ثائر صالح

  تستعمل الدول العربية اليوم التقويم الميلادي الغريغورياني (وهو تقويم شمسي) الذي تتكون السنة فيه من 365 يوماً وربع اليوم. وفي المشرق (وفي تركيا أيضاً) تسمى الأشهر كانون الثاني شباط آذار ... الخ، وهي الأشهر البابلية المعروفة. أما في باقي الدول العربية (ابتداءاً من مصر وكذلك دول الخليج واليمن) فيستعمل السكان الأشهر اللاتينية يناير فبراير مارس .. الخ (أو الصيغة الفرنسية جانفي فيفيري .. الخ). من جانب آخر لا تزال الدول العربية تتمسك بالتقويم العربي بسبب ارتباط مواسم الحج والصيام وغيرها من الفروض الإسلامية بالتقويم القمري، أحد أقدم أشكال التقويم في العالم. فكيف حصل هذا التطور في أنظمة التقويم، ولمن يعود الفضل في هذا التطور؟


الأبجدية والتقويم:
  عند المحاولات الأولى للتدوين، والتي جرت في منطقتنا، كانت الكتابة الصورية - المقطعية هي الخطوة العملاقة التي نقلت البشرية من عالم عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية، ثم تطورت إلى نمطي الكتابة المسمارية والهيروغليفية اللذين سادا في الشرق القديم لقرون. أما الخطوة الأعظم فهي ابتكار الحروف والأبجدية من قبل الفينيقيين والكنعانيين (1400-1200 ق.م.) ووصف العالم سيروس غوردون هذا الإكتشاف المذهل بـ "الإكتشاف العرضي غير المقصود" وذلك في أحد أبحاثه الصادرة في مجلة "دراسات الشرق الأدنى" عن علاقة الأبجدية بالتقويم والقيمة العددية للحروف. فعند تحليل أسماء الحروف في العبرية (وهي لغة مقتبسة من الكنعانية كما نعلم) نرى أنها أسماء حيوانات (نون = سمكة، قوف = قرد الخ) أو عناصر طبيعية (ميم = ماء) أو أجزاء الجسم (كاف = الكف، يود = اليد، عين = العين، ريش = الرأس) .. الخ. وعدد أحرف الأبجدية الفينيقية 29-30 حرفاً. هذا العدد يقابل معدل عدد أيام الشهر القمري، وهو 29,53 يوماً (فقد استعمل الفينيقيون التقويم القمري، واستعمل الإغرق والعبرانيون هذا التقويم أيضاً في البداية). ونرى أن الحرف الثلاثين في الأبجدية الفينيقية هو حرف يمكن اعتباره زائداً، إذ يمكن تعويضه بحرف السين، وهذا هو الدليل الذي ساقه غوردون على أن الرموز الـ 29-30 (الأبجدية) إنما وضعت للتعبير عن أيام الشهر القمري في بادئ الأمر، ونسب لكل يوم رمز معين (تحول لاحقاً إلى شكل الحرف وصوته)، ومن هنا نفهم تعبير غوردون "بعرضية" اكتشاف الأبجدية.


  واستعمل الانسان بادئ الأمر تقويماً قمرياً لسهولة متابعة دورة القمر وتمييزها، وعدد أيام السنة القمرية 354 يوماً. غير أنه لاحظ عدم تطابق السنة القمرية مع تناوب الفصول، فالسنة القمرية تقل عن السنة الشمسية بحولي 11 يوماً. لهذا عمد إلى إجراء تصحيحات معينة بهدف انطباق التقويم على دورة الفصول.


  كان الكلدانيون ضليعين في علم الفلك، فقد حسبوا مواقع الشمس والكواكب المختلفة ووضعوا لذلك جداول فلكية دقيقة، وحسبوا قيمة السنة بدقة أربع دقائق ونصف الدقيقة. واستناداً لهذه المعرفة قام الكلدانيون بتعديل السنة القمرية وفق نظام معقد عن طريق إضافة شهر كبيس ثالث عشر سبع مرات كل 19 سنة. والتسعة عشر عاماً هذه تعرف بدورة ميتون التي اكتشفها البابليون وأعاد اليونانيون اكتشافها لاحقاً، وتعني أن 235 شهراً قمرياً تعادل 19 سنة شمسية. وهذا التعديل يقرب السنة القمرية من السنة الشمسية كثيراً (الخطأ هو 33 دقيقة تقريباً كل 19 سنة). وأخذ العبرانيون هذا النظام الذي يمكن حسابه مقدماً من الكلدانيين في القرن الرابع ق.م. بعد أن كانوا يستعملون سنة قمرية خالصة، واحتفظوا بهذا النظام إلى اليوم، وأخذوا أسماء الأشهر الكلدانية - البابلية: طبيتو، شباطو، ادارو نيسانو، ايارو، سيمانو، تموزو (أو دموزو)، آبو، ألولو (أو أولولو)، تشيرتو، اراشامنا، وكانونو (كسليمو أو كسليفو). وهذ الأشهر بالعبرية: طبيث، شباط، ادار، نيسان (أبيب = الربيع)، ايار (زيو)، سيوان، تموز، آب، ألول، تشري (إيثانيم)، مرحشنان (بول)، وكسليف. وأسماء الأشهر هذه أخذها العرب والأتراك أيضاً مع تغيير بسيط، وقبلهم الأراميون والمسيحيون والسريان والمندائيون. ولدى الصابئة تسمى الأشهر طابيث، شباط، آدار، نيسان، أيار، سيوان، تموز، آب، ألول، تشرين، مشروان، وكانون.


  وكان لفيضان نهر النيل المنتظم واعتماد النشاط الزراعي في مصر الفرعونية على النيل الأثر الأعظم في تطوير المصريين القدماء لنوع من التقويم الشمسي، فقد قسموا السنة إلى 12 شهراً، كل شهر بثلاثين يوماً، وأضافوا "شُهيراً" صغيراً من 5 أيام لتعديل الرقم من 12× 30= 360 يوماً إلى 365 يوماً، وهو أقل من السنة الشمسية الفلكية بأقل من ست ساعات. وعرف المصريون القدماء ذلك الفارق، وحسبوا الدورة التي يعود عندها التطابق بين السنة المصرية والسنة الفلكية، وهي 1460 عاماً وأسموها دورة سيث (نسبة إلى نجمة سيريوس وهي الشعرى التي يرتبط ظهورها بفيضان النيل).
ومن الغريب أن تكون السنة المندائية مماثلة تماماً للسنة الفرعونية بسبب بعد وطن الصابئة عن مصر الفرعونية، وتسمى الأيام الخمسة الكبيسة لدى عامة الصابئة بالبنجة، وهو موعيد عيد الخليقة، والأسم مأخوذ من الكلمة الفارسية بنج أي خمسة. وانحرف التقويم المندائي عن التقويم الميلادي المستعمل حاليا بحوالي 193 يوماً، فقد قابل اليوم الأول من كانون الثاني 1992 يوم 11 تموز حسب التقويم المندائي، أي أن آخر تعديل جرى على التقويم المندائي حدث العام 1220 ميلادية، في أواخر أيام الدولة العباسية، وكما يبدو، لم يعدل الصابئة تقويمهم منذ ذلك الحين.


التقويم القمراني:
  ويستحق التقويم القمراني (نسبة إلى قمران حيث وجدت مخطوطات البحر الميت الشهيرة) وقفة خاصة لغرابته.


  استعمل القمرانيون الذين كتبوا لفافات البحر الميت الشهيرة، تقويماً خاصاً يختلف كثيراً عن التقويم القمري الذي استعمله باقي اليهود. فقد قسموا السنة إلى 52 اسبوعاً، بذلك تتكون سنة القمرانيين من 364 يوماً، أي أقل من السنة الشمسية بيوم وربع اليوم. وحسب هذا التقويم قسمت الأشهر الـ 12 إلى 4 فصول من ثلاثة أشهر، وعدد أيام الشهور الثالث والسادس والتاسع والثاني عشر 31 يوماً، أما باقي الأشهر فتتكون من 30 يوماً، بهذه الطريقة تبدأ السنة بنفس اليوم دائماً، يوم الأربعاء، وكذلك تقع المناسبات الدينية في نفس اليوم من أيام الأسبوع على الدوام (أموسين ي. د.: مخطوطات البحر الميت والجماعة القمرانية الترجمة المجرية 1986).


  وهناك اختلاف آخر، إذ يبدأ يوم القمرانيين بالفجر (النهار) وينتهي بالليل، على العكس من باقي اليهود، أي أن النهار لديهم يسبق الليل، ولهذا ارتباط بالفكر الثنائي عندهم، والتناقض بين الظلام "حشوخ" والنور "اور" وتفضيل النور على الظلام.


التقويم الغريغورياني:
  استعمل الغرب التقويم الروماني الشمسي المعروف بالتقويم اليولياني، الذي أدخله يوليوس قيصر العام 46 ق.م. مستنداً إلى التقويم المصري الفرعوني، وأضاف سنة كبيسة كل أربع سنوات ليكون طول السنة اليوليانية 365 يوماً وربع اليوم. لكن هذا التقويم يقل في الواقع بـ 11 دقيقة و 14 ثانية عن السنة الفلكية، هذا يعني اختلاف يوم واحد كل 128,2 سنة أو ثلاثة أيام كل أربعة قرون تقريباً. وقد أصلح البابا غريغوري الثالث عشر هذا الخطأ العام 1582 م، حين أمر باستعمال التقويم المعروف حالياً بالتقويم الغريغورياني. وحسب هذا التقويم يكون عام بداية القرن كبيساً إذا قبل القسمة على 400 من دون باق، في حين تكون سنة بداية القرن التي لا تقبل القسمة على 400 من دون باق سنة عادية بـ 365 يوماً (بالرغم من أنها قابلة للقسمة على 4 من دون باق). هذا يعني أنه عند بدايات أربعة قرون هناك سنة واحدة كبيسة بالرغم من وجود ثلاث سنوات قابلة للقسمة على أربع، ومع ذلك لن تكون كبيسة، مثلا سنة 1600 كبيسة، والسنوات 1700، 1800 و 1900 غير كبيسة. وفي الوقت نفسه أصلح الاختلاف الذي تراكم على مر القرون بين التقويم اليولياني والسنة الفلكية، وقيمته 10 أيام، فقد أمر أن يتبع يوم الرابع من تشرين الأول 1582 يوم 15 تشرين الأول 1582. وبدأت الدول الكاثوليكية استعمال التقويم الغريغورياني في القرن السادس عشر، أما الدول البروتستانتية فلم تستعمله إلا في القرن الثامن عشر. ولم تعترف الكنيسة الباروسلافية الروسية بهذا التقويم، ولم يجر اصلاح التقويم في روسيا إلا العام 1918، ولهذا السبب اختلف التقويم الروسي عن التقويم الغريغورياني المستعمل عالمياً (وصل الفارق إلى 13 يوماً). وهذا هو سبب احتفال الاتحاد السوفيتي لأكثر من 70 سنة بثورة اكتوبر (التي قامت في 25 اكتوبر / تشرين الأول 1917 حسب التقويم القيصري) في يوم 7 تشرين الثاني من كل عام.


  من ناحية اخرى نود أن نلمح إلى أن التعديل الغريغورياني يشير إلى احتمال ابتكار التقويم الميلادي العام 300 بعد الميلاد. وتفسير ذلك هو أن الأيام العشرة التي جرى حذفها من التقويم تعني 10×128,2 = 1282 سنة، وعند حذف هذا الرقم من سنة 1582 نحصل على سنة 300م. وهذا العام (300 م) يقع في الفترة التي شهدت تعاظم الصراع بين مختلف الكنائس المسيحية واعتبار المسيحية دين الدولة الرسمي في الامبراطورية الرومانية الشرقية، وهي الفترة التي سبقت مجمع نيقيا المنعقد العام 325 م، حيث تم إقرار العديد من عقائد الكنيسة، ومنها الوهية المسيح وعلاقة الأبن بالآب والثالوث المقدس وغير ذلك من نقاط الصراع بين مختلف التيارات المسيحية في ذلك العصر، وغلبة التيار الذي دعمه الامبراطور قسطنطين أملاً في تجييره لخدمة مصالح الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). ومن المعروف أن عدداً من الكنائس الشرقية رفض مبدأ الوهية المسيح ومبدأ الأبن. خلاصة القول، أن بداية القرن الرابع الميلادي شهدت ميلاد المسيحية التي نعرفها اليوم بعد أكثر من قرنين ونصف القرن من التاريخ المفترض لصلب السيد المسيح، وهو البداية الحقيقية للتقويم الميلادي.