ديوان أوقاف المسيحيين والديانات الاخرى

مجـلة صـدى النهريــن - العدد الحادي عشر / حزيران 2010

                                                                                                                                     

اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسية

 

 

مبادلة... قلــب بـ قلــب

المهندسة آن سامي مطلوب 


 

    لغة القلب التي يكلمنا عنها يسوع هي لغة الحب. نعم، لغة الحب، ويا لها من لغة عجيبة سماوية!. فالمذود والناصرة والجلجلة والمذبح كلها كتب بليغة وضعها يسوع بنفسه وسطّرها بعرق جبينه لا بل بدمه، وفيها نقرأ لغة الحب، ولكن الكتاب الأكبر والمعجم الأوسع الذي جمع فيه كل مفردات اللغة السماوية هو القلب الأقدس.

 

    نعم، قلب يسوع هو الكتاب الكبير الذي قرأ فيه القديسون فتعلّموا منه ما تعلّموا من آيات الحب ... فلنطالع معاً بلذّة وشوق هذا الكتاب الإلهي العجيب، ولنقلّب صفحاته البديعة بإنشغاف، علّنا نتعلّم نحن أيضاً شيئاً من تلك اللغة السماوية، لغة القلب، لغة الحب.

    ففي الصفحة الأولى نرى الحب متجسماً في شخص طفلٍ صغيرٍ لطيف في بيت لحم. هاهو يمدّ إلينا يده ليعانقنا وكأني به ينادينا بصوته العذب الرقيق:"دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم".

    وهناك صفحة أخرى من الحب نراه فيها أجيراً يشتغل في دكّان الناصرة والعرق يكلّل وجهه الوضّاح، وبيديه اللطيفتين يزاول مهنة النجارة الشاقة، ثم يعود مساءً إلى الدار ليساعد والدته في أشغالها البيتية بخضوعٍ وحبٍّ بنوي.
وهناك صفحة أخرى تدلّ على ما لهـذا القلب من الحنوّ والشفقة، فنتأمّله في وسط جمهورٍ غفير، يحاط به المصابون بأمراضٍ مختلفة من عرجٍ وعميانٍ وبرصٍ ومقعدين، فيقول لهذا أَبصِر فيبصر، ولذاك أطهر فيطهر، ولآخر إحمل سريركَ وامشِ فيمشي ... لا بل تصل به الرأفة إلى حدّ البكاء فتدمع عيناه عند قبر لعازر حتى صرخ جميع الحاضرين:"أنظروا كم كان يحبّه". وفي ذلك الكتاب العجيب صفحة أخرى هي صفحة الرحمة والغفران، حيث نرى يسوع محاطاً من الزواني والخطأة والعشّارين يستقون من قلبه الطاهر ماء الحياة، وكأنّي به ينادي الجميع:"تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" ... وحسبنا دليلاً على حنوّ هذا القلب الأقدس أن يرجع كل منا إلى نفسه، ويتأمل قليلاً في خطاياه. كم من مرة أَحزَنّا هذا القلب الحبيب! ومع ذلك فكلما عدنا إليه وجدنا الرحمة والغفران ... فيا ما أكرم هذا القلب! ما أحنّه وما أرأفه بنا!.

    ولكن مهلاً، فهناك صفحة أخرى هي آيةٌ في الحب، وسحرٌ للعقول، وشغفٌ للألباب، ألا وهي صفحة القلب الإلهي في عليّة صهيون، حيث يوحنا الحبيب مستنِدٌ على ذاك الصدر الرحب الطاهر، يسمع خفقان حبّ لا يضاهيه حبّ أحنّ الأمهات نحو أولادهنّ. إسمعوه يودّع رسله الوداع الأخير وبكلامٍ يتدفق حبّاً وهياماً، فيقول:"لستُ أدعكم يتامى"، ثم يكشف لهم أسرار قلبه فيقول:"لستُ أسمّيكم بعد عبيداً، لكني سمّيتكم أحبائي". وفي نشوة ذاك الحب وذاك الغرام الإلهي، لم يتمالك أن صرخ:"خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذو اشربوا هذا هو دمي" ... ما أسخاكَ يا يسوع! ما أكرم قلبكَ! ما أعذب حبّكَ! حقاً إنه لحبّ عظيم ليس بعده حب.

    ولكن يا الله، ما هذه الصفحة الجديدة المُكرِبة التي تتراءى لنا في بستان الزيتون، يسوع منطَرِحٌ على الأرض بحزن، يعرق حتى الدم، ويصرخ بصوت تقطّعه الحسرات:"نفسي حزينة حتى الموت". أوّاه! ما الذي ألَمَّ بكَ أيها القلب الأقدس؟ ما هذا الحزن الشديد؟ ... هذا هو جزاء حبكَ للبشر ... هذه هي كأس المرارة التي مزجها لكَ الإنسان الناكر الجميل الذي أحببتَه كل هذا الحب ... لنقلب هذه الصفحة الأليمة، إنها تمزّق الفؤاد.
ولكن، أوّاه يا ربي! ما هذه الصفحة الثانية؟ إنها حمراء مصبوغة بالدم. ألعلّها صفحة الجلجلة، صفحة الذبيحة؟. هلمّوا تأمّلوا يسوع القدوس معلَّقاً على خشبة العار، ينازع على الصليب بين لصَّين كأحد الأَثَمَة المجرمين. جسمه مثخنٌ بالجراح، رأسه مكلَّلٌ بالأشواك، يداه ورجلاه مثقوبتان بالمسامير، جنبه مطعونٌ بالحربة ... هوذا قتيل الحبّ! تأمّلوه مادّاً ذراعيه يودّ معانقة أحبّائه ليودّعهم الوداع الأخير. إسمعوه ينادي:"أنا عطشان! عطشان إلى حبّكَ أيها الإنسان، عطشانٌ إلى قلبكَ، إلى نفسكَ"، ولكن، أليس مِن مستجيب؟ أليس مَن يسقيه؟.

    ماذا تقولون أحبتي في هذا الكتاب العجيب، في لغة الحب هذه، لغة قلب يسوع؟... ماذا يستحق مثل هذا الحبّ غير الحبّ؟ بماذا يُقابَل الحبّ إلاّ بالحبّ؟ فإن كان قلب يسوع كلّه حبّ، فهيّا بنا إذن إلى الحبّ، إلى السخاء ... هذا جُلَّ ما يطلبه منا قلب يسوع: مبادلة قلب بقلب وحبّ بحبّ. يسوع يطلب منا أفعالاً لا أقوالاً. يطلب منا قلباً سخياً بإرادة ثابتة وعزم مكين. وبإختصار، يطلب القلب كله، لأنه لا يحب القلب المنقسم المتجزئ.

 

    وهكذا يا إخوتي الأحباء، لنعرف أن نجاوب على محبة هذا القلب الأقدس بمحبة أخرى سخية، كريمة، نظيرها. وهذه المحبة الصادقة لا نقتبسها إلا من سرّ القربان الأقدس، ولا نحصل عليها إلا بالتردّد إلى مائدة الرب، لكي لا يوجّه إلينا القلب الأقدس ذاك التشكّي المُرّ الأليم الذي سمعته الطوباوية مرغريتا الأكوك إذ قال لها يوماً:"هوذا القلب الذي أحبّ البشر كل هذا الحب، ومع ذلك لم يجد منهم سوى البرودة والفتور، وذلك خاصة من قلوب خصَّصت ذاتها لي".


 

الذهاب الى اعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة