الآراميــون
والآراميــة
الأب البير أبونا
الآراميون
: ظهر
الآراميون في التاريخ منذ الألف الثالث قبل الميلاد كقبائل
رُحَّل ثم شكّلوا دويلات عديدة لم تفلح في تكوين إمبراطورية
قوية شأن الإمبراطورية الآشورية أو الفارسية، بل ظلت دويلات
تعيش على هامش الدول الكبرى، تتحالف تارة بعضها مع بعض، وطوراً
مع الأمم المجاورة، لصدّ العدوان عن ذاتها. لكن هذه السياسة
أخفقت في الإبقاء على هذه الدويلات، إذ إنهارت الواحدة تلو
الأخرى تحت ضربات الدول الكبرى، وزال تأثيرها السياسي
واستقلالها النسبي، فامتزجت شعوبها بالأمم المجاورة وذابت
فيها.
أصلهم:
إن أصل الآراميين غامض، شأنهم في ذلك شأن شعوب أخرى فليس في
حوزتنا وثيقة تُطلعنا على المكان الذي نزحوا عنه ولا مستند
يروي لنا نشأتهم. فهناك مَن يقول: إنهم من الموجة السامية التي
انطلقت من جنوبي العراق بإتجاه الفرات الأعلى، وآخرون يقولون:
إنهم من الجماعات النازحة عن الشمال عبر الحدود الغربية من
الصحراء السورية بإتجاه البلاد المصرية وبلاد كنعان والبقاع
الواقعة على ضفتي نهر الفرات، وهناك مَن يقول: إنهم من الأقوام
التي نزحت عن شبه الجزيرة العربية ضمن إحدى الموجات التي تدفقت
منها نحو البلدان الشرقية أو الشمالية، ولقد وردت دلائل تشير
إلى هؤلاء الرحَّل في مصر منذ السلالة الأولى (نحو 3100 ق.م)
باسم "ستيو" وأطلقت الوثائق الأكدية عليهم اسم "ستيو" في نحو
سنة 2700ق.م.
وأخذت هذه التسميات تدل في الوثائق الآشورية
المتأخرة على "الرحَّل"، ثم أُطلق اللقب على العموريين
والآراميين على حدٍّ سواء طالما لم يكن فرق واضح بين العموريين
الذين سكنوا "ماري" والآراميين القدماء الذين عاشوا في المناطق
المجاورة. وقد وردت أيضاً إشارات إلى الآراميين في النصوص
العموريّة عن "ماري" وفي الألواح التي عُثر عليها في أغاريت
"رأس شمرا" ... ومنذ عهد تلّ العمارنة (نحو1400ق.م) أخذت
الوثائق الأكدية تطلق لقب "أخلامو" على هؤلاء الرحَّل، وقلَّ
استعمال اسم "سوتيو" ثم زال تماماً. أما تغلاتفلاصر الأول
الآشوري (1112-1076ق.م) فقد خلط بين الأخلاميين والآراميين في
قصة انتصاراته على القبائل الأخلامية التي كانت تتدفق آنذاك
على الأقاليم الغربية من الإمبراطورية الآشورية. أما لقب
"آرام" فهو اسم جغرافي أُطلق على المرتفعات "الأرض المرتفعة"
الواقعة في الشمال الشرقي من سورية ثم أطلقه الآشوريون على
الجماعات التي وجدت في تلك المنطقة ومن ثم عمّت التسمية كل
القبائل التي تُنسب إلى أصل واحد، ويُنسب الآراميون في الكتاب
المقدس إلى آرام بن سام بن نوح أو إلى أسرة ناحور.
توسعهم:
فيما توجه بعض هؤلاء الآراميين الرحَّل شطر البلاد
المصرية عبر الصحراء السورية، وتحرك غيرهم نحو الشرق عبر
الطريق المؤدية إلى بابل السفلى ومن هؤلاء كان "القسّيّون"
الذين يمتّون بصلة القربى إلى أبناء ناحور وقد نزلوا بابل مثل
الكلدانيين في عهد داود (نحو1000ق.م) ولذا يرى البعض صلة قرابة
بين الآراميين والكلدانيين. هؤلاء النازحون إلى الجنوب سكنو
منطقة الأهوار في أعالي الخليج في بقعة سُمّيت "بلاد البحر".
من هناك أخذوا يتغلغلون في البلاد البابلية. وقد
أصبحوا في العصور الآشورية الأخيرة حلفاء ضد الزابيين. وهناك
جماعات آرامية أغارت على منطقة الفرات إنطلاقاً من "ربيقو" وما
إن اجتازت الفرات حتى سارت بمحاذاة نهري خابور والبليخ صعوداً
نحو منبعها. فانتشرت دويلات منهم على ضفاف الخابور في "بيت
بخياني" بجوار "تل حلف" ورأس العين الحالية وقد أصبحت هذه
المنطقة سنة(808ق.م) قسماً من الولاية الآشورية المسماة
"غورانا" وتركزت دويلة "شوفريا" في ما وراء تلك المنطقة بين
جبال كشاري والقمم الشرقية لجبل قره داغ الحالي. وتكونت دويلة
"بيث زماني" في الشمال الشرقي منها وعلى طول الضفة الشرقية
لمداخل نهر دجلة العليا بالقرب من ديار بكروبين "سوحو"
و"كركمش" استوطنت فئات أخرى من الآراميين على طول ضفاف نهر
الفرات في عهد الملكين الآشوريين: ريش _ ايش الأول
(1132-1115ق.م) وتغلاتفلاصر الأول (1112-1076ق.م) وقد لاقى هذا
الأخير صعوبة كبيرة في طردهم وإبعادهم عن تلك المنطقة إلا أنهم
عادوا إليها ثانية حين دبّ الضعف في المملكة الآشورية
واستطاعوا أن يثبّتوا أقدامهم فيها. أما مدينة " فترو" التي
سقطت في أيدي الآشوريين في القرن الحادي عشر قبل الميلاد قبل
إنكسار شوكة الحثيين في سورية فقد عاد الآراميون واسترجعوها في
عهد الملك آشور رابي الثاني(1012-972ق.م) وتقع هذه المدينة ضمن
مقاطعة آراميّة هامة هي "بيث أديني" التي تشغل المنعطف الغربي
للفرات وتمتد على ضفتيه شمالاً حتى لارام النهرين التي كانت في
الأصل تمتد من نواحي حلب إلى نهر الخابور وتشمل حدودها
الشمالية الرها وتل حلف ونصيبين. وقد صدّت "بيث أديني"
الآشوريين في تقدمهم السريع نحو البحر المتوسط وأصبحت رائدة
الآراميون في وجه قوة الآشوريين. وهكذا فقد توصل الآراميون إلى
ملء المنطقة المجاورة لحرّان التي كانت مركزاً هاماً للتجارة
الآشورية. وحران هي "فدان _ آرام" (طريق _ آرام) التي ورد
ذكرها في الكتاب المقدس وكانت موطن ناحور وإبراهيم ولوط
وبتوئيل ولابان وعنها نزح إبراهيم الخليل إلى سورية ثم إلى أرض
كنعان ولكنه عاد فاتّخذ من رفقة زوجة لإبنه اسحق، وأيضاً أرسل
إليها يعقوب "الآرامي التائه" ليأخذ زوجة من عشيرته وهكذا نشأ
الشعب العبري من الزوجتين الآرامـيتين "ليّا وراحيل" اللتين
جلبهما معه إلى أرض كنعان.
الدويلات
الآرامية:
لقد سبق العموريون الآراميين في السكن على ضفاف نهر الفرات
الأوسط، فاتجه الآراميون نحو الغرب ثم دفعت الإمبراطورية
الآشورية في زمان قوتها (1326-1076ق.م) بالقبائل الآرامية نحو
الشمال الغربي حيث استقرت في الأماكن الخالية من الجيوش. وهكذا
نشأت دويلة "ياحان" الآرامية عند الحدود الغربية لبيث ادينّي
وكانت عاصمتها ارباد التي كان يحكمها الأمير "متي أيلو" وقد
حُفظ نصُّ المعاهدة التي عقدها مع آشور نيراري الخامس(755-745
ق.م) بالصيغتين الأكدية والآرامية. ثم ثار هذا الأمير على
تغلاتفلاصر الرابع (745-728 ق.م) وكانت نتائج تلك الثورة وخيمة
على دويلته وازدهرت دويلة "حطينا" في السهول الواقعة بالقرب من
بحيرة انطاكيا. أما في الشمال الغربي من سفوح جبال الأمانوس
فنشأت دويلة "يعدي" أو "سمال" الآرامية التي منها وردتنا أقدم
النصوص الآرامية وكانت عاصمتها "زنجزلي" المشرفة على المضايق
المؤدية إلى قيليقية. وقد استولت هذه الدويلة على الطريق
الرئيسية التي تصل ما بين النهرين بقيليقية. أخيراً توصل
الآراميون إلى التغلغل في سهول قيليقية وكوّنوا منها امتداداً
لسوريا. وفي جنوبي "حطينا" بين حلمان (حلب) ودمشق نشأت مملكة
حماة التي ضّمت 19 مقاطعة وشكلت الحدود بين فلسطين وسوريا وقد
ملكها "توعي" الجزية للملك داود ثم سمي "زكيز" ملك حماة قسماً
من هذه المملكة باسم "لعش" وهي واقعة بين حلب وحماة، ومن أهم
مدنها الحصينة: "حزرك" وفي شمالي دمشق تكونت مملكة "صوبة "
التي كانت حدودها الشرقية تمتد إلى الفرات حيث اقتطعت من الملك
الآشوري آشور رابي الثاني (1012-972ق.م) مدينتي "فيترو"
و"موتكينو" وقد وردت إشارات كبيرة إلى "صوبة" في الكتاب
المقدس. وكانت دمشق الواحة الخضراء مدة طويلة "رأس آرام" (شام)
ومحطة القوافل المتوجهة إلى البلاد العربية وإلى مصر عبر
مقاطعة الجليل وساحلي البحر المتوسط فأصبحت من ثم مركزاً
اقتصادياً وثقافياً وسياسياً خطيراً ولعبت الشام الآرامية
دوراً هاماً في توازن القوى بين الدويلات المجاورة وساهمت في
إنهاك قوى الإمبراطورية الآشورية. وظهرت دولتان آراميتان شرقي
بحر الجليل وهما "جشور" و"معكة" اللتان دوّختا الملك داود
وساندتهما في ذلك دويلة "طوب" الأميّة الواقعة بالقرب من
"الطيبة" على الطريق المؤدي من البصرى إلى درعا. وقد تحالف مع
"صوبة" و"معكة" ضد داود الملك آراميّو "بيث رحوب" الواقعة
بالقرب من حدود حماة وكانت "لايش" كبرى مدنها تقع في أحد
الأودية بالقرب من نهر الأردن. ويُقال إن العمونيّين أنفسهم
كانوا آراميين يمتّون بصلة إلى إبراهيم وإلى آراميّي ناحور في
حران بواسطة لوط . نرى من كل ذلك أن الدويلات الآرامية العديدة
كانت ضعيفة بذاتها.
وتظهر لنا كتابة زكير ملك حماة كما وردت في صموئيل
(10:8) إن هذه الدويلات كانت تحارب بعضها بعضاً وتعير خدماتها
لجيرانها متى اقتضت مصلحتها (2أخبار 1:16-4) وكانت قوتها تكمن
في سهولة دخولها في أحلاف مؤقتة لمجابهة عدو مشترك. ففي "قرقر"
مثلاً قام تحالف ضم 11 دويلة بزعامة دمشق الشام وحاولوا سنة
853 ق.م صدّ الملك الآشوري شلمناصر الثالث وإخفاق خططه الرامية
إلى إخضاع سورية كلها وفلسطين.
إنقراض
الدويلات الآرامية:
لم يجد الآراميون في أحلافهم نفعاً أمام القوة
الهائلة التي امتازت بها الإمبراطورية الآشورية في يقظتها فقد
قام فيها ملوك أشداء قضوا على المقاومة الآرامية بهجماتهم
المتكررة والمتلاحقة وحوّلوا دويلاتهم إلى مقاطعات تدور في فلك
آشور فسقطت "بيث اديني" في قبضة شلمناصر الثالث سنة 856ق.م
وأصبحت جزءأً من الولاية الآشورية المدعوة "قار _ شلمان
اشاريدو" واستسلمت أرباد لتغلاتفلاصر الثالث سنة 740 ق.م وحذت
حذوها "صوبة" ودمشق سنة 733 ق.م، واستولى سرجون الثاني على
حماة سنة 270ق.م بعد أن غزا إسرائيل سنة 721ق.م وسبى عدداً
كبيراً من سكانها وأخذهم إلى الأراضي الآرامية الواقعة بالقرب
من الخابور وإلى منطقتي غورازانا وحماة وأجلى جماعات آرامية من
حماة وأسكنها في السامرة ويفتخر تغلاتفلاصر الثالث (745-727
ق.م) أنه نفى أكثر من 40 الفاً من سكان سوريا الشمالية إلى
المناطق النائية من الإمبراطورية، وإنه أرسل 12 الف آرامي _
أخلامي من منطقة الزاب شرقي دجلة إلى سوريا وأجلى غيرهم من
المراكز الآرامية الهامة. وقد ذكر القائد الآشوري عندما حاصر
أورشليم سنة 701ق.م أنه قضى على حماة وأرباد بجيوشه الجرارة.
وهكذا فقد قُضى على نفوذ الآراميين السياسي في المنطقة الغربية
وظلت منهم بقية نشطة منتشرة في المنطقة الواقعة جنوبي بابل وقد
ازدادوا قوة بما وافاهم من الآراميين الهاربين من الشمال
واستقروا خصوصاً في الواحات الواقعة شرقي دجلة في حدود بابل
وعيلام وأصبحوا حلفاء بابل يسببون متاعب كبيرة للإمبراطورية
الآشورية حتى أفلحوا في القضاء عليها وتدمير عاصمتها سنة 612
ق.م (أو سنة 609 ق.م) ولما تشكلت المملكة الكلدانية (البابلية
الحديثة) امتزج بها آراميو بابل وذابوا فيها.
الذهاب
الى اعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة
|