11 سنة بعد النعجة دوللـــــــي - الأب
الدكتور يوسف توما
في شباط 1997 فوجئ العالم بولادة أوّل حيوان لبون، لا عن طريق التكاثر
الطبيعي، من ذكر وأنثى، وإنما عن طريق الاستنساخ (أو الاستنسال) وسرعان
ما وقف العالم يتساءل، وطرح الفلاسفة والمفكرون أسئلة وأدلى كلّ بدلوه
حول نجاح أو فشل هذه الطريقة. واليوم بعد أكثر من 11 سنة على هذا الحدث
أين نحن؟ سنستطلع في هذا المقال تباين مسارين في الهندسة الوراثية: ما
يخص النباتات وما يخص الحيوان والإنسان وموقف بعض المختصين من
المجالين، وسنرى أين وصلت تقنيات الهندسة الوراثية، وما هو حظ مثل هذه
المشاريع في المستقبل؟
هناك جدل حول ما سمي بالمتغيّرات الجينية، أدخله الفاتيكان مؤخرا،
كإحدى الخطايا الكبرى، وهناك على ضفتي المحيط الأطلسي، بين أوربا
والولايات المتحدة يقوم ما سمّي بـ "حرب الجينات"، أي حول ما يخص
النباتات المعدّلة وراثيًا (OGM) التي نزلت إلى الطعام والأسواق، ودخلت
في مجالات عديدة، لكنها تثير حفيظة دول كثيرة، في أوربا خصوصًا،
فمنعتها، بينما البعض الآخر قبلها على مضض. منهم من يقول إنها لا تشكل
خطرا ولا تهدّد بتغيير البيئة، ومنهم من يحذّر منها. لكن تبقى المشكلة،
كونها تعيدنا إلى نقطة الصفر في تعاملنا مع كلّ جديد في الحياة
والطعام.
حتى إذا رفضت أوربا الـنباتات المعدّلة وراثيًا ولم تستوردها لكن ماذا
عن بقية بلدان العالم، النامية خصوصًا أي التي لا حول لهم ولا قوّة،
ولا مختبرات سيطرة نوعية؟ فعمليًا كثير من العلماء لا يرون في مخاوف
أوربا أي مبرّر، إذ أصبحت هذه النباتات، في الولايات المتحدة مثلا،
أمرًا شائعًا، وهي لم تعد تثِر اهتمامهم من الناحية الأدبية. إلا أن ما
يقلق الأمريكيين هو إمكانية محاولة استنساخ بشر، وإنتاج الخلايا
الأساسية الجذعية، وهذا ما قد يؤدي إلى استيقاظ شياطين قديمة، كالرغبة
في تحسين النسل (التي سادت فكر النازيين في ألمانيا في ثلاثينيات القرن
العشرين). لكن بعض الأوربيين يقولون: لم تعاني الولايات المتحدة مثل
أوربا من مشاكل خطيرة مثل جنون البقر أو أنفلونزا الطيور، لذا جاء
موقفها من النباتات المعدلة وراثيًا متساهلا بينما موقفها من استنساخ
محتمل للبشر أخذ منحى آخر! ففي فرنسا مثلا، وتوخيا للحذر، أحيط كل
تلاعب وتجارب واختراع للنباتات المعدّلة وراثيًا، بالكتمان وبسريّة
كبيرة، مع ذلك لا يزال مناهضو تلك النباتات يطالبون منعها تمامًا خوفا
من انتشارها في البيئة، بشكل قد يجعل الأمور تفلت من يدنا. لكن ما
تطرحه هذه النباتات من مشاكل لا بيئية فقط وإنما اقتصادية وسياسية
أيضًا، فإحدى الأمور التي اكتشفت هي عدم إمكان حصر أو إيقاف هذه
النباتات، فقد تذهب أبعد بكثير مما يمكن تصوره، وهذا ما قاله بيير هنري
الباحث في متحف التاريخ الطبيعي في باريس مضيفًا أنّ حبوب اللقاح لا
تبقى محصورة في منطقة سقوطها قرب النبات الأم، وإنما لها القدرة على
الإنتقال آلاف الكيلومترات، لذا لا يمكن أن نسيطر عليها. رأي اللاهوت
توجه السؤال إلى الأب جاك أرنو الدومنيكي الفرنسي (وهو لاهوتي متخصص في
أخلاقيات العلوم)، ويعمل مع المركز القومي الفرنسي لأبحاث الفضاء فقال:
"إنّ مسألة التلاعب بالجينات ليست تقنية فقط، ولكنها فلسفية وأخلاقية
خصوصًا. إننا إذا ما أدخلنا "جينًا" ما في جسم لم يكن يمتلكه، هل يمكن
أن نضمن ما سيحدث؟ ألسنا بهذا نسير ضد الطبيعة؟ ومن يقول إننا لسنا
بذلك نعبر حدودها؟ فحتى زمن قريب جدًا - أي حتى عام 1980 - عندما كانوا
يجرون تجارب على النبات كانوا يفعلون ذلك بطرق "طبيعية"، أي يعالجونه
تِبعًا لطبيعته بالتلقيح والترقيد والتطعيم، كذلك كان الأمر مع
الحيوان، لم يتم تجاوز "المسار" الطبيعي في تكاثرها، أما اليوم فتبدو
الأمور تسير بشكل غير طبيعي، وبهذا تصبح المسألة تصرفًا نشازًا بحيث قد
يرجع ذلك علينا بكوارث خطيرة، لأننا قد عبرنا "حاجز الطبيعة"، بل لن
يعد هنالك من حواجز أصلا توقفنا بشكل أو بآخر". لكن، في الجهة المقابلة
من المحيط الأطلسي، هناك من لا يتفق أصلا مع تلك "الحدود": بول رابينو
Rabinow ، وهو أنثروبولوجي من جامعة بيركلي في سان فرانسيسكو
(كاليفورنيا)، يقول: "إنّ طرح السؤال سيء منذ البداية، فإذا ما قلنا:
هل يحق للإنسان أن يغيّر الطبيعة؟ أليس الجنس البشري اليوم ناتج عن
متغيّرات جرت على الطبيعة منذ عهد سحيق؟ أليس من الطبيعي والعادي أن
يغيّر الإنسان الطبيعة التي عاش فيها؟ فإذا ما طرحنا السؤال منطلقين من
أن الطبيعة مقدّسة، وغير قابلة للتغيير، سيصبح ذلك طرحًا دينيًا وليس
علميًا. ففي عصر التقدّم العلمي هذا، لا ينبغي أن نخاف، لكن أن نحكّّم
الفطنة والحذر في نتائج تلك التغييرات التي نحدثها. ومن جانب علم
التقنيات الجينية - برغم المخاوف وكل ما يقال - لعل هذا العِلم هو
الوحيد الذي لم يقتل أحدًا من الناس، كبقيّة العلوم الأخرى مثل
الكيمياء النوويّة أو الفيزياء. أما بالنسبة إلى التقنيات الجينية
فتبدو سليمة جدًا. مع ذلك، أكرر هذا لا يمنع أن نكون حذرين!".
في عام 1997 أعلن الدكتور يان ويلمن ولادة نعجة مستنسخة، للمرة الأولى،
ولدت إنطلاقا من رصيد جيني ذاتي، أي تكاثر من خليّة أخذت من ضرع نعجة
أخرى ولم تكن من التقاء بويضة وحيمن، وشرح العملية الفرنسي جان بول
رينار وهو مدير وحدة الأحياء والتكاثر في مركز I.N.R.A فقال: "إعتمد
الاستنساخ أخذ نواة خلية من جسم بالغ وتمّ إدخالها في بويضة رفعت
نواتها. وأثار نجاح التجربة ضجة دوليّة فاقت التصوّر. خافوا خصوصًا أن
يتمّ العبور من استنساخ الحيوان إلى استنساخ الإنسان، لأن المسافة
قريبة جدًا".
اختلطت
الأمور على الكثيرين. لذا كان لإعلان ولادة "دولي" في شباط 1997 نتائج
مأساوية وسارع رؤوساء الدول إلى القول إنّ استنساخ البشر شيء مرذول
ويجب منعه على صعيد الكرة الأرضية كلها، وخلال المؤتمر الذي عقدته
آنذاك الدول الثمانية الغنية جاء البيان الختامي يشير إلى كل من: حرب
البوسنة والهرسك، ومنع انتشار الأسلحة النووية والفقر في العالم
وخصوصًا إلى "منع استنساخ البشر". لكن ولادة النعجة "دولي" في الحقيقة،
لم يرفقها آنذاك أي معطيات علمية كافية. بل تبيّن لاحقًا أن ما خفي
كثير، فنعجة واحدة نجحت من بين مئات المحاولات والتجارب قبلها. لكن إذن
ما تبرير لكل تلك الضجة.
فإن كانت الأمور علميًا متذبذبة، لكن الأسئلة الفلسفية حقيقيّة،
فالمسألة ليست من جهة احتمال حدوث دمار شامل، بل هي مسألة ولادة طفل
مسكين، لا نعلم مصيره: هل سيكون لديه صعوبة في العيش والنموّ أكثر من
غيره؟ مثل ذلك الطفل لن يحدّد البشرية إلا من ناحية أخلاقية فقط. مع
ذلك، ينبغي الأخذ في الإعتبار حتى مثل هذا الخطر فهناك ممن يقول: إن
كانت مثل هذه التجارب غير مقبولة وغير شرعيّة فذلك لأنها تفتح الباب
على ممارسة سلطة على النسل، أي تشكل هيمنة على كائن آخر مختلف، وهو
"آخر" بشكل قطعي، وليس جزءًا من أصله، لأنه مختلف تماما عن أصله.
إنّ المشاكل التي طرحتها مسألة استنساخ البشر تعني كلّ العلوم الإنسانية
أيضًا، فلو سمح به أين ستكون علاقة الطفل مع جنسَي الوالدَين والأقارب،
وما مصير البنوّة؟ وهل للمستنسَخ حقوق وصفات بشرية مثلنا؟ أم هل سيكون
أقل منا؟
لذا
وقفت مجموعة كبيرة من العلماء في العالم ضد كل محاولة للاستنساخ البشري
ومنعت بشكل شامل في أغلب دول الأرض.
لكن بول
بيرك، وهو عالم أمريكي يسخر من كلّ تلك الضجة ويقول: "دعونا نتخيّل
لحظة أن هذا مسموح. وسآخذ مثالاً فأتخيّل أنني أريد استنساخ نفسي -
لأني أناني بشكل كبير - أريد إبنا يكون مثلي، على صورتي أنا. هكذا
سأتطوع لأدخل في مسار الاستنساخ، مع الحذر أنّ ذلك لن يشكل أي خطر!
ماذا سيحدث؟ لنتخيل أنّ هذا الطفل يولد في عام 2008. أما أنا فقد ولدت
في عام 1936 وتربيت في كنف أسرة وترعرعتُ في الحي الفلاني، وكنت محاطا
برفاقي من الأطفال، وذهبت في صبوّتي إلى المدرسة الثانوية الفلانية،
وتوالت حياتي حتى وصلت إلى اليوم.
أما ذلك الطفل "بول بيرك" الصغير، فسيكبر في محيط مختلف عني: تربيته،
أصدقاؤه، كل شيء سيختلف. الشيء الوحيد الذي سيكون مشتركًا بيني وبينه
هو الرصيد الجيني، أي سيكون شبيها بي، وله الإستعداد عينه لبعض
الأمراض. لكنه سيكون "شخصًا" مختلفا عنّي، أي فردًا آخر وحيدًا من
نوعه، كما ستختلف شخصيّته عن شخصيتي، وكذلك قيمه ونظرته إلى العالم.
ولو سألتم أي طبيب نفساني: "ما هي احتمالات جعل بول بيرك الصغير - الذي
ولد 70 عامًا بعدي - أن يكون مشابها للقديم؟ سيأتيكم الجواب: لا شيء،
صفر".
والحال ساد اعتقاد في الرأي العام أن الاستنساخ سيجعل المستنسَخ نسخة مشابهة
تماما لأصلها، فنشرت كتب وصدرت مؤلفات حول الموضوع، لكنّه حقًا موضوع
خطير، إذ لم يلاحظوا أنّ النسَخ - وإن تشابهت في بعض الأمور - لكنها
ستختلف في أمور عديدة. إذ ليس كل شيء نتيجة مخزون الجينات. وأحسن طريقة
نتعرف فيها الفرق بين النسخة والأصل، هي أن نراقب ما يحدث بين التوائم
المتماثلة. لدى التوائم الرصيد الجيني نفسه، مع ذلك، ليست متشابهة
كليًا، وإن كانت متشابهة من الناحية الفسيولوجية، ظاهريًا، لكن ليست
متماثلة نفسيًا كما يعتقد البعض. قد يكون لديها بيولوجيًا مثلاً النظام
العصبي عينه - لكنّ تطوّر الجهاز العصبي لا يتبع الجينات تمامًا - كما
أن ليس للتوائم المتماثلة جهاز المناعة نفسه، فتطوّره لا يتبع رصيد
الجينات فقط.
نلاحظ
إذن أنّ رغبة بعض الناس أنْ يستنسخوا أنفسهم، أو يكون لديهم نسخًا، هي
مجرّد تخيّلات خاطئة، يظنون أن كل شيء موجود في الحامض الأميني (DNA).
لكنّ الحقيقة مختلفة، إذ ليس للجينات قدرة كليّة، حتى إن ساعدت الجينات
على فهم أفضل للإنسان، لكن ليس في استطاعتها - بأي حال - أن تعرّف ما
هو الإنسان.
يقول هنري أبلام، وهو بيولوجي
وفيلسوف: "صحيح أن الجينات مهمّة وهي تحدّد ما نحن، وما يمكن أن نصير،
لكن للبيئة تأثيرًا في تكويننا وصياغتنا، فالبيئة هي التي تجعل كل منا
شخصا فريدًا".
لكن كيف نعرّف الإنسان؟ وما دور
الجينات لديه، وما دور البيئة؟ هل نستمر نبحث في الجينات عن مجاهل
طبيعة الإنسان ونهمل البيئة؟ هنا بيت القصيد!.
الجينات أم البيئة؟
في تسعينيات القرن الماضي أطلق بعض العلماء نظرية مفادها أننا إذا ما
توصلنا إلى فكّ برنامج خارطة الجينات البشرية سنكشف جوهر الإنسان, ولكن
في حزيران من عام 2000 أعلن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أنه
تمّ التوصل إلى: "تكميل برنامج فكك رموز خارطة الجينات البشرية، ولعلها
أعظم خارطة إستطاع الإنسان أن يرسمها". لقد كانوا ينتظرون من تلك
الخارطة الكشف عن كل ما في الإنسان. والسبب أن قبل ذلك التاريخ بعشرين
سنة كانت مجلات علمية شهيرة مثل ساينس (Science) ونيتشور (Nature) أي
ثمانينيات القرن الماضي قد أعلنت: "إذا ما استطعنا تفكيك الجينات
البشرية سنفهم طبيعة الإنسان تماما"، والحال عندما انتهوا من ذلك
البرنامج ماذا اكتشفوا؟
اكتشفوا أنّ هنالك 25 ألف جين في
البروتين، فنحن نشبه لبائن أخرى كالغنم والثور، ولكن هذا أقل ممّا في
نباتات كالأرز والزهور. فإذا ما كان الإعتقاد أن ذكاءنا وتطوّرنا
متعلقَين بعدد الجينات وكميتها فينا، فعند ذاك ستكون لدينا خيبة كبرى،
لم يكن هذا الاكتشاف إذن قد أعطى ما كنا نتوقعه، لكنّه مجرّد وسيلة
للدرس والبحث، وجاءت منه فائدة في تقصّي أمراض الجسم البشري. فقبل ذلك،
كانت معارفنا عن الأمراض تعوم في الفوضى. أما اليوم، بعد أن تمّ العمل
على الخارطة الجينية، يكفي أن نمسك بالجين المسؤول عن المرض الفلاني،
وحينئذ سندرك أن الجينات أقرب إلى كتيّب التعليمات الذي يرفق بالأجهزة
الإلكترونية. الجين ينقل المرض من الآباء إلى الأبناء والأحفاد. فهو
إذن مجرّد كتاب تعليمات للحياة، وسوف نحتاج إلى سنوات وعقود لنفكّ
رموزه ونتعلم استعماله.
يقول إيدي روبن Rubin مدير معهد الجينات في كاليفورنيا: "هكذا، وبفضل
بحوث الجينات، تسارعت خطى العلم. فبعد أن تمّّت كتابة الخارطة، وفككت،
رأينا أننا في البداية ولسنا نعرف سوى 2% منها! وصرنا نمشي من دهشة إلى
استغراب، فالمسألة أعقد بكثير مما كنا نتخيّل، بحيث - يمكنني التأكيد -
أنّ معرفتنا، في قراءة معاني خارطة الجينات، لفهم الوراثة، بقيت على
المستوى الذي كنا عليه في القرن 19، ولم نصل بعدُ إلى أي جواب. إذ لم
تكشف الجينات بعد إلا النزر اليسير من قوانين الحياة".
إلا أنّ
الخارطة الجينية، في تفكيكها، فتحت باب معرفة كل فرد على حقيقته. وفي
المستقبل القريب قد يمكن إعطاء علاجات للجينات من خلال علاج كلّ خلية
وقد يساعد ذلك على التغلب على أمراض كسرطان الدم أو شيخوخة الخلايا
المبكرة، أو نتمكن من وضع مخطط علاج ملائم لكل حالة. وأن يتم تقنيًا
ذلك إنطلاقا من الجنين.
وبما أن للخلايا الجذعية قدرة على
الإنقسام وإنتاج خلايا أخرى سنحتاج إليها لخلايا الدم أو الأعصاب أو
العضلات وغيرها. كما أن زرع الخلايا الجذعية سيساعد على التصدي لأمراض
غير قابلة للعلاج اليوم، وهذا يلوح في الأفق منذ الآن.
هندسة الجينات
الوراثية
تبدو الأمور مختلفة اليوم عما كانت عليه قبل 10 سنوات بفضل التقنيات
الحديثة. ففكوا، أول ما فكوا خلية حبّة الأرز، ودرسوا نظامها فرأوه
يتكون من 3 مليارات "حرف" مكتوبة بلغة لم تكن معروفة. أي أنّ تقنيات
الحي ما زالت في البداية. لكن تدخل علوم الحياة أجرى تطويرًا في عالم
النبات، فحدث تقدّم كبير نتج عنه إنقاذ مناطق واسعة من العالم من سوء
التغذية. فبدأوا بالقضاء على آفات زراعية كانت مستعصية. إنها ثورة
مكّنت العالم أن يتعامل مع ميكانيكيا الحياة العميقة، فدخل في الصغير
جدًا ودرس تركيبة الخلايا وكيميائها، وامتد ذلك ليتحقق، منذ سبعينيات
القرن الماضي، بصنع أجهزة تقطع وتضيف على الخلايا، وتلصقها ببعضها.
إنّه إنقلاب تقني متناه في الدقة يسمّى (nanotechnology)، غيّر الكثير
في مجالات الإستشفاء، فصار الدواء يرصد الخلايا مباشرة، وظهر أن
الوسائل القديمة لم تعد صالحًة. هكذا جاءت نهاية القرن العشرين بثورة
مزدوجة تقنيّة بيولوجية لتحسّن الصحة والغذاء بشكل يختلف عمًا كان عليه
في عصر المكائن والأسمدة والمبيدات التي، للأسف، دمّرت في 50 سنة، بشكل
لم يسبق له مثيل، فصارت أجراس الخطر تقرع لإنقاذ البيئة وصار لازمًا
إيجاد حل ما. تعدّدت الأسباب منذ ثلاثة عقود لظهور تقنيّات على
النباتات، فأسلوب "إستنساخها" جعل في الإمكان إنتاج نصف مليون زهرة
متشابهة تمامًا في حيّز صغير لا يتجاوز 200م2 وبلا تربة تقريبًا. إلى
جانب ذلك جرى إدخال تحسينات على نباتات منتجَة بتقنيات جعلتها تقاوم
عوامل البيئة والملوحة والفطريات والبكتريا وحتى نقص الماء، هذا إلى
جانب إعطائها ثمارًا ومنتوجًا أوفر، ممّا جعل دولا مثل السعودية والهند
لا تكتفي فقط بل تصدّر الفائض عن حاجتها.
إستطاع العلم، بفضل الجينات، في 70 % من بلدان العالم أن يجعل البعوضة لا
تنقل الملاريا. بل هناك أمل أنها تنقل لقاحه بقرصتها (أي لم نعد في
حاجة إلى مبيدات). فتقنيات علم الحياة وضعتنا أمام إمكانات علاج ودواء
من خلال مناهج لانتقاء الخلايا بجعل الأجسام المجهرية تتكيف مع
المضادّات الحيوية، بل تصنع أنزيمات تضعف من تأثير الخلايا المرضية، أو
يقاوم بعضها بعضًا، إذ يبدو أنّ 3000 مرض مرتبط بالجينات، ومنها خفيف
ومعروف ومنها ثقيل ومجهول، لكنّ ذلك ممكن بالخارطة الجينية. فالتشوّهات
الخلقية مثلا، مسؤولة عنها الجينات وهي خلف 30% من وفيات الأطفال في
السنة الأولى من حياتهم، حتى في الدول التي نسبة وفيات الأطفال فيها
قليلة. كما يعتقد أننا في عام 2020 سيكون ممكنا السيطرة على السرطان
وتسوّس الأسنان. ويحلم بعضهم بأن تقنيات عام 2020 ستخفف من تأثير العنف
والعدوانية والعصبية لدى بعض الناس. بل في منتصف هذا القرن، أي في حدود
عام 2050 سيمكن التدخل الجراحي ونقل أجزاء من الدماغ للحدّ من مرض
الكآبة الذي بات يسمّى مرض العصر وهو يصيب في الدول المتقدمة حوالي ثلث
السكان.
هكذا يضع المستقبل أمام الإنسان
إمكانات عديدة قد تكون قادرة في إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية
وثقافية، ولكن هل ستستيقظ تناقضات أخرى لم تكن في الحسبان؟
ماذا عن
إطالة مدى الحياة، وماذا إذا سيطر بعضهم على الإنتاج وحسّن واحتكر
التجارب على النبات والحيوان؟ وماذا عن الأخلاق؟ هل ستحترم الحياة، أم
سنعود إلى زمن العبودية من جديد؟
كيف نستعد لهذا المستقبل؟
في بعض الأماكن سيكون تشنّج ورفض قاطع لكل هذه المسيرة، لكن بعد فترة
معينة من التفكير، ستظهر قوانين جديدة تمنع الاختبار المنفلت على
الأحياء، وخصوصًا على الإنسان. هل يمكن أن نتصور تجارب بشكل آخر
تحدّدها أحزاب بيئة ورأي عام ناضج؟ في كثير من البلدان سيكون البحث
مرتبطا بالتمويل الذي تقرّره الدول والمؤسسات المسألة ستكون في
إقناعها!
مازلنا
اليوم نتردّد ونتلعثم في ما يخص هذا المستقبل، ناهيك عمّا سيحمله إلينا
السفر إلى الكواكب والغياب الطويل عن الأرض وظروف الحياة تحت البحار
بوسائط ستحوّر حياة الناس وتجعل التقنيّة الزراعية ترافق هذا النوع من
البشر في جينات محوّرة ومتغيّرة.
مع ذلك،
إننا في بداية هذا القرن الحادي والعشرين مازلنا نحلم أن يخرج الإنسان
من مشاكل بسيطة كالعنف والحرب والعدوانية والتبعثر هيمنة الجماعة...
كيف السبيل إلى إقناعه أن يدخل في مغامرة التقنية والعلم والبحث عن
حلول لمشاكلنا؟
هناك من يشعر بالخوف أمام كل هذا،
ويصيبه الهلع من المستقبل فيلجأ إلى الماضي، لكن السؤال هل اللجوء إلى
الماضي ممكن؟ وهؤلاء الذين يقولون إن آباءنا كانوا أفضل منا هل هم على
حق؟ أليس الجميع يقول إن الخالق الذي أعطانا العقل هو الذي طلب وقال:
"أنموا وأكثروا وأخضعوا الأرض" (تكوين1)، فإن كان العلم قد نجح في
استعمال العقل، إلا أنّه لم يتوفق في جزء آخر يعاني وهو القلب، وما
مشاكل الأخلاق سوى ناتج عن هذا الفشل، أي التوفيق بين العقل والقلب.
وهذا ما يجعل العلماء اليوم يرغبون بكل قواهم أن يدخل الفلاسفة
والمفكرون الإنسانيون في هذا المسار، إذ لديهم ما يقولونه، فيعطوا
للبحث العلمي مصداقيّة ضرورية.
لقد انتهت الأزمنة الأسطورية القديمة
وبدأ من اليوم زمن الطبيعة الأم، التي سلمت مفاتيح العمل فيها، فليتصرف
الإنسان بشكل يجعله يكتشف مجاهل لم تخطر على ذهن أجداده بمسؤولية مثل
مسؤوليتهم في زمانهم تجاههم وتجاه أنفسنا ومعاصرينا وأولادنا وأحفادنا.
ماذا يخبئ لنا المستقبل؟ أترك السؤال لمن يقرأني وسيحيى السنين الآتية
وهو سيرى بنفسه. |