ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

مجـلة صـدى النهريــن - العدد التاسع / حزيران 2009

                                                                                                                                     

اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

  بين السؤال والجواب 

الكاردينال مار أغناطيوس موسى الاول داود

    السؤال الذي كان الرب يسوع يريد أن يوجّهه إلى بطرس، ومن خلاله إلى كل تلميذ في كل العصور، وبالتالي إليّ أنا بالذات، كان بحاجة إلى سيناريو معين لكي يكـــون له وقعه وتأثيره. هذا ما يحكيه لنا يوحنا الرسول في الفصل الحادي والعشرين من إنجيله، سارداً لنا بعناية كل التفاصيل ... دعونا نقرأ الرواية الجميلة ونميز فيها المشاهد التالية:
 

 


  المشهد الأول: الفشل التام
      سبعة تلاميذ يجتمعون: الصفا، وتوما الذي قال له التؤام، ونثنائيل وهو من قانا الجليل، وإبنا زبدى، وآخران من التلاميذ (يو2:21-3) والمبادرة كالعادة، تأتي من سمعان بطرس، الذي يتمتع بروح القيادة والزعامة، فيقول لرفاقه:"أنا أمضي وأتصيد". ويكفي هذا القول حتى يستجيب الآخرون قائلين بصوت واحد:"نحن نجيء معك أيضــــاً" (يو 3:21)، في حياتنا، أيام وليالٍ كثيرة نواجه فيها الفشل الذريع. وفي حياتي الشخصية، وربما في حياة كل واحد منا، كم من جهد وكم من محاولة، وكم من مسعى ذهب أدراج الرياح. في مثل هذه الأحوال على الإنسان ألا يستسلم لليأس والإحباط، بل أن يتقبل الحدث بروح رياضية وتسليم تام للإرادة الإلهية، فلابدّ للّيل أن ينجلي، والظروف أن تتغير، فينبلج الصبح وتسطع الشمس ويتحقق الأمل.


  المشهد الثاني: الصيد العجيب
      فلما كان الفجر، وقف يسوع على الشاطىء "ولكن التلاميذ لم يعلموا أنه يسوع" (يو4:21) وكم من مرة يختفي يسوع ويدعنا لأنفسنا، لنختبر عجزنا، ونعلم أننا من دونه لا نستطيع شيئاً. غير أنه يتابع جهودنا باهتمام ويسعى إلى إغاثتنا في الوقت المناسب. فها هو يخاطب التلاميذ قائلاً:"يا فتيان ألعلّ عندكم شيء من السمك؟" (يو5:21). إن يسوع ليس بحاجة إلينا، ولكنه يرغب أن يستفيد مما عندنا ويعطي قيمة لمساهمتنا. كما فعل لما قام بتكثير الأرغفة الموجودة والسمك المتوفر. ولما أجابه التلاميذ:"لا"، قال لهم:"ألقو شبكتكم من جانب السفينة الأيمن فتجدوا" (يو6:21)، وعوض أن يعترض التلاميذ، كما فعلوا مرة أخرى قائلين:"إننا تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً"، هذه المرة ألقوها للحال، كما يقول الإنجيل، وكان الصيد العجيب "إذ لم يقدروا أن يجذبوها من كثرة الســمك" (يو6:21)، "وهي ممــــلوءة سمكاً كبيراً مئة وثلاثاً وخمسين، وبهذه الكثرة لم تتمزق الشبكة" (يو11:21). إننا نقف مندهشين أمام هذا الصيد العجيب، ونجد فيه دون شك تدخل يسوع مكثراً الخبز والسمك. وكيف لا نلاحظ هذا النجاح المفاجىء ماهو إلا نتيجة سماع كلام يسوع. وكم من مرة نختبر النتائج الباهرة التي تنبع من طاعتنا لله وقبول إلهامات الروح القدس. فما أحرانا إذاً، أن نلقي الشبكة من جديد، باسم يسوع واثقين بنجاح غير متوقع.
 


  المشهد الثالث: سمعان بطرس يلقي بنفسه في البحر
      مَن كان ذلك الزائر الصباحي الذي يشير إلى التلاميذ بإلقاء الشبكة من الجانب الأيمن ويُجري المعجزة؟ التلميذ الحبيب، بحدسه الرهيف، وذكائه الخارق، وحبه الصافي، يكشف مَن هو، ويتقدم من سمعان بطرس ويقول له:"إنه الرب" (يو7:21). وما إن عرف سمعان أنه الرب حتى شدّ قميصه على حقويه، لأنه كان عرياناً وألقى بنفسه في البحر. ألا، حياك الله يا سمعان! حبك هو الذي دفعك إلى هذا الحماس وهذا التسرع. ولكن ليست المرة الوحيدة التي تلقي بنفسك في البحر. بل تجرأتَ ذات مرة ومشيتَ على الماء، مثلما كان يسوع يمشي. ولكن لماذا شككتَ يا قليل الإيمان؟.
 


  المشهد الرابع: الفطور الشهي
      ولما إنتهى التلاميذ من جرّ الشباك وفرز السمك، دعاهم يسوع إلى الفطور. قال لهم:"تعالوا افطروا" (يو12:21)، ونظر التلاميذ فأبصروا جمراً متّقداً عليه سمكاً، وخبزاً (يو9:21) وقال لهم يسوع:"قدّموا من السمك الذي صدتم الآن" (يو10:21). كانت الشهية دون شك شديدة، بعد تعب ليلة منهكة. وكان الطعام أيضاً شهياً، لأن يسوع أعدّه بنفسه. ففطر التلاميذ وشبعوا واستراحوا واطمأنوا. ويضيف الإنجيل: أن يسوع "أخذ الخبز وأعطاهم" (يو13:21). في وسع المرء أن يتساءل إن كان هذا الخبز هو خبز الافخارستيا!.



  المشهد الخامس: السؤال المحير والجواب المتلعثم
      بهاتين الحقيقتين المهمتين، أراد يسوع أن يمهد للسؤال المهم الذي كان يريد أن يطرحه على سمعان بن يونا.
الحقيقة الأولى: عجز التلاميذ بقِواهم الشخصية عن بلوغ أي هدف، لكي لا يتّكلوا على أنفسهم وينسبوا إلى ذواتهم النجاح والتوفيق.
والحقيقة الثانية: الطاعة ليسوع وسماع كلامه يعملان المعجزات. فالطاعة له تعطي لحياتنا معنى، ولجهودنا قوة وفاعلية. على نتائج تفوق إمكانيتنا، وتتجاوز توقعاتنا.
بعد الفشل والخيبة إذاً، وبعد الصيد العجيب الذي أنعش اَمال التلاميذ، وذاك الفطور الشهي، والإستراحة من عناء ليلة منهكة، دعا يسوع التلاميذ السبعة إلى جلسة حميمة، على نحو ما تعودوا عليه، فتحلقوا حواليه، مبتهجين بهذه الزيارة الصباحية وهم يتساءلون:"ماذا يقول لنا المعلم اليوم؟" فلابدّ أن لهذه المفاجأة قصداً وغاية. أجال يسوع على السؤال موجه اليه بالذات . فنظر الواحد الى الاخر نظرة خشية ودهشة، متسائلين: عما تراه كان قصد يسوع؟ أما سمعان بطرس وهو المعني الاول فقد وقع في حيرة مذهلة وحرج شديد، وأمعن في التفكير. ماذا يجيب ؟ فلكي يستطيع سمعان بطرس أن يعطي جواباً يعبر عن واقع الحال، كان لابد له أن يعود الى ذاته ، فيتذكر كل كلمة من كلماته، وكل موقف من مواقفه ، وينزل الى أعماق كيانه ، ويكشف ما في داخله، ويحلل ما يختلج في نفسه من مشاعر وأفكار وعواطف. ومن يستطيع أن يجيب على ذلك السؤال بدون العودة الى النفس ومراجعة الحياة ومعرفة الذات؟ ولكن من أين لبطرس الوقت المادي الكافي لمثل هذا البحث؟ فالمطلوب أن يجيب على الفور ، خلال لحظة واحدة . فهل تلك اللحظة القصيرة من الزمن، بين السؤال والجواب، كانت كافية ليستعرض حياته ويعطي الجواب المناسب؟ هذه هي مقدرة العقل البشري الذي يستطيع أن يحلق فوق المكان والزمان، ويتجاوز الاشخاص والاحداث ، ويلقي نظرة مجردة شاملة على الحياة والوجود . ففي لحظة من الالهام الداخلي ، تجيش القريحة ، وتولد الفكرة ، وتتبلور الصورة، ويبتكر المقال أو القصيدة الشعرية، أو اللوحة الفنية، أو السمفونية الموسيقية، حتى وأن كان بعد ذلك لابد من تنسق وكلمات تنتقي وإخراج ينظم . وللحقيقة أقول هذه الخواطر ولدت في لحظة تأمل وتفجر ذهني، اقتضى مني بعد ذلك ساعات وساعات بل أياماً واشهراً ، أقدم وأؤخر وأزيد وأنقص. هكذا أفترض أن سمعان بطرس، قبل أن يجيب على السؤال استطاع أن يستعرض حياته كلها في نظرة شاملة، تماما كما لو كنا نرى القارات الخمس مجتمعة في لوحة واحدة. لا أقول أن سمعان بطرس أدرك في تلك اللحظة كل أبعاد ذلك السؤال، ولكني اقول إن سمعان بطرس قد فهم من ذلك السؤال كل ما يسرد في هذه الصفحات. ماذا كان السؤال؟ وماذا كان الجواب؟ هذا ما سيشغلنا في الفصول الاحقة. بل أقول أن ألف كتاب وكتاب لا يكفي إحاطة بذلك السؤال وترجمة لذلك الجواب. لان ذلك السؤال يعني كل ما في الوجود من حقيقة، وذلك يعني كل ما في الحياة من خير.

 

 

الذهاب الى اعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة