صـــدى الاعمـــاق 

حسني الناشئ

 

  امام المحل الكبير الذي تطل واجهته الواسعة على شارع فلسطين والذي تعود أن يبتاع منه حاجياته.. اوقف سيارته ثم وقف يحيل النظر قبل ان يقرر الدخول اليه برهة في موقفه.. تذكرها تماما وهي تدلف قبله ضاحكة سعيدة كي تشتري هدايا الاولاد في عيد رأس كل سنة امضيناها معا لاتنسى شيئا تهتم بكل الاشياء صغيرها وكبيرها تعرف ماتحبه لينل فتشتريه... ومايريده زيد فتكثر منه واما نوفل فلقد اغرقته باللعب وتتكدس اكياس الحاجيات وصناديق الحلوى ثم يبدا معها بنقلها الى داخل السيارة عبر باب المحل فيما كان يتشاغل بالنظر الى ماعرض فيه صاحب المحل يتعرف عليه فيحاول مساعدته في اختيار مايريد.. بعد قليل حمل امتعته الى سيارته ثم مضى بها وفي ذهنه امور شتى يحاول ترتيبها بشكل ما (احاول تخفيف وطأة الحزن في اعماق الاولاد ..منذ ثلاث سنوات لم يعرف البيت المسرة .ملأالحزن ارجاءه كما ملأ ثنايا روحي وكم عذبتني نظراتهم الحزينة ولكن هل يعرفون ان حزني اكبر واعمق... واني لم اكن اتخيل رحيلها بهذه السرعة)...
  دكتور ماالخبر...
- كان وجهه جامدا لكن نبرة جفاء ملأت تضاعيف صوته وهو يتساءل:
- اين كانت لم لم تعرض نفسها على طبيب.... التحليل الاولي اثبت ان المرض استشرى في الجسم كله.. بدأ بالثدي والصدر، ثم الغدد.. هتف مرعوبا:
-هل ثمة امل..
-بلغة العالم لا.
 

  واصابني ذهول.. تساءلت وانا استغيث، واين هو العلم.. وهذا الوحش يفترس الحياة بكل قسوة.. واين هو الطب، وامام هذه اللعنة يقف عاجزا حد الشلل.. ولكن ماذا سأقول لها ..ينبغي أن اتحايل عليها ..حنان بشراك ياحبيبتي.. التحليل الاولي اظهر ان لاشيء مما تتوهمين.. ستعيشين طويلا.. ارجو ان يكون عمرك اطول من عمري تمد يدها تضع اصابيعها على فمي.. أقبل يدها.. ثم الثم خدها.. ياللشحوب.. اين مضى ذلك التوهج في وجهك.. وكيف غارت عيناك.. فلم يعد القهما يضيء الحياة من حولي.. ويالذاك الصباح.. كانت برودته تلسع العظام.. والهدوء يشمل البيت كله.. والاطفال خلدوا الى نوم عميق.. وانا ادرك انها تتلاشى.. تناهى الي صوتها ضعيفا خائرا.. نهضت مذعورا ملأ الحزن نفسي وانسرب الى عروقي.. التي ضجت بالامها.. ازحت ركام القلق المسيطر على تصرفاتي.. تنفست بعمق وانا احدق في وجهها الطافح بالالم:
  حنان..
  وامسك بيدها.. ثم المس جسدها.. ارى وجهها يسبح في تهاويم عالم بعيد.. هطلت دموعي ثم لثمت جبينها..... صرخت من اعماقي ايها الموت كم انت بشع وبارد... وتجمع العمر في لحظة حزن احسست انها كل حياتي.....
-بابا ..اريد انت تشتري لنا نفس التي كانت ماما تحبها.. وتشتريها..
قالت لينا ذلك.. ومسحت دموعها دون ارادة.. واما زيد فقد رأيت سحب الاحزان تغطي وجهه وعينيه... اخجل ان اتضاءل امامكم..علي ان ابقى واقفا.. أخفف عنكم ولكنكم لا تعرفون شيئا عما يدور في اعماق نفسي.. وهذه الليلة، ايضا لن تكوني معنا ياحنان.. ولكني احس بحاجة الأولاد الى ان يغيروا حياتهم... لن يرضيك مانحن فيه ان يقتلنا الحزن..خففت الكثير عنهم، وبعد ان تجاوزت تلك الحدود الخفية التي لايشعر بها الا من عرف الالم والحزن وعانى منهما ..قلت لابد من تغيير..


بابا ..اريد خاله جنان ..
 

  وانت يانوفل.. اكيد انك اكثرهم سعادة فقد كنت في سنتك الثانية عندما ودعنا حنان.. وها انت في الخامسة عجيب هو الزمن لايرحم احدا..الكل يكبرون ثم يمضون الى...... بابا.. خالة جنان قالت انها سوف تمضي السهرة معنا... اشاع صوت زيد في نفسي مساحات مضيئة..للتو كنت افكر فيها.بل وينبغي ان... ماذا هل اذهب بعيدا ..جنان اية اسرار تتجمع في عينيك.... واي شجن يغور في عميقها.. ايكون الوهم هو الذي يقود خطواتي.. ربما... لكني اعرف نفسي.. واعرف كثيرا عن مشاعري.. لم تترك فرصة الا وكانت بين الأولاد في البيت.. خففت الكثير عنهم من احزانهم ووهبتهم وانا معهم بمعاني جديدة للاستمرار.. ولكم كافحت وحشة الايام وحزنها بيننا ،حتى انسابت ابتساماتهم وارتفع صوت ضحكاتهم ولطالما نسينا وسط ذلك الاحساس،الراحلة ولن اكذب على نفسي لقد تمنيت في احيان ان تكوني بيننا.. لايهم الكيف.. وانما الحضور...


  امام باب البيت اوقف سيارته... رأى الأولاد بأنتظاره. كان المساء يقترب.. ونسائم كانون تحمل في طياتها برودة احس معها بأنتعاش... كانت لينا تمسك بيد خالتها جنان.... ونوفل بينهما... وعلى جانب يقف زيد.. ابهجه المنظر ،وتوغل في اعماقه شعور جديد بالحياة ..وثمة سعادة تجد لها منسربا في حناياه... شارك الجميع في نقل حاجياتهم... صاح مندهشا وباسما:


  - ماهذا لسنا في بيتنا ..
 

  اجابته جنان ضاحكة :
  اتفقت مع لينا وزياد على ان نقوم بترتيب البيت بشكل جديد ،غيرنا كثيرا من الأشياء.. وابدلنا مايحتاج الى تبديل... وهكذا ترى انك داخل الى بيتا جديدا.. مع دخولنا السنة الجديدة.... مضت الى المطبخ بصحبة الاولاد لتهيئة طعام الغداء الذي فات اوانه.. جلس على كرسي قبالة صورتها.. وقع نظره عليها.


  تخيل انها تبتسم له وتشجعه.... خاطبت مشاعره صورتها... (لي العذر منك ايتها الغالية... الرحلة طويلة.. والمسؤولية تكاد تقعدني وتشل حركتي.. ودعت بعدك كل مسرة، وها انا احاول ان اتجاوز ركام احزاني... فساعديني.. قام واقفا.. أقترب من الصورة.. حد بصره في العينين وود كعادتها.. تمد يدها تمسك بيديه.. تريح خدها على صدره... يتشمم رائحة عطرها الذي لاينساه.. تهمس بصوت كأنه حياة واعدة.. كما تريد ياحبيبي.. ثم الواسعتين... تذكر القهما ودفئهما.. رأه من بين تهاوين خياله تبتسم له بحنان وهي تتراجع ببطء وتوئده وتبعد شيئا فشيئا لتتوحد ثانية في الصورة التي امامه ...همس كالمأخوذ (أحقا ماتقولين..؟)

  حنان.. لعلها ليلة تمسح افراحنا احزان ليالينا الماضية... وها هي جنان بعض من روحك فيها يرفرف بيننا لابد من أمل وتفاؤل هكذا يمضي الحزن.. ويأتي الفرح دعاه زيد لتناول الطعام زفر كل أحزانه ملأت صدره روائح الغد المؤمل جلس الى المائدة مبتسما كانوا في انتظار ان يبدأ الاكل مدوا ايديهم جميعا كانت نظراته تتوزع بينهم وتلتقي بعيني جنان فيكتسي وجهها توردا لايخفي عليه.. ملأته موجه من التفاؤل والفرح أزاحت عن نفسه تلك الاحزان التي امضته وعذبته توهج بفرح طفولي وهو يرى أولاده وقد غمرهم الحب والدفء وود وهو يهتف من أعماقه وداعا يا ايام الحزن والالم.. ولكنه أوقف انهمار مشاعره بدأوكانه يخلق من جديد.. قال مخاطبا لنفسه... لن يكون الماضي وحشا يفترس سعادتنا وافراحنا.. أما الذكرى فهي نبض في العروق.. لابد للحياة أن تستمر وتتواصل.. ولابد لندائها أن يتغلغل بعيدا في ذواتنا.. ذلك ماينبغي أن يكون... ثمة صمت واعد يتقطع بين الحين والحين بصوت نوفل الطفولي.. أو ضحكة لينا المرحة او بتمازج الاصوات جميعا في نغم واحد.. كأنه الحياة أذ تتوهج بدفق لا انقطاع له.....