كانت الليتورجيا تقيم "صوماً كبيراً في يوم الكفارة". وكان
الصوم شرطاً للإنتماء إلى شعب الله "فكلُّ إنسان لا
يُذلِّل نفسه في هذا اليوم عينه يُفصل من شعبه" (لاويين
23/29). كانت أيضاً أصوام جماعية أخرى في الذكرى السنوية
للنكبات الوطنية. فضلاً عن ذلك، كان اليهود الأتقياء
يصومون بدافع من تقواهم الخاصّة، إذ كانت حنّة النبية
مثلاً "لا تفارق الهيكل مُتعبِّدة بالصوم والصلاة ليل
نهار..." (لوقا 2/37).
مثل تلاميذ يوحنا المعمدان والفريسيين "وكان تلاميذ يوحنا
والفريسيون صائمين، فأتاه بعض الناس وقالوا له: لماذا يصوم
تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين، وتلاميذك لا يصومون؟"
(مرقس 2/18).
وبعض الشعب اليهودي كان يصوم يومين في الأسبوع كما ذكر لوقا
الإنجيلي في مَثَل الفريسي والعشار "إني أصوم مرتين في
الأسبوع، وأودّي عشر كلّ ما أقتني" (لو18/12).
الجديد في عهد يسوع المسيح إنَّهم كانوا يحاولون بذلك إتمام
عنصر البر كما حَدَّدته الشريعة والأنبياء، على يسوع، وإن
لم يفرض على تلاميذه شيئاً من هذا النوع من البرّ، فهذا لا
يعني أنَّه يزدريه، أو أنَّه يريد أن يلغيه، بل أنَّه أتى
ليُكمِّله، من أجل ذلك فإنَّه يمنع الإعلان عنه، ويدعو إلى
تجاوزه في بعض النقاط "لا تظنّوا أني جئت لأبطل الشريعة أو
الأنبياء: ما جئت لأبطل بل لأكمّل" (متى 5/17)... "فإني
أقول لكم: إن لم يزد بركم على برِّ الكتبة والفريسيين لن
تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 5/20)... "إيّاكم أن تعملوا
برَّكم بمرأى من الناس لكي ينظروا إليكم فلا يكون لكم أجر
عند أبيكم الذي في السماوات" (متى 6/1).
ويلحّ يسوع أكثر ما يلح على التجرُّد من حبِّ المال "فقال يسوع
للشاب الغني: إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع أموالك
وأعطها للفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال وأتبعني"
(متى 19/21). وعلى ممارسة العفة الاختيارية "فهناك خصيان
ولدوا من بطون أمّهاتهم على هذه الحال، وهناك خصيان خصاهم
الناس، وهناك خصيان خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السموات. فمن
أستطاع أن يفهم فليفهم" (متى 19/12). ولا سيما في إنكار
الذات لحمل الصليب "ومَن لم يحمله صليبه ويتبعني فليس
أهلاً لي، مَن حفظ حياته يفقدها وفقد حياته في سبيلي
يحفظها" (متى 10/38-39).
* أخطار الصوم
إلاّ أنَّ ممارسة الصوم في الواقع لا تخلو من بعض الأخطار، كخطر
التمسُّك بالشكليات التي سبق ونادى بها الأنبياء:
عاموس:"لقد أبغضت أعيادكم ونبذتها ولم تطب لي احتفالاتكم"
(عاموس5/21). إرميا:"قال لي الربُّ: لا تصلِّ من أجل هذا
الشعب للخير، إذا صاموا فلا أسمع صراخهم، وإذا أصعدوا
محرقة وتقدمة فلا أرضى عنهم، بل أفنيهم بالسيف والجوع
والطاعون" (إرميا 14/12-13).
والخطر الثاني هو أن يكون الصوم مقروناً بحبِّ القريب وأن
يَتضمَّن سعياً وراء البرّ الحقيقي كما قال أشعيا:"إنَّهم
يلتمسونني يوماً فيوم، ويرومون معرفة طرقي كأنَّهم أمّة
تعمل البرّ ولا تهمل حقّ إلهها. يسألوني أحكام البر
ويرومون التقرُّب إلى الله، ما بالنا صمنا وأنت لم ترَ،
وعذبنا أنفسنا وأنت لم تعلم؟ في يوم صومكم تجدون مرامكم
وتعاملون بقسوةٍ جميع عمالكم، إنَّكم للخصومة والمشاجرة
تصومون ولتضربوا بكلمة الشرِّ. لا تصوموا كاليوم لتسمعوا
أصواتكم في العلاء، أهكذا يكون الصوم الذي فضلته اليوم
الذي فيه يعذب الإنسان نفسه أذا حنّ رأسك كالقصب، وافترش
المسح والرماد تسمي ذلك صوماً مرضياً للربِّ؟ أليس الصوم
الذي فضلته هو هذا: حلّ قيود الشر وفَكُّ ربط النير،
وإطلاق المسحوقين أحراراً وتحطيم كلّ نير؟ أليس هو أن تكسر
للجائع خبزك وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك. وإذا رأيت
العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك؟ حينئذ ينبزغ
كالفجر نورك ويُعَذب جرحك سريعاً ويسير برّك أمامك ومجد
الربِّ يجمع شملك حينئذ تدعو فيستجيب الربّ وتستغيث فيقول:
هاأنذا إن أزلت من أبنائك النير والإشارة بالإصبع والنطق
بالسوء، إذا تخلَّيت عن لقمتك للجائع وأشبعت الحلق
المُعذَّب يشرق نورك في الظلمة ويكون ديجورك كالظهر ويهديك
الربُّ في كلِّ حين ويشبع نفسك في الأرض القاحلة ويقوي
عظامك فتكون كجنةٍ ريا وكينبوع مياه لا تنضب" (إشعيا
58/2-11).
كما لا يجوز فصله بعد عن الصدقة والصلاة، وأخيراً يجب أن يكون
حبُّنا لله الدافع الأول لصومنا، كذلك يدعو يسوع إلى
القيام به في تكتّم تام، فمثل هذا الصوم المعروف من الله
وحده، سيكون التعبير الصادق عن رجائنا فيه، هذا هو الصوم
المتواضع الذي يفتح القلب للبرِّ الباطني، الذي هو عمل
الأب وهو الذي يرى ويعمل في الخفاء. "أمّا أنت، فإذا صمت،
فاذهب واغسل وجهك، لكيلا تظهر للناس أنك صائم، بل لأبيك
الذي في الخفية، وأبوك الذي في الخفية يجازيك" (متى
6/17-18).
* الكنيسة والصوم
حافظت كنيسة المسيح في العهد الرسولي، فيما يَتعلَّق بالصوم على
العادات اليهودية، المؤداة طبقاً للروح التي أملاها يسوع،
وتذكر أعمال الرسل بعض احتفالات العبادة التي تَتطلَّب
الصوم والصلاة :"فبينما هم يقضون فريضة العبادة للربِّ
ويصومون، قال لهم الروح القدس: أفردوا برنابا وشاول للعمل
الذي دعوتهما إليه فصاموا وصلّوا، ثم وضعوا عليهم أيديهم
وصرفوهما" (أعمال الرسل 13/2- 4).
ولا يكتفي بولس، خلال عمله الرسولي المضني، باجتماع الجوع
والعطش، اللذين تفرضهما عليه الظروف، بل يضيف إلى ذلك
أصواماً عديدة، الجلد والسجن والفتن والتعب والسهر والصوم
(2قورنثس 6/5)... "جهد وكدّ، سهر كثير، جوع وعطش، صوم
كثير، برد وعري" (2قورنثس 11/27)، وظلت الكنيسة أمينة على
حفظ هذا التقليد، وهي تحاول بغرض ممارسة الصوم أن تضع
المؤمنين في حالة تفتح كامل لنعمة الربّ، إلى أن يجيء.
فإن كان مجيء المسيح الأول قد وضع حداً لانتظار شعب الله
المختار، إلاّ أنَّ الزمن الذي يتبع قيامته ليس هو بعد زمن
الفرح الكامل، الذي يستغني فيه عن أعمال التوبة.
أنَّ يسوع نفسه، يدافع عن تلاميذه، لعدم قيامهم بفريضة الصوم،
بقوله:"أيستطيع أهