التطور والخلق عند الشعوب 

الأب الدكتور يوسف توما

                                                                                                                                                 

   تعصف بين شعوب العالم الغربي وفي الولايات المتحدة خصوصًا، منذ زمن، أزمة بين تيارين، تيار يقول بالتطور وآخر يرفضه ويقول بأن الله خلق كلّ شيء حرفيًا كما جاء في الكتاب المقدس، الأولون هو التطوريون (evolutionists) والآخرون هم (دعاة التفسير الحرفي للخلق (creationists) ¹ فهناك الجمعية الأمريكية المدنية للحريات ومختصرها ACLU التي تمكنت من وضع قانون في ولاية بنسلفانيا لتطبق على مدارس هذه الولاية وذلك في عام 2005 ضد نظرية التطور التي نادى بها دارون، فوضعت نظرية أخرى اسمها Intelligent Design أي "التدبير الذكي" وتقوم هذه النظرية ضد نظرية التطور التي تدرّسها غالبية المدارس كنظرية مبررة علميا أما التدبير الذكي، بحسب هذه الجمعية الأمريكية، فليست سوى مختصر فلسفي اقتبسته من تقاليد الكتاب المقدس التي اعتمدت فكرة أن هناك تعاقبا منطقيًا في الطبيعة وأن ليس هناك شيء بالصدفة أو تحولات مفاجئة ولكن كل شيء متوقع وقد خلقها كائن عارف حاضر ذكي له مخطط أي إنّ كل شيء هو من عمل الله.


  لكن هنالك إشكال: أي إله يقصدون؟ فعندما قرر مؤسسو الدستور الأمريكي الأوائل وممثلو الولايات المتحدة الثلاثة عشر الأولى، الفصل بين الدين والدولة، وكان هذا لتجنب أن تقوم إحدى الولايات بإجراء إضطهادات دينية مثل تلك التي أدمت أوربا إبان القرن 16، لم يكونوا يريدوا لهذه الدولة الشابة الجديدة، والتي لم يكن لديها خبرة عميقة في الديمقراطية أن تتأذى بهذا الجانب الفكري. من جهة أخرى كانت البحوث التي قام بها شارل داروين قد اتجهت نحو الانتقاء الطبيعي، وهي فكرة عارضها كثيرون منذ صدورها في عام 1859، حين نشر كتاب "أصل الأنواع". لكن منذ حوالي قرنين قطعت البشرية شوطًا كبيرًا في فهم العالم وكيف أصبحت البشرية الجنس المسيطر على كوكب الأرض، وكيف أن الأرض والنظام الشمسي تكونا وتغيّر تطور الكون خلال الزمن، وكيف أننا نفهم اليوم نظرية التطور التي تطوّرت هي بالذات.


  يعتقد العلماء اليوم أن هناك منطقًا داخل حقيقتنا الواقعية، وأن هناك قوانين حدية ضرورية هي القانون الطبيعي، وإن بقي الكثير من الغموض يلفه. وبرغم أن هناك إجابات عديدة، لكن تساؤلات كثيرة أيضًا وأن السؤال الذي واجهته مدرسة ولاية بنسيلفينيا واسمها (دوفر سكول دستريكت) هو فرض نموذج واحد للاعتقاد بالخلق، في منطقة تعددت فيها الأجناس والشعوب، ولهذا وقفت جماعة من العلمانيين ترفض هذا القانون الذي يفرض تدريس الخلق من وجهة نظر واحدة وعدّوا ذلك فرضًا لديانة معينة، فإذا ما سمحت الولاية بمعتقد واحد أن يعلّم، وجب عليها أن تعلم المعتقدات الأخرى أيضًا.
للخروج من هذا الصراع نقدم في ما يأتي قائمة بمعتقدات وأساطير الخلق التي تناولتها الحضارات في الحاضر وفي الماضي:

- على شواطئ دجلة والفرات
  أسطورة الخلق البابلية تدعى أينوما أيلش، بدأت بإله ما إسمه أبسو، (أي الطراوة أو النداوة)، وإلهة إسمها تيامات (أي الملح) وتعاقبت أنساب الآلهة عديدة، حتى وصلوا إلى الإله إيا وإخوته العديدين، وكان هؤلاء الآلهة الشباب يحدثون ضجّة بحيث لم يستطع الإلهان أبسو وتيامات النوم، فقرر أبسو أن يقتلهم جميعًا، لكن إيا الشاب استطاع أن يقضي عليه قبل أن يفعل هو ذلك، فقررت تيامات أن تنتقم منه بخلقها الوحوش، ومن بينها كلب مسعور ورجل عقرب. لكن الإله إيا، والإلهة دانتينا، قاما بخلق مردوخ، وهو إله عملاق له أربعة أعين وأربعة آذان لكي يحرسهما، وفي صراعه مع تيامات، إستطاع مردوخ باستعمال الرياح سلاحًا، فدفع بريح سيئة نحو تيامات ليشل حركتها، فتمكن من قتلها بسهم واحد في قلبها، ثم جزّأ أشلاء جسدها واستعمله كي يخلق به السموات والأرض، وبعدئذٍ خلق الإنسان، لكي يشتغل للآلهة التي رفضت العمل في الحقول وفي التجارة والحسابات.


- أساطير مصر القديمة
  كان للمصريين القدماء أساطير خلق عديدة، كل شيء بدأ بالمياه المضطربة، غير النقية، واسمها (نو) أو (نون) وأولد أتون نفسه، وخلق (تلاً) لكي يقف عليه فوق المياه، ولم يكن لـ (أتون) من جنس، لكنه كان يرى كل شيء، وأولد إبنا وهو (شو) إله الهواء وتقيأ إبنة هي (تفنوت) إلهة الزرع، وهذان سُلِما مهمة خلق الفوضى، وأولد (شو) و(تفنوت) جد الأرض (نوت) أي السماء، وكانا في البداية معًا لكن نوت رفعت فوقه، وهكذا تشكلت العوالم. أما شو وتفنوت فضاعا في الظلمة، فقام أتون برفع عينه التي ترى كل شيء لكي يبحث عنهما، وعندما عاد شو وتفنوت بفضل ما فعلته تلك العين، بكى أتون من الفرح، فكانت تلك الدموع هي الأمطار التي منها ولد الإنسان.


- الزردشتية، ديانة بلاد فارس القديمة
  تقول الأساطير التي جاءت من أواسط إيران بأن خالق العالم هو الإله أهورا مزدا، وأن الجبل العظيم بورز نم على مدى 800 عام حتى لامس السماء، وحينذاك بدأ المطر يهطل ليتشكل بحر بورسكاشا ونهران. وكان الحيوان الأول ثور أبيض يعيش على شاطئ نهر فهرود، إلا إن الروح الشريرة أنكرامانيو قتل الثور وحمل زرعه إلى القمر فتنقى هناك وخلق حيوانات ونباتات، وعبر النهر كان يعيش الإنسان الأول غايومار، وكان نقيًا لامعًا كالشمس، فقامت الروح الشريرة انكرامانيو بقتله أيضا، فقامت الشمس بتنقية زرعه لأربعين عامًا، ونشرت به نبات الراوند Rhubarb (وهو عشب ذو منافع طبيّة) فنما هذا العشب ليتحوّل بعدئذ إلى البشر المائتين الأوائل، وعوض أن يقتلهم الإله انكرامانيو، قرر أن يفرض عليهم السجود له، وخلال 50 عامًا أنجبوا توائم لكنهم عادوا فافترسوها، مرتكبين بذلك خطيئة أولى، وبعد زمن طويل، ولد توأمان ومن هذين التوأمين جاءت البشرية.

 


- الخلق عند الهندوس
  يحتوي الفكر الهندوسي حول الخلق عدة أساطير، والأشخاص المهمين في القيام والسقوط لهم أهمية خلال القرون العديدة لهذه الديانة التي تعدّ من أقدم الأديان الباقية حاليًا إذ تعود إلى 4 آلاف سنة. ومن أقدم نصوص كتاب (الفيدا) و (ريكفيدا)، تقول: كان هناك كائن عملاق بروشا Purusha يمتلك آلاف الرؤوس والعيون والأقدام، قام بالإحاطة بالأرض، ممتدا تحتها وفوقها بأصابعه العشرة، لكنّ الآلهة قامت بذبح بروشا وقدّمت جسمه قربانًا، فأنتج ذلك شيئا يشبه زبد البحر، وتحوّل إلى الطيور والحيوانات، أما بقايا أشلاء جسمه فصارت عناصر العالم وصارت أيضًا الآلهة (أكني Agni) و(فايو Vayu) و(أندرا Andra)، وكذلك تكونت طبقات المجتمع الهندوسي، وهي أربعة، خلقت من جسمه ذلك الإله، وهي: الكهنة والمحاربين وعامة الشعب والخدم . وظهرت في التاريخ لاحقًا البراهمـة، أي الإله (براهما) الخالق و(فيشنو Vishnu) الحاضر و(شيفا Shiva) المدمّر وأخذ هؤلاء الثلاثة مكانهم، ويظهر (براهما) في زهرة اللوتس على أثر ظهور بحري للإله فيشنو النائم، وخلق براهما الكون الذي يدوم يوما من أيامه أي 4.32 مليار سنة، ثم يقوم الإله (شيفا) بتدمير الكون، ثمّ يبدأ من جديد، ولا داعي للخوف لأننا مازلنا في زمنه وقد تبقى مليار سنة!


- الإغريق
  كان شعراء الإغريق الأوائل قد عرضوا شروحات عديدة للكون. أهم ما تبقى منها هي ظهور الآلهة. فيقول الشاعر هيزيود Hesiod في نشيد قديم: خرج الآلهة الأولون من الفوضى الأولى، ومن بينهم (غايا Gaia) وهي الأم الأرض، وقامت غايا بخلق أورانوس Uranus، أي السماء، لكي تغطي نفسها، وأنتجا وأولدا مجموعة غريبة من الآلهة والوحوش، من بينها خصوصًا، وحوشًا لها 50 رأسا و100 يد، ووحوشًا لها عين واحدة، ثم جاءت الآلهة التي تسمى (تيتان) 6 بنين و6 بنات، فنشر (أورانوس) أولاده الوحوش وأرسلهم لكي يسجنوا هؤلاء الأولاد في طرطاروس، في آنية الأرض لكن (غايا) الأم، أعطت إبنها الصغير سلاحًا مع تعليمات لاستعماله، وعندما ظهر أورانوس مرة أخرى كي يتزاوج مع (غايا) قام ابنها خرونوس (الزمن) قافزًا، فقطع أعضاء أبيه الجنسية، فسال دم أورانوس ووقعت بذوره وقامت وحوش وعمالقة أخرى ومن زبد البحر سقطت فيها بذور هذا الإله، ظهرت الإلهة أفروديت، وأصبح خرونوس، أبًا لمجموعة أخرى من الآلهة وهي: زوس Zeus وآلهة جبل الأولمب، وهكذا بدأت أساطير وقصص تلك الآلهة التي قد تكون أكثر ما انتشر بين الشعوب من قصص.


- الخلق عند الأستيك في المكسيك
عند الأستيك الأرض هي الأم واسمها كواتليكيو Coatlicue، وتعني (قميص الثعابين) وتوصف بشكل مرعب، إذ تلبس في عنقها وشاحًا من قلوب بشرية وأيدي، وقميصًا من الثعابين، كما يدل على ذلك إسمها. وتذهب قصة هذه الأم إلى أنها تزاوجت مع سكين، فولدت إلهة القمر ثم ولد لها 400 إبن أصبحوا كواكب السماء الجنوبية، وسقطت بعدئذٍ كرة ريش من السماء، فأخذتها هذه الأم ووضعتها في معصم يدها، فحبلت مرة أخرى بإبن وبنين آخرين إلتفوا على أمهم، فتآذت من حملها لهم، فأهانوها، ولسنا نعرف سبب ذلك، مع ذلك الطفل الذي كان في داخلها هو إله الحرب وهو إله الشمس، قفز من رحم أمه، فكان ناميًا بالكامل، ومسلحًا وهجم على أحد إخوته وقتل أمه لمساعدة الحية النارية وقطع رأسها وألقاها في السماء فأصبحت القمر.
 

