عناقيد الكرمة - الجزء الثاني

الخورأسقف بيوس قاشا

لقراءة الجزء الاول من المقال والمنشور في العدد الخامس من المجلة

 

   قال الرب يسوع:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان، فمَن ثبت فيَّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً"(يو 5:15). والعنقود رمز العطاء والبذل والإخلاص. فالكرمة تتحمّل برد الشتاء وعواصفه من أجل عنقود مليء بخمر الحياة، وهذا ما جعل ربنا يسوع أن يشبّه حياته بالكرمة ... إنه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة للإنسان، وفي هذه الطريق تكون المسيرة، ولكي تكون المسيرة أصيلة يجب أن تكون ثابتة في المسيح. ولكي نحيا إيماننا في هذه الظروف القاسية يجب أن تكون حياتنا عناقيد أصحّاء في كرمة الرب، كما يجب أن تقرأها بكل تمعّن وإدراك، فالإيمان المسيحي رسالة وحياة، وثمار الحياة عناقيد كثيرة، عليكَ وعليَّ أن نجمعها في سلّة واحدة ... وهاهي ذي سلّة العناقيد الثانية:

 


  4) الكمال ... يقول الرب يسوع:"كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي هو كامل" (متى 48:5)، والكمال هو البلوغ السامي في سلّم المسيرة الروحانية، أو بمعنى آخر حالة النضوج الإنساني المحب لله ولقريبه (متى 37:22 ؛ رو 10:13). إنه ملء المحبة حيث يدخل الإنسان حياته كلها وبصورة كاملة في مسيرة الحب الإلهي، وبهذا تبان له النهاية الأمثل لحياة الأرض، وما عليه إلا أن ينمو في هذه الحقيقة، في هذه النعمة. وفي هذا يصبح الإنسان مركزاً للطاعة وتلميذاً لمدرسة الحياة، ومنها يتخرّج "بطلاً" مُحبّاً.


  واليوم، كل إنسان يرى نفسه كاملاً، بقليل من الصلوات المبهَمة يعيش الحياة المسيحية السطحية، حياة مليئة بالعاطفة أو بالقيام ببعض الأفعال التقوية، وْيَلاّ، ونخدع أنفسنا إذ نرى أننا وصلنا ولا زلنا في بداية الطريق، والقافلة تواصل المسيرة ... إلى أين؟.
 

  لا يا أعزائي، إيماننا المسيحي، طريقنا في مدرسة الحياة، وفيها نكون تلاميذ ولكن أمناء وأوفياء على كتبنا وحقائبنا، على أقلام تلويننا، ومن هنا تبدأ مسيرة الكمال. فلنكن واعين إلى عَظَمَة رسالتنا، ومنتمين إلى حقيقة إيماننا، وليس من الذين يحصون الأيام بساعاتها وأحداثها.

 


 
5) التوبة ... التوبة هي الرجوع إلى الله، وإذا رسم لنا المسيح سرّ التوبة فليس فقط من أجلنا نحن الخطأة بل من أجله أيضاً، هو القدوس الذي لا ينعم له بال ما دمنا بعيدين عنه ... إنَّ الخطيئة تعذّب ضمائرنا، أما التوبة فتزرع الفرح والعزاء، فرح وعزاء في قلب الله لأنه إله أحياء لا إله أموات (متى 30:22-31)، وهو لا يريد موت الخاطئ بل أن يحيا، والخاطئ أليس مثل الميت؟ "كان لابدّ أن تتنعّم وتفرح لأنّ أخاك هذا كان ميتاً فعاش".


  والتوبة فرح وعزاء في قلب التائب أيضاً، لأن توبته إغتناء له وكنز حقيقي. فبالتوبة يعود إلى أبيه السماوي كما لو يعود الغصن إلى الشجرة، والمهجَّر إلى بيته، والسجين إلى عائلته. بالتوبة يعود فينعم بالمحبة التي هي أساس كل سعادة، فنشعر بنظر الله يرنو إلينا، ونشعر بوجوده وقربه منا كالحبيب بوجود حبيبه وقربه منه، ونشعر بحنان يغمرنا أين منه حنان الأمّ؟.


  أعزائي: لتكن قلوبنا في إصلاح خط مسيرة حياتنا، وليس أن أقول:"أنا تائب وبس"، وإنما أن أحسّ في أعماق فؤادي بأن توبتي نابعة من إنكسار قلبي على ما صدر مني خطأً، ولهذا تتطلب قصداً أكيداً وثابتاً، أي راسخاً بعمق الحياة من أجل مسيرة الروح ... فالتوبة كنزٌ يُغني ونعمة تحرّر.

 


   
6) السلام ... عطية الله السماء للإنسان، وحسب القديس توما الأكويني فإن السلام هو نظام الحياة المشتركة المؤسَّسة على العدل. والبابا يوحنا بولس الثاني الكبير أصدر عام 2004 رسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام قال فيها:"لا سلام بدون عدل، ولا عدل بدون غفران" ... فالسلام ليس مسألة هيكلية بقدر ما هو قضية أشخاص، لأن مبادرات السلام تولد من حياة أشخاص لكونهم صانعي السلام (متى 5:9)، وتقوم هذه المبادرات عندما يعي الناس البُعد الجماعي للحياة، وبالتالي معنى وتأثير بعض الأحداث على الجماعة نفسها والعالم كله.


  نعم، هناك سلامٌ آتٍ من الرب وسلامٌ كاذب آتٍ من سيد هذا العالم. والسؤال الأساس هو: ما هو السلام المعطى من الرب؟ ما هي سِماته؟ ما هي ثماره؟ وكيف نؤمن إنه ترك لنا السلام رغم كل الذي نعيشه في أجسادنا وبيوتنا وأوطاننا من ضياع وقلق وتساؤل وتململ وتحديات؟.


   فالسلام الذي يَعِدنا الرب به حققه في شخصه الموحد، إذ بدون المسيح نحن غرباء ولا رجاء لنا ولا سلام. فمهما إنقسمت الإنسانية فالله يجمعها بالمسيح يسوع. سلام المسيح لا يقوم على التنازلات كما يقوم سلام العالم. سلام المسيح يعطيه الآب، هو سلام لقاء الله بالإنسان ولقاء الإنسان بالإنسان عبر المسيح، فليس الإرهاب باسم الله وارتكاب العنف بحق الإنسان إلاّ تدنيساً للدين، لأن العنف الإرهابي مناقض للإيمان بالله خالق الإنسان الذي يحتضن خلائقه ويحبها أمام مظاهر العنف غير المبرَّرة ... لذا علينا العمل على تربية الأجيال على السلام لأنه إلتزام مستديم، ومن خلال هذا الإلتزام تكون تربية الضمائر على ثقافة السلام في إحترام القانون التي هي الطريق الأول لبلوغ السلام، ولا يمكن بلوغ نهاية الطريق إنْ لم تكتمل العدالة بالمحبة.


   نعم، السلام عطية الله، ولهذا ستظل مهمة الكنيسة المحافظة على هذه العطية (رو 18:12)، ولكن ويا للأسف أصبح السلام في عالمنا لا بل في بلدنا بعيداً عن القلوب وقريباً من الشفاه، مهدَّداً من داخل الإنسان، من فكره وعقله وقلبه، وأصبح الساسة يرفعون شعارات السلام وهم بالحقيقة بعيدون عن هذه الأمنية، إنما يستغلّون العقول البسيطة من أجل مآربهم الخفيّة ... إنهم يستعمرون ذواتهم دون أن يدروا، ويحتلّ الشر عمق أفكارهم وهم غير مبالين. ومهما كان من أمر فإنني آمنتُ وسأبقى مؤمنااً وفياً وأميناً لكلام المسيح ... إنه السلام الحقيقي، ووحده فقط يستطيع أن يورثه للإنسان (يو 27:14) بغلبته على الشر. نعم، طوبى لفاعلي السلام ... ما أجمل هذا الكلام، إنه سلام المخلّص يسوع المسيح ... يا سلام.