أيزيديون للذود عن ارواحهم وشرف عوائلهم وأموالهم، ومواجهة جيوش جرارة وتتسلح بكل صنوف الأسلحة الفتاكة في زمانها، وفي مواجهات غير متكافئة بكل ما يعني عدم التكافؤ، من أجل الحفاظ على الأقل على الوجود الأيزيدي في تلك القرى البائسة والنائية والتي لم تصلها الحضارة والتطور ولا نظرت لها السلطات التي تعاقبت على حكم العراق حتى اليوم بعين الأنصاف والوجدان.


  ولم نقرأ في التاريخ العراقي الحديث ما يذكر المواجهات بسطر واحد،،وكأن الأيزيدية ليس لهم تأريخ، وليس لهم رجال،وليس لهم القدرة على المواجهة، أو على الأقل ردة فعل أو موقف شجاع لأيزيدي يواجه بشراً مثله، اليس بين الأيزيدية من ذوي البأس الشديد ومعرفة فنون القتال ؟ وخصوصاً أذا عرفنا أن قتالاً كان يدور بين العشائر الأيزيدية انفسها لأسباب عدة!!!!!


  كما تتزامن مناسبة أزاحة الستار عن النصب التذكاري لأيزيدي ميزرا قبل أيام في ناحية بعشيقة في أقليم كوردستان العراق، ليدلل على وجود الرجال الذين غبنهم كتاب التأريخ غير المحايدين والذين يبغون رضا السلاطين في كل مكان وزمان، ولم يتحدثوا عنهم بأنصاف ولم ينقلوا عنهم الحقائق، بينما بقيت الذاكرة الشعبية تحتفظ لهم بما سجله كم منهم في حياته، وإيزيدي ميرزا باشا الذي تولى ولاية الموصل للفترة (1650-1651 ميلادية) (1059-1060هـ) في زمن السلطان العثماني مراد الرابع الذي أمر بترقيته من رتبة فارس ضمن الجيش العثماني ليتولى ولاية اللموصل بعد الدور البطولي الذي أبداه في معركة فتح بغداد (سنة 1638م-1047هـ) . ومن الغريب والبعيد عن الحقيقة أن يذكر المؤرخ السيد ياسين العمري في (الآثار الجلية) أن مزرا بك ذهب الى أسطنبول مركز الخلافة العثمانية متوسلاً بمنحه منصب ولاية الموصل فلم يتيسر له ذلك، مما دفعه للعودة الى دياره وجمع اعوانه المسلحين ليقطع الطريق وينهب القوافل، وتمكن(شمسي باشا) ان يقاتل عصابته ويقبض عليه ليرسله الى السلطان محمد بن أبراهيم الذي أمر بقتله.


   غير أن الحقيقة التأريخية أن الولاية لا تطلب بتوسل أنما تقوم المرجعية بناء على معلومات أكيدة وتقارير ولاتها بتنصيب الوالي، ومما يذكره التأريخ أن أيزيدي ميزرا تمت ترقيته الى رتبة (باشا) ومثل هذه الرتب تمنح من الباب العالي حينا ولأسباب معروفة، ولا يعقل أن يتوسل أحد لمنحه الرتبة والمنصب، ولو لم تجد السلطنةالقدرة والأمكانية والشجاعة لدى ايزيدي ميزرا لما تمت ترقيته من جندي الى والي، فقد أبلى المذكور بلاءً حسناً في فتح بغداد في العام 1638 م حيث تميز بأندفاعه وقتاله وشجاعته بحيث أستحق ذلك التكريم بجدارة، وكنت شخصياً قد زرت النصب المذكور عند زيارتي لناحية بعشيقة قبل ألأيام من شهر اَيار 2006 ، ومن جانب اَخر فقد شكل(اَل مندي ) ولاية لهم في منطقة حلب، كما تشكلت ولاية على ضفاف نهر البهتان بأسم ولاية قلب ويطمان، كما في منطقة اربل وجبال الصوران حيث أمر السلطان سليمان القانوني أن يتم تفويض ثلاثة أمارات لشخص أيزيدي، كما في الموصل حيث ولي أيزيدي ميزرا باشا ولاية الموصل وهو ابن بعشيقة ليحكمها بما عرف عنه من شجاعة وحكمة ونفوذ.


  ويلاحظ التستر والتغطية على أخبار القتال والحملات العسكرية التي أستمرت تشن من قبل السلطات العثمانية وما بعدها من رغبات لزعماء عشائر وحكام وولاة من أجل أجتثاث الأيزيدية وتحويلهم عن ديانتهم بالقوة، وبعد أن نضع المبررات والتبريرات التي تضعها هذه الجهات لقتالهم، وبعد أن يتم تمهيد الأرضية الشرعية في أصدار الفتاوى والفرمانات التي تبيح قتلهم وسبي حرارئهم والأستيلاء على أموالهم والأستيلاء على قراَهم وأراضيهم من قبل رجال دين متعصبين ومتطرفين يمهدوا الطريق للقتل والذبح والتشريد.


  ولا يتطرق أحد الى واقعة غاية في الأهمية وقعت في سنة 1200 هـ - 1785 م حين خرج والي الموصل عبد الباقي باشا الجليلي وتوجه من مدينة الموصل بأتجاه قرى الدنادية لغرض أستباحة القرى وقتل الأيزيدية، وتأديب القرى المجاورة لهم، ولدى وصوله مع عساكره هرب الأيزيدية الى الجبال والمغارات فارين بأرواحهم، وتركوا بيوتهم خالية فنهبتها العساكر على فقر موجوداتها وأنتشرت العساكر تبحث عن أي شيء للأستيلاء عليه، وتفرقوا عن قائدهم عبد الباقي باشا الجليلي حيث كان يقف غير بعيداً عنهم ومعه شقيقه (عبد الرحمن اَغا الجليلي) وبقيت معهم مجموعة قليلة من الجنود الحراس، فخرج عليهم (نمر بن سيمو) ويلقبه الأيزيدية (نمر اَغا) ومعه عدد من الأيزيدية المقاتلين لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وبأيديهم السيوف، وهجموا على القائد الذي تفرق عنه حراسه وهربوا، وحين هرب الحراس تخاذل بقية الجند الذين لاذوا في الوديان وهم منهزمين دون قتال، وما كان من نمر الا أن يجرد القائد من سيفه ويقتله ويقتل شقيقه عبد الرحمن ومن كان يقف معه، وفي هذه الأثناء تكاثر الأيزيدية وتابعوا الفرسان المنهزمين الذين القى الله الرعب في قلوبهم، ويتبعهم فرسان الأيزيدية يمعنون بهم تقتيلاً ويسلبونهم أسلحتهم وجيادهم ويعودوا بها الى قراهم وبيوتهم المسلوبة. هذه الحادثة وقعت بالقرب من قرية (سميل) الواقعة على طريق الموصل-دهوك، وهي أعمال منطقة كوردستان العراق، ونمر بن سيمو أو سيبيو أو شيخو كما يذكر الكاتب صديق الدملوجي له قصر في تلك المنطقة وهو رئيس عشيرة الدنادية، ولم يذكرها رواة حوادث تلك الفترة ولم يتطرق لها أغلب كتاب الديانة الأيزيدية بأستثناء الكاتب صديق الدملوجي الذي نقلها عن تأريخ جودت حيث ذكر أبياتاَ من الشعر ضمن سرده للحادث يبين فيها الهروب الكبير للعسكر في هذه المعركة فيقول :-
                   (فرق الكل حتى أن هاربهم أذا رأى غير شيء ظنه رجلا)
 

  وواقعة مهمة في تأريخ العراق الحديث وفي تأريخ الموصل لا يتم اغماض العين عنها دون سبب، كما لم يساهم أحد من المؤرخين في تحليل أسبابها ودوافعها ولا حتى في المعاني العسكرية والأنسانية التي دلت عليها، ولو أن نمر بن سيمو كان متخاذلاً لكتب عنه الجميع دون وجل، ومما يلفت النظر أن العساكر في المناطق الأخرى بقيت دون حركة ولم يحرك أحد قادتها ساكناً، وأنتشرت الأخبار بسرعة البرق وزاد الرواة في تصويرها، حتى بدأ أسم نمر بن سيمو مرعباً للعساكر التابعة للولاة العثمانيين في المنطقة،  وهذا الأمر أدى الى قيام حاكم العمادية (أسماعيل باشا البهديناني ) أن يحل ضيفاً عل نمر بن سيمو تقرباً له وأتقاءاًً لشره وليأمن على سلامة جنوده، ولم تستطع الحكومة أو الولاة أن يستعيدوا سطوتهم على المناطق الأيزيدية بوجود نمر بن سيمو الا بعد مضي 14 سنة على تلك الحادثة. وأذا كنا نريد تقليب ونبش الأسس عليها الكتابات التأريخية، وهذه الحادثة مثالاً على الغبن الذي لحق بالتاريخ الأيزيدي، نجد ان عدم أيراد مثل هذه الحوادث يشكل بترا لصفحات تأريخية وتشويهاً لصورة من الزمن الأنساني، فقد تعرض الأيزيدية لمقاتل عديدة وشنت بحقهم حملات عززت بكتائب من الجيوش المددجة بالسلاح، تحت شتى الذرائع، وفي مرات كانت بحجج أنهم يقطعون الطريق ويسلبون القوافل المارة، وفي مرات أخرى بسبب الفتاوى التي تقاطرت فوق رؤوسهم دون رحمة، وفي مرات عديدة بسبب نزوةللوالي والحاكم ولأثبات قوته في المنطقة فلا يجد سوى هذه المجاميع البشرية البائسة التي أبتلاها الله بالقتل والذبح و التشريد والأنعزال.


  ولم يتعرض أحد من الكتاب الى الحالة الأنسانية المزرية التي كان يعيشها الأيزيدية، فقد كانوا على الدوام خارج نظرة السلطات التي لم تعرهم أدنى أهتمام، وكانوا خارج تخطيطها وبرامجها العمراني والتطويرية، وبقيت قراَهم ومزاراتهم دون أدنى درجات الأهتمام، ومع كل هذا فقد بقي المجتمع الأيزيدي زراعياً ورعوياً منتجاً ومسانداً في العطاء للأقتصاد الوطني، لكون هذا المجتمع تحكمه قيم دينية وأجتماعية نبيلة وصارمة تصقل الألتزام الأجتماعي للفرد ليكون بالأضافة الى كونه منتجاً ملتزماً ونافعاً ضمن المجموعة البشرية التي يعيش وسطها تحكمه أعراف وقيم لا يمكن للفرد أن يتخلص منها حتى وأن بدت بالية، الا ان منها ما يتباهى به الأيزيدي في تمسكه بأعراف الكرافة التي يتميز بها الأيزيدية عن غيرهم من القوم في المنطقة. وأذا كنا نقول أن الأيزيدية نمت في لالش وتحصنت في مكانها المقدس، فلم هذا الأنتشار الواسع للأيزيدية في تركيا وفي سورية، وفي مناطق متباعدة في العالم كأرمينيا مثلا ؟ ولغرض التعرض لأسباب الهجرات التي تزامنت مع الهروب ومحاولة النجاة، فقد توسعت المساحة التي تلوذ بها العائلة الأيزيدية خشية من الفتك بها والغدر بها كلياً، وهذا الأنتشار يربطه خيط متين من العلاقات والطقوس واللغة والترابط العشائري والقومي، فبالرغم من الأنتشار في مناطق عربية كقرى الموصل أو سورية أو حتى القرى والمدن التركية والأرمنية، فقد بقي يتحدث بلغته الدينية (الكوردية) لم يتغير ولم يحاول أن يلغي هذا الأختلاط بالمجتمعات التي ساكنها على خصوصيته الدينية والقومية.
_________________


* منقول من كتاب التنقيب في التاريخ الأيزيدي القديم تاليف زهير كاظم عبود (ص73-80)