- الصين
جاءت أساطير الخلق في الصين من المملكة الوسطى تقول إنه تم ذلك إنطلاقا من بيضة، كانت تطوف بلا زمن، تحتوي قوى متضادة متعاكسة هي الين واليانغ Yan و Yang وبعد أن اختمر كل شيء ظهر الكائن الأول واسمه بان كيو Pan-ju والأجزاء الثقيلة من الين التي في البيضة سقطت وكونت الأرض، أما الأشياء الخفيفة منها أي اليانغ فصعدت لتشكل السماء، أما البان كيو، فخوفًا أن يتشكل أجزاء أخرى، وقف على الأرض وأمسك السماء لئلا تسقط، وكان ينمو ويكبر 10 أقدام باليوم، وذلك على مدى 18 ألف عامًا، حتى صار ارتفاع السماء 30 ألف ميل تقريبًا، وعندما اكتمل عمله مات وتحولت أشلاؤه إلى عناصر الكون، أي إلى الحيوانات والعناصر والأجرام السماوية، وبعضهم يقول إنه طار وأصبح بشرًا، لكن هذا موضوع آخر، أما الإلهة نوا Nuwa فكانت وحيدة، لذا خلقت الرجال من الطين الذي أخذته من النهر الأصفر، والكائنات البشرية الأولى أسعدوها، ولكن أخذوا وقتا طويلا ليصيروا بشرًا، ولهذا ألقت القطع الطينية الزائدة على الأرض، وأصبحت كل قطعة إنسانا جديدا، وهؤلاء البشر المصنوعين من البقايا، صاروا الأناس العاديين، أما القطع الأولى فصارت النبلاء، وكان هذا أنموذج التصنيع المكثف.


- اليابان
في هذه الجزيرة الأرض قامت الآلهة بخلق كائنين إلهيين، أقل منها درجة وهما زوجين أخوين إيزاناكي Izanagi وأخته إيزانامي Izanami وقف فوق جسر طائر على المحيط الأولي، واستعمل أشياء من الآلهة لكي يعملوا الجزيرة الأولى (أونوكورو) وفوق هذه الجزيرة تزوج كل من أيزاناكي وأيزانامي، لكنّ ما ولد لهما، كان مسخًا مشوهًا، فعاتبتهم الآلهة على سوء التصرف، وخلال حفلة الزواج قامت الزوجة إيزانامي بالكلام، فصححت طقس الزواج وكلاهما أنتجا الجزر اليابانية، وعدة آلهة، مع ذلك عندما ولد الإله النار، منها ماتت إيزانامي، وكان زوجها مرعوبًا، فذهبت إلى (يومي)، بلد الأموات، وبما إن الزوجة الميتة أكلت طعام (يومي)، لم تعد تستطيع العودة، فرأى زوجها إيزاناكي جسمها يتفسخ، فخاف وهرب، فغضبت إيزانامي ولحقت به تتبعها نساء قبيحات وصرخ إيزاناكي الزوج، وألقى عليهم بأشياء شخصية لديه، ليحيدهن عن ملاحقته، فاستطاع أن يخرج من الكهف، من مدخل (يومي) وقام بإغلاقه بما يفصل بين الحياة والموت (وهذا يشبه ما قام به بيرسيفون، في هادس، في أساطير الإغريق).


- الأساطير الإسكندنافية
تقول الأساطير الإسكندنافية أنه كان هنالك آلهة ذكور وإناث، وأساطيرهم عبارة عن قصص أجداد البلاد الأسكندنافية والجرمانية، وتعود أساطير الخلق لديهم إلى الماضي، فتقول: قبل أن يكون هنالك أرض ما، كان فقط أرض صغيرة يحرسها سيف من نار، وكان الجليد يغطي البقية، وعندما لامس الذهب النار، ظهرت البقرة، ثم خلقت البقرة الإله تور (Thor) وزوجته وولد لهما ثلاثة أولاد، لكنّ هؤلاء البنين قاموا بقتل البقرة العظيمة، ومن جسمها ولحمها خلقوا الأرض، أما الجبال فخلقوها من عظامها وخلقوا الأشجار من شعرها، وكذلك خلقوا الأنهار والبحار والبحيرات من دمها و من رأسها خلقت السماء... يعتقد العلماء أن هذه الأساطير نشأت في فترة استطاع فيها الإنسان التعامل مع المعادن أي في فترة النحاس أو الحديد.


- الخلق في الديانات التوحيدية
يعد سفر التكوين أول كتب التوراة في الكتاب المقدس وهو يحوي على قصتين للخلق، وكلاهما يحكيان قصص خلق هذا العالم ويقبل ذلك كلّ من اليـهود والمسـيحيين والمسـلمين. تقول القصة الأولى إن الله قال ليكن نور فكان النور، وخلق الله في 6 أيام السماء والأرض والنباتات والشمس والقمر والحيوانات وبقية الخلائق ومن بينها البشر، وقال لهم جميعًا: "أنموا وأكثروا"، وهذا ما فعلوه، وفي اليوم السابع إستراح الله ليتأمل بعمل يديه، وأعطى نفسه هذا الارتياح الكبير للإعجاب بخليقته. أما في القصة الثانية فإن الله يخلق الإنسان الأول آدم من الأرض (الطين) ويقيم جنة عدن لآدم، ويمنعه من أكل ثمرة شجرة معرفة الخير والشر، ويطلق آدم أسماء على الحيوانات وهو وحده، ثمّ يسلط الله تخديرًا على آدم ليصنع من إحدى أضلاعه إمرأة، وهي حواء (أم الأحياء)، لكن حيّة ناطقة تخرج لتقنع حواء بأكل الثمرة المحرمة، وتقنع حواء آدم بعمل ذلك أيضًا، وعندها يطردهما الله من البستان (الجنة) ويعطيهما ونسلهما الموت.



- خاتمة
إن مادة هذه الدراسة مفيدة جدًا لفهم تاريخ الأديان، وإن كانت غير كافية لتتبع تطوّرها ومسارها بشكل أكيد. على العموم، الصورة الشاملة تسمح لنا بإعطاء تفسير بسيط لمسار الإنسان الذي عاش ويعيش في هذا العالم، وذلك بين مختلف الحضارات والثقافات. فالعودة إلى الوراء تجعلنا نعرف التصوّرات التي كان الناس يحملونها عن أنفسهم وعالمهم، وهذه التصورات أصبحت اليوم موضع احترام ودراسة أسهمت العولمة في نشرها. فهي أشبه بحلقات متداخلة بعضها مع البعض، فالكل تأثر بالكل، فتكشف تلك الحلقات وجود إتجاهين متميزين ومهمين:
-إتجاه نحو الجماعة الضيقة، حيث الإله فئوي أو عشائري، يؤكد فقط خلاص جماعته أو عبّاده.
-واتجاه نحو الخارج، نحو الآخرين أي بانفتاح نحو الغريب والبعيد في أفكاره وخصوصياته.

  في التوجه الأول يتخذ الإله القومي الأهمية، ويصبح الشعب هو المركز فيصير إلهه إله حرب يطرد الأعداء، ويساعد شعبه على الإنتصار ضد المحتلين والمتسلطين. لكن مع التقدّم والنضوج تتولد دائرة ثالثة، أوسع لتحوي العالم كله، هكذا ستقوم آلهة كونية، تسهر على أسس الطبيعة والحياة، وتأخذ أشكالها من الإنسان ومن مشاعره. في النهاية يصبح حتى الشر والسحر، أجزاء مرحلية في كل حلقة، حتى يتحوّل الإله إلى إله شخصاني، يحتل المكان كله، فيمكّن، حينئذ، الفرد من أخذ زمام أموره، فيرفع عنه الحماية والوصاية، ويعطيه حرية الحركة والبركة. فيبلغ هذا الإنسان وينضج، ويأخذ مصيره بيده، فتتحول العلاقة مع الله إلى عقد وعهد وصلاة، وينظر إلى ما حوله نظرة إيجابية، فيحظى بالأمان والسلام حتى لو بقي في وسط قوى عدوانية. فهذه العلاقة مع الإله ستمنحه الشعور بالاطمئنان الذي فقده في أزمنة الأزمات والحروب، ويصبح للوقت أهمية، فيفهم أن ديمومة الأديان تكمن في السلام، وبدونه لانقرضت، من هذا المنظور يمكن أن نقرأ تاريخ الأديان، ونفهم أن السلام هو مقياسها.


 
(1) راجع كتاب: الخلق والتطور، حوار بين الدين والعلم، ترجمة باسيل قوزي، تقديم الأب الدكتور يوسف توما، منشورات مكتبة الناصرة بغداد 1989. ص 16