عناقيد الكرمة - الجزء الاول

الخوراسقف بيوس قاشا

 

   قال الرب يسوع:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فَمَن يثبت فيّ وثبتُ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً" (يو 5:15)، والعنقود رمز العطاء والبذل والإخلاص. فالكرمة تتحمّل برد الشتاء وعواصفه من أجل عنقود مليء بخمر الحياة، وهذا ما جعل ربنا يسوع أن يشبّه حياته بالكرمة ... إنه الكرمة الحقيقية التي تعطي الحياة للإنسان، وفي هذه الطريق تكون المسيرة. ولكي تكون المسيرة أصيلة، يجب أن تكون ثابتة في المسيح، ولكي نحيا إيماننا في هذه الظروف القاسية يجب أن تكون حياتنا عناقيد أصحّاء في كرمة الرب، كما يجب أن تقرأها بكل تمعّن وإدراك، فالإيمان المسيحي رسالة وحياة، وثمار الحياة عناقيد كثيرة، عليكَ وعليّ أن نجمعها في سلّة واحدة ... وهاهي ذي سلّة العناقيد الأولى.


 1) الوداعة ... ليست السذاجة أو البساطة التي تراها عبر وجوه البعض من البشر، وفي حالات فرح أو حزن، إنما الوداعة هي الهدوء البريء الذي يرسم ملامح وجه الإنسان، وهذه الوداعة تعني التفاؤل. تفاؤل عبر الوجوه النيّرة والتي ترسم مسار النور عبر عطاء الحياة، فتكون صفتها الحلم والتواضع وليس المسكنة واللامبالاة، فيدافع عن الحق والمحبة ضد الظلم والحقد والكراهية، ويجابه الذين يلطمون الخد الأيمن بسؤال كما واجه الرب يسوع الحارس الذي لطمه قائلاً:"إنْ كنتُ أسأتُ في الكلام فقل لي أين الإساءة، وإنْ كنتُ أحسنتُ فلماذا تضربني؟" (يو 23:18). وأمام هذا السؤال وضع  الحارس حدّاً لغضبه. بمعنى آخر إن الوداعة رسالة من أجل إبطال الحقد والعنف والكراهية، فإلى متى يستمر العمل بـ "القسوة بالقسوة والضرب بالضرب والعنف بالعنف". ومار بولس يقول في المسيح:"إنه قضى على العداوة في ذاته" (أفسس 16:2).


  وأختم كلمتي هذه عن الوداعة بهذه القصة: كان أحد المزارعين يرى دجاجات جاره تتسرب إلى حديقته من خلال فتحة في السياج فتأتي وتخرّب ما زُرِع. فطلب من جاره مراراً وبكل هدوء أن يسدّ هذه الفتحة السياجية، فلم يفعل. فاشترى ثلاث بيضات طازجة، وذهب بها إلى جاره قائلاً:"وجدتُها في حديقتي. أكيداً هي من دجاجاتكَ، فأرجو أن تأخذها"، وأعاد هذه الفكرة ثلاثة أيام. وفي آخر المطاف كان الجار قد سدّ الفتحة ... إنها الوداعة وليس العنف، فتأخذ طوبى الرب يسوع محلّها عبر مسيرة حياتنا.


  2) التواضع ... هو أن يعرف الإنسان ضعفاته وسقطاته وخطاياه، وأن يعامل نفسه على هذا الأساس. ليس التوضاع أن تشعر بأنكَ كبير وعظيم، فشعورٌ كهذا هو الكبرياء بعينه. إن التواضع الحقيقي هو تواضع النفس أولاً، وشعورٌ حقيقي غير زائف بالضعف.ما تستحق، أما غير المتواضع فيكون دائماً متذمّراً ومتضجّراً، شاعراً إنه لم ينل بعدُ ما يستحقه، وإنه مظلوم من الله ومن الناس.

  التواضع هو معرفة الذات، وهذه المعرفة هي التي تقودكَ إلى التواضع الحقيقي. إن المتواضع الوحيد هو الله، لأنه هو الكبير الذي يتنازل ويكلّمنا نحن الصغار. أما نحن، فالتواضع بالنسبة إلينا ليس تنازلاً بقدر ما هو مجرد معرفة الذات، فإذا عرفتَ هذا فعامل نفسك إذن بما تستوجبه هذه المعرفة، ولا تطلب من الناس كرامةً ولا مجداً، وإحذر من نسيان خطاياك لئلا تنتفخ، وتذكّر قول ذلك القديس الذي قال:"إنْ نسينا خطايانا يذكرها الله لنا، وإنْ ذكرنا خطايانا ينساها الله لنا". اعترف بخطاياك أمام نفسك وأمام الله، وإنْ استطعتَ فأمام الناس أيضاً، وإنْ لم تستطع فعلى الأقلّ لا تمدح ذاتكَ أمامهم، ولا تقبل مديحهم لك، وإنْ سَمِعَتْه أُذناك فليرفضه قلبك وعقلك. إن التواضع ليس باللسان فقط، إنما ليكن تواضعنا حقيقاً من عمق القلب، وحياة التواضع هي حياة شكر لله على عطاياه، شاعراً أن الله يعطيك دائماً فوق ما تستحق، أما غير المتواضع فيكون دائماً متذمّراً ومتضجّراً، شاعراً إنه لم ينل بعدُ ما يستحقه، وإنه مظلوم من الله ومن الناس.

  وأختم كلمتي هذه عن التواضع بما يأتي: كان واعظان يذهبان كل أحد إلى إحدى القرى المسيحية، وكان أحدهما مشهوراً في إلقاء العِظة والآخر لا يعرف من علم الخطابة شيئاً، ولكن صلاته وتواضعه كانا العلم الوحيد له. ففـي أحـد الأيام، وعندما انتهى الواعـظ من إلقـاء عِظَتـه، صفّق له الشعب كثيراً، وهنّأوه على الأفكار الجميلة التي سُرِدَت أمام الأذن السامعة، وفي هذا دخل الكبرياء إلى قلب الواعظ وأخذ يفتخر أمام صاحبه بما صنع، وفي الحال جاءه صوت من السماء يقول له:"لا تفتخر، بل كن متواضعاً. فإنّ ما أُعطيت من موهبة الإلقاء والوعظ هي نعمة مني، إذ سمعتُ نداء صديقكَ الذي كان يصلّي إليكَ أثناء عِظَتكَ لكي أساعدك وأُرسل لك أنوار الروح القدس. فهذا النجاح هو نتيجة صلاة صديقك الراهب".


  3) الضمير ... يقول لنا بولس الرسول (رو 15:2):"إن إرادة الله مكتوبة في القلب"، و"في القلي يضيء نور الحقيقة الإلهية" (2كو 6:4)، وربما "يكون قلبنا من حجر" (مز 19:11)، أو "منقسم على ذاته" (8:1)، ولكن علينا أن نعمل بقلب نقي وسيرى الله أعمالنا (متى 8:5-28 و 34:12). فمفهوم الضمير حكمٌ داخليّ أدبيّ، وبولس الرسول جعله تعبيراً مسيحياً قريباً من مفهوم القلب "كل ما لا نعمله عن يقين فهو خطيئة" (رو 23:14)، ومعنى هذا إن اليقين ينبع من مسؤولية الشخص، والمسؤولية نحو الحقيقة، وما علينا إلاّ أن نربّي الضمير، أي بإمكانه أن يتعمّق وأن يصبح أكثر دقة.
ولكن هناك الضمير الشاكّ، ويعني غياب يقين حكم الضمير الأخلاقي الذي بدونه يتوجب على الإنسان أن لا يأتي بعملٍ ما، فهذا الضمير الشاكّ يقود إلى الخطيئة (رو 23:14). ففهي هذه الحالة على الإنسان أن يفكّر مليّاً ويستشير ليصل إلى الطريق نحو يقين حكم الضمير، وفي هذا كله أجد في الضمير صوت الله الداخلي، ربما أقولها، الوحي الإلهي لذات الإنسان للتعبير عن حقيقة الإيمان واليقين ليضيء نور هذه الحقيقة في القلوب الحيّة.
فلنعمل جميعاً على تربية هذا الضمير على ضوء النور الإلهي، ولا نبيع ضمائرنا بقليل من النحاس من أجل غايات بشرية زائلة أو مكسب دنيوي لا طائل منه، أو بشراء وتبديل ضمائر بريئة بأخرى فاسدة، فنجعل من الضمائر الفاسدة بريئة ومن البريئة فاسدة. ولكن علينا أن ننشئ في دواخلنا وفي قلوبنا القيمة الحقيقية لقبول نور الحقيقة الإلهية.

 

لقراءة الجزء الثاني من المقال والمنشور في العدد السادس من المجلة