أوقفوا الهجـــرة

الراهب اشور ياقو البازي

   سأحزم أمتعتي وأرحل إلى عالم مجهول كثيراً ما نسمع عنه أنه لا ينسجم مع طباعنا وتقاليدنا وغيرها الكثير.. أعرف جيداً بأنني أملكُ داراً من الحجر الاشوري العراقي الأصيل الذي لا يهزّه زلزال، وهناك لا أقوى على امتلاك ربعهِ من الخشب وبالرغم من ذلك سأرحل. أعرف بأن لي هنا كل وسائل الراحة والأجهزة الحديثة أقوى على شرائها، وهناك لا أظن انني استطيع اللحاق بالركب. أعرف بأن لي جيراناً وأصدقاء لا يقّيمون بالذهب، وهناك سوف لا يسأل عني أخ، وبالرغم من ذلك سأرحل.. أعرف بأن لي هنا تاريخ وحضارة عريقة، وذكريات لا تنسى، وماضٍ لا ولن يساويه مستقبل ومع ذلك سأرحل.. أعرف بأن لي أولاداً في قمة الخلق والادب، وهناك سأفقدهم ومع ذلك سأرحل.. أعرف بأن لي هنا مكانة محترمة وأسمي معروف، وهناك سأكون في الضواحي والحواشي ونكرة وسأرحل.. أعرف بأن لي هنا خادمات يخدمنني، وهناك أنا التي ستخدم وبالرغم من ذلك سأرحل.. وهناك مقارنات كثيرة.. كثيرة والنتائج سلبية. أليس ذلك غريباً؟ أهو مشروع مخطط له؟ نتصرف ضد ارادتنا، نفعل ما نكره، نمضي إلى الظلام بمحض ارادتنا. نفقد كلّ شيء تدريجياً ونسكت، أو نمضي ونحن صامتين.. ننتزع جذورنا العميقة من باطن هذه الأرض التي إرتوت بدماء الأجداد، نولي ظهورنا إلى ما زرعه القدماء من أحبتنا ونتركه للآخرين، ونمضي إلى لا شيء، إلى السراب إلى الوهم إلى المعاناة من صراع داخلي بين الواقع الذي سنعيشه وبين ما ترسبَّ عبر السنين في نفوسنا من خير وأمل وأخلاق، سنعيش حياة تناقض، أليس معنى ذلك اننا سنفقد كياننا ؟ يقال ان الآباء يضحّون من أجل الأبناء. أسالكم ما رأيكم بأنني سأنتزع إبني الوحيد من المكان الذي أحبه، وبين أصدقائه الذين يحترمونه وكنيسته المفضلة ومن مستقبله النهائي حيث انه على أبواب الجامعة، سأحرمه من حياة الجامعة، أي بالاحرى سأحرمه من الحياة عينها، كلُّ ذلك من أجل ماذا ؟

   هم رحلوا .. إذن يجب أن نرحل نحن أيضاً.
 

  كل فردٍ وكل جماعة رحلت قبلنا تألمتُ وعانيتُ كثيراً من أجلهم كنتُ رافضة للفكرة دائماً، كأنَ ألم الفراق يرافقني في كل مرة وأحياناً يترك فيَّ أثراً واضحاً، فكيف لو غادرت أنا؟ كيف أغادر موطن أجدادي أرض بابل واشور ونينوى، الأرض الحنون التي أحتضنتني دائماً وأعطتني الكثير من خيراتها، كيف أترك نهري دجلة والفرات الذي شربت من مائهما، ذكرياتي كيف أنسى ماضيَّ وأبدأ من جديد وهل من السهل على البشر أن ينسى نفسه؟ انني أحب وبكل جوارحي كل حجرٍ في تلك القرية الصغيرة التي أنتمي إليها، ولا أقوى على التأخر عن زيارتها.. وفيها قبرُ؟ ماذا أقول حين أودع أناساً عشتُ معهم سنين طويلة، أحبوني وأحببتهم بتجرد كيف لي أن أفقد الأمل في لقاء صديقٍ قديم إشتقت إليه يفهمني وأفهمه. ان الحزن يحزُّ في قلبي كلما نظرت إلى ولدي وقد نسي الابتسامة ومرح الشباب حيث السفر شلَ تفكيره، وهكذا ابنتي الصغيرة التي تأمل ان تعود إلى بيتها هنا الذي طالما أحبتهُ وتتألم عندما تسمع بأنه سيصبحُ للغير بل إنها ترفض فقط التفكير بذلك. وبالرغم من كل ذلك سأرحل. اذن هل من تفسير لذلك، شعبٌ كُتب عليه الهجرة على طول الزمن، ولكل زمنٍ اسلوبه في ذلك.. شعبٌ منذ سقوط أربابه لم يرتح يوماً. اذن هل هي نقمة الرب عليه؟ ام ماذا؟ لماذا أترك أهلي وكل شيء أحببته وأرحل إلى السراب؟ وأعيش بقية عمري في يأس وحزن وشوق قاتل؟ أهي ضريبة زمنية على شعبٍ كُتب عليه الدمار والتشرد؟ مسكينةٌ هي هذه الأمة التي عاشت مشتّتة أجيالاً وأجيالاً كثيرة، والهجرة ملازمة لها. والفناء لاحق بها نتيجةً لذلك ولأحقاد الحاقدين، هجرتنا هي امتداد لهجرة الاجداد عبر التاريخ، وهذا التشرد هو امتداد لما شهده الاقدمون من معاناة وتشرد وألم. لماذا يحدث هذا لنا؟ ألا يكفينا ما عانينا من ظلم وتشتت؟ لماذا بالذات هؤلاء يحكم عليهم بالاعدام بين الحين والاخر. صمت ابني الشاب وانا اقرأ في نظرته عتابـاً، لماذا تضيّعــون مستقبلي، وهو رافض للفكـرة ويعرف ان رفضه لا جدوى منه، فهو اذن مستسلم للضياع لا حول له ولا قوة.


  لماذا كل ذلك؟ لماذا كُتبت المشقة علينا؟ شابنا بالرغم من شبابه يرفض حضارتهم ويريد تقاليدنا، انه يرفض تلك الحياة مقدماً، انه دائم الخلوة إلى نفسه رافضاً لهذا الواقع المر، وأنا الأم التي تأمل اسعاد أبنائها، ماذا عسانا أن نفعل فيما كُتب علينا. هل كُتب علينا أم نحن ساعدنا في كتابته؟
أعرف كل ذلك وقد حزمتُ أمتعتي وسأرحل... مساكين أحفاد اشور وسنحاريب واسرحدون وحمورابي ونبوخذنصر...


  إلى متى سيبقون يعانون ويعانون من زوابع الزمان وغدر الأيام.. أهو انتقام الدنيا أم هو شيٌ آخر، وحتى لو كان كذلك إلى متى سيتسمر؟ جيلٌ بعد جيل ودهر بعد دهر والمعاناة لم تنتهِ، في كل حقبة من الزمن يثور بركان يكتسح هؤلاء المساكين الأبرياء، ويترك القسم الأصغر منهم ليكملوا معاناة أجدادهم بطريقة جديدة تناسب العصر وتطوراته، المشكلة والألم يتطوران ويكبران معهم مع تقدم العالم والعقل البشري. أعجب لكونهم لا يابهون للمشاعر البشرية للشعوب وبالأخص شعبي، يظهر أنه قد حُكم عليهم بعدم الاستقرار. بالأمس كنّا في بلد غير بلدنا مهاجرين مذلولين واليوم نحن في قرية صغيرة اعتبرناها وطننا الجديد، واقتنعنا أو أقنعنا أنفسنا بذلك وأحببناها وتعلقنا بها، وان صادف وحاول أحدهم الاعتداء عليها هبَّ الجميع للدفاع عنها، وانتقلنا وباستمرار من مكانٍ إلى آخر ضمن وطننا الأصلي والذي باتت آثار جدي وجدتي شاخصة شامخة بعظمتها تتحدى كل محتل وغازٍ وتحتقره وتنبذه، لكن وأيُّ غازٍ هذا! ماذا حلَّ بابناء هذا الشعب المسكين، أمضوا حياتهم بالتنقل من مكان إلى آخر ضمن موطنهم الأصلي، والآن يتنقلون من بلدٍ إلى آخر خارج بلدهم، هل هو البحث عن الأفضل والأحسن؟ ضاقت بهم الدنيا، هذه الدنيا الواسعة، أولئك الذين كانت الدنيا لأجدادهم، هنا يعانون وهناك يعانون. الأب الشيخ الذي طالما حلم بابنه رجلاً يحمل عنه عبء الحياة، ويوم الشدّة يصارع الشدائد مستنداً على من قضى عمره كلهِ بالتضحية والعطاء من أجل أن يأتي ذلك اليوم، وكان يحلم بفرحته، لكن حَكم الزمن على الأثنين بالفراق شاءا أم أبيا. دائماً عرفت الأم بشفافية مشاعرها وفيض عواطفها اتجاه أولادها فكيف هي الآن إذن وهي بعيدة كل البعد عن أعز أعزائها. تلك الأم التي فارقت ابنتها الحبيبة لان الذي سلط هذا التيار على هذا الشعب سلطه على الجميع، فتضعف مقاومته مهما طالت. اذن وبدون ارادة الكل ينجرف مع التيار الذي لا حول لنا ولا قوة لايقافه. الأم تعيش اياماً عصيبة، وتصارع فعلتها هذه، تقارع قرارها بابعاد ابنتها عنها، والأبنة تبقى وإلى النهاية تتساءل لماذا كل هذا؟ لماذا هي يعيدة عن أصلها، امها التي تبقى دائماً بحاجة إلى عَونها وحنانها ومشورتها، أبيها الذي هو الجبل الذي يحميها، وأخيها الذي هو سندها وقوتها، واختها، والأخت عزيزة لا تعوض، قلبها واسع سعة البحر لكل ما يبدر من اختها. من أجل ماذا كل هذا ؟ انه عالم معاناة، ويا خوفي على أحفادنا وأحفادهم ماذا سيحل بهم وماذا يخبيء الزمان لهم؟

  أعرف كل ذلك.. وقد حزمتُ أمتعتي وسأرحل ...