خمسينيات القرن العشرين  

كريم جبار جاري

 

  في بداية خمسينيات القرن العشرين فتح طفل لم يتجاوز السادسة من العمر عينيه على سوق يعج بالمعروضات الصفراء اللون صافية مذهلة البريق تطعمها احيانا احجار ملونة تعطيها جمالية اروع من ذلك الذي كان ولا زال رمز جبروت السلطة والجاه الا وهو( الذهب)، لقد كانت عادة اهل المهن الخاصة اخذ الابن البكرلعملهم حتى يطلع باسرار المهنة كي تبقى محصورة في العائلة.

 

   السوق كان قديما من ابنية عصرالأحتلال العثماني للعراق يسمى ( خان الشا بندر) لوالدي فيه محل ابتدأ به نهاية ألأربعينيات من القرن الماضي يضم اكثرمن سبعين معرضا للصاغة اكثر من 80% منهم مندائيون،لقد كنت اتنقل بينهم وكأنهم اهلي، وقد علمت من والدي ان هذا السوق كان يعج بالصاغة اليهود العراقيين قبل تسفيرهم عام 1948 وحين ابتدأت مسيرتي في هذا السوق تعرفت على ثلاثة منهم كانوا لايزالوا يشتغلون في السوق ويقاتلون من اجل بقائهم حتى بداية الستينيات من ذلك القرن وقد اختفوا بشتى الطرق وهم ( الياهو) و(خضوري ) و(موشي) ، وكان هذا السوق ملاصقا لأقدم سوق للكتب منذ أيام العباسيين حيث كان يسمى سوق الوراقين فسمي في العصر الحديث بسوق السراي الذي يرتبط ايضا بشارع المتنبي والذي يغص بالمطابع والمكتبات لبيع الكتب اوطبعها ، من تلك الأماكن ابتدأ ت أولا بحب الكتاب، بعد دخولي المدرسة وانا لم ازل في بداياتي الدراسية قرأت كتاب ( شجرة الحرية ) و( لمن تقرع ألأجراس ) وبعد التغيير السياسي في العراق عام ( 1958) وصلت حينها الى المرحلة السادسة ألأبتدائية قرأت ( رواية ألأم ) لمكسيم غوركي وهكذا انفتحت عقلية ذلك الصبي على طريقين قدما امامه وهما الفن بكل روعته في الصياغة لأني اعتبرها كالأقدمين فن ألآلهة لأعتمادها على قدرات واسعة في الكيمياء والهندسة والتشكيل من نحت ورسم ، اما الطريق الثاني فكان ألأدب وهو غذاء العقل والروح معا، هكذا كانت ثقافتي ذاتية قبل اخذها من المدارس.


  لقد ابتدأ تعلقي بالفن والتحف اكثر من غيره حين جاء عمي الى سوق الشابندر بعد تقاعده من العسكرية في بدايات عام ( 1958) وشارك ابي اولا ثم انفصلا بعد اشهر وافتتح محلا مجاورا لأبي ابتدأه بمهنة غريبة عن السوق حيث كان يشتري القطع القديمة ويقوم بأحراء تعديلات عليها ليعرضها ولم يكتفي بذلك فصار يشتري ألأخشاب القديمة والنحاس وألملابس المزكرشة التي تعود لسنين قديمة وسع محله ونصب الرفوف العديدة ليعرض عليها بضاعته التي كان يسميها التحف والصاغة يتندرون عليه حيث يقولون (يترك الذهب ويشتغل بالعتيق) واصبح اول مندائيا يشتغل بمهنة التحف في العراق، لقد كنت ذراعه اليمين في السفر للمدن العراقية المختلفة وكذلك التجوال في مختلف الأسواق لشراء ماارآه مناسبا كتحفة اوفولكلور اوشيء من التراث وهكذا تولدت لدي خبرة وعشق كبيرين لهذه المهنة ، ونهاية عام 1967 لم اكن قد اكملت ألأعدادية بل في السنة الأخيرة ، عرض علي العم( رحمه الرب) وقد توسم عندي حب الفن والتحف ان افتح لي محلا في ارقى شوارع بغداد واروعها وهو ( شارع السعدون ) حيث كان يعج بالفنادق الكبيرة التي يسكنها الأجانب كفندق ( بغداد ) ورحبت في الفكرة ونفذتها بايام معدودة حيث اخذت محلا مجاورا لشركة ( توماس كوك ) ومكاتب الطيران وكذلك قريبا لفندق بغداد وافتتحته في 15-11-1967لأستقبل اعياد السنة الميلادية الجديدة واقبال الاجانب على التحف كهدايا لأحبتهم ؛ كان محلا كبيرا اسميته ( سومر ) نسبة للشعب العراقي الأول في الحضارة الأنسانية جميعا ؛ حيث خط الحرف مصورا ثم انتقل الى الحرف المسماري وكتب اروع ألأساطير في الدين والأدب وشتى مرافق الحياة وصاغ قيثارة الذهب والمجوهرات والتماثيل التي تحتل ارقى قاعات متاحف العالم اليوم ولا زال تأريخه زاخرا بالأسرار التي لم تحل الغازها الى يومنا هذا . انتقلت بعدها في نهاية السبعينات الى شارع النهر(المستنصر) وهومن اهم الأسواق التجارية الشاملة في بغداد، كصائغ حيث مهنة ألأجداد والآباء وكان لايزال هذا السوق يضم عددا كبيرا من الصاغة المندائيين وخصوصا فناني الفضة، فلم يستهويني العمل كما في التحف رغم وضعي ركنا خاصا لها في محلي الجديد حيث كانت تنقلني الى عوالم من السحر في كل قطعة اقتنيها ، بقيت في معانات مع العمل ورايت احتضار فن الصياغة العريق الذي كان والدي يمارسه من الفه الى ياءه بيديه لتخرج القطع من انامله تنطق بالحياة ، وحين غزوالآلة وعصر السرعة والكسب بشتى الوسائل صرت بعيدا بعيدا عن ذلك العالم ورأيت كذلك ألأحتضار الشبه نهائي لفن الفضة المطعمة بالمينا السوداء التي اشتهر بها اهلنا المندائيون ؛ حيث لايوجد من يشتغل هذه المهنة غير عدد لايتجاوز اصابع اليدين ان عددناهم او اقل من ذلك،وصرت اسارع لأقتناء اية قطعة من ذلك العمل غير آبه بسعرها في سبيل الحفاظ على مجموعة للزم،وسارعت للأتصال ببعض الذين لديهم حب العمل بذلك الجانب 3* وأنشأ ت ورشة في شارع النهر مجاور عمارة البدوي وجهزتها عدة وعددا وقد كانت ورشة كبيرة وأحد الذي اشتغل بها غير ابني(لهيب) موجودا في استراليا وصلها قبل اشهر قليلة كبير في السن ومن اشهر أواخر المنظفين للقطع الفضية4* كذلك صنع لي المينا بيديه وبعض ما انتجته ورشتي موجودا في مجموعتي ، وعرضت حينها على وزارة الثقافة وألأعلام وكذلك وزارة التجارة والتصدير في بداية الثمانينات من القرن الماضي مشروعا لأنتاج التحف المندائية وتصديرها للأسواق العالمية لروعتها الفنية وجدواها اقتصاديا ولضمان استمرارية هذا الفن من الموت المحقق ، ولم احصل على مااريد، فمشيت بالعمل لحسابي الخاص رغم خسارتي في ذلك ودخول النظام السابق في حروب وحصار ، وفكرت في حلمي القديم ... عالم التحف الرائع الجميل الذي اعشقه حتى العظم على التعبير العراقي للمبالغة وكان لي تخطيطا في افتتاح اروع محل واكبرها على الأطلاق في بغداد وفي شارع السعدون الذي ابتدأت منه رحلتي مع التحف لأنتهي اليه فيها ... في عام 1987 ابتدأت الحكومة أنذاك بهدم بعض ألأماكن التراثية العريقة بحجج مختلفة وصرت اشتري مايقع بيدي من اخشاب ومواد تصلح في بناء ماكنت احلم به وبالفعل اواخر الثمانينات وجدت ضالتي في محل كبير مجاورا لأضخم فندقين في العراق وهما شيراتون وميرديان فابتدأت المشروع وجلبت الضالعين بالنجارة القديمة بمساعدة صديق عزيز لاانساه السيد (عدنان المدامغه) من عوائل الكاظمية في بغداد وساعدني كثيرا في البناء وكنا نسهر الليالي مع العمال لأكمال المشروع الذي كان حلما فصار حقيقة.... وكان افتتاحا رائعا فاصبح ( سوق التحف ) وهو الأٍسم الذي اطلقته عليه عنوانا للعراقين من هواة التحف قبل الأجانب يضم بين جوانبه السجاد ألأعجمي والبسط العراقية وألأخشاب القديمة واللوحات الفنية والملابس التراثية والنقود والساعات وألأحجار والمعادن المختلفة والزجاجيات وكان الملك في المعروضات هو الفضة من مختلف المناشيء واكثرها العراقي من كافة الأنحاء شمالا اوجنوبا غربا وشرقا ، وعشنا أياما عصيبة مع دخول النظام السابق غازيا الكويت وحين انذره الأمريكان بالخروج ولم يرضى اشتعلت الحرب لأخراجه ، فلم نعي ما نفعله والمحل مليء بالمواد الثمينة وكنت حينها اقترضت المال للمشروع وللناس في ذمتي ديون. وابتدأ تحرير الكويت وهربنا من بغداد بأغراض قليلة من المحل وهي اثمن المقتنيات وقلت حينها لااريد سوى مايعادل ديون الناس علي فقط ، والباقي سيكون في حمى الرب وليس لنا سوى رحمته.


  ورجعنا بعد اندحار النظام السابق من الكويت وحمدنا الرب فقد سلم البيت بمحتوياته والمحل حتى بزجاجه من القصف والسرقة وما الى ذلك ، وعدنا للعمل وقد فكرنا بالرحيل من العراق ولو ان تفكيرنا هذا كان قديما في السبعينات واشتد بعد ان هاجر العم( ابونادية) رحمه الرب الى امريكا قبل حرب ايران والعراق ولكن الظروف لم تسعفنا حينها ، واشتدت الهجمات على الطائفة من سرقات وقتل وغير ذلك ووصل ألأمرلأعتقالي من قبل المخابرات العراقية سنة 1992 بسبب وجود بعض المخطوطات العبرية في محلي وانا بائع تحف عراقي مشهور وهذه اوراق عراقية لأناس لهم عراقة في الوطن اسوة بالمندائيين وقضيت اتعس شهرين من حياتي في زنزانة فردية في البداية ثم مع الآخرين في نهاية ألأمر ليصار بعدها اخراجنا ومصادرة مخطوطات كلفتنا آلاف الدولارات حينها وبدون اية تهمة ، فاقسمت عندها بعدم البقاء في العراق مهما كان الثمن باهضا لسلامة اولادي وعائلتي وقد شجعتني والدتي رحمها الرب ووالدي اخيرا لأنه كان يتمنى عدم سفري قبل انتقاله لعالم النور ثم اذن لي اخيرا بعد ان سجنت وصار يلح علي بالرحيل ، ورحل ابي الى دار ألأبدية وانا في ألأردن وعائلتي في وطننا الجديد استراليا ، ثم رحلت امي بعده بسنة اواقل وانا على ارض كان يقال ان لأهلنا حلم قديم في الوصول اليها منذ اربعينيات القرن الماضي لولا عدم اتفاقهم......

   لقد حققنا حلما تكلمنا فيه انا وزوجتي قبل خمس وعشرون عاما بان انقل مجموعتي الخاصة معي الى وطن نستقرفيه ويعيش ابناءنا بحرية ليستطيعوا بناء امتداد هذه الطائفة العريقة التي تعبت كثيرا بحمل تراث بشري جميل كأنه متحف حي لتأريخ البشرية في الأيمان ، وقصت خروج هذه المجموعة من العراق تحت ظل حكم جائر ولصوص قتلة تعد حكاية خلاصة لعمر مغامر لم يخف من المجازفة واصدقاء5* ساعدوه بكل جسارة ونكران ذات ، ابتدأت في خروجي سنة 1995 الى عمان تاركا العائلة لكي امهد لهم طريقا للوصول وسبيلا ليعيشوا حياة بمستوى اواقل بقليل مما الفوه في وطنهم ، وكذلك لأستقبل مراحل ارسال الأغراض التي اتفقنا على ارسالها الى عمان ووجدنا عدة وسائل واسعار مختلفة واخترنا الأغلى للضمان وبالفعل وصلت القطع تباعا وكانت الظروف قاسية على من في العراق كما كانت قاسية علي للحفاظ عليها في عمان واستغرقت الرحلة السنة اواكثر وبعنا ماتبقى بابخس ألأسعار لتخرج العائلة الى عمان فقد اشتقنا لبعضنا ، ووصلوا بعد عناء الفراق والمشاكل بسبب غيابي والسؤال عني من مختلف الجهات ، واشتغلت في عمان في عالم التحف ايضا ، واجتمعت الى مندائيين كثر6* كان قسما منهم فنانين في الصياغة تركوا الوطن للهجرة الى العالم الجديد وكل واحد يمني نفسه بوطن يحتضنه غير آبه بالغربة والبعد عن ألأهل، واصبحت اعطيهم العدة والمادة كي يصنعوا لنا بعض ما عن لى من افكار كي اضمه لمجموعتي وبالفعل اصبح لدي قطع جميلة لم نشتغلها في العراق كما صرت الف الأسواق لأقتناء ما اعثر عليه من اعمال ألأهل ( المندائيين) ، وصارت قسمتنا ان يستقر ألأهل في استرليا وطننا الذي نحبه ويحبه ابناءنا كوطن نبني فيه مستقبل لأصلنا، فارسلت لهم مجموعتي الخاصة من الكتب والمجلات والتحف المندائية والعراقية ومختلف المقتنيات الخاصة وبمساعدة بعض العوائل المندائية الني كانت قد استقرت في استراليا منذ سنين حيث احتضنوا عائلتي كاخوان وقاموا بكل مساعدة ممكنة واشعروا عائلتي بانهم اهل لنا بحق . ختام هذه الرحلة اخبركم بأني قد عثرت على قطع مندائية في سدني بعد اسابيع من وصولي اليها وكذلك بعد سنتين اشتريت قطعتين جميلتين، وقبل اشهر فقط حصلت على قطعة بطريقة التبادل مع احدى هواة جمع الكشتبانات وقد اقمت معرضا لبعض مقتنياتي هناك وهذه القطعة تعتبر تأريخا موثقا لعمل المندائيين خارج العراق قبل الحرب العالمية الثانية حيث كتب عن ذلك في المجلات المندائية والبلد التي صنعت فيه هذه القطعة ( مصر) في الثلاثينيات وقد كانت موقعة من الفنانين بحرف واحد من اسم كل منهما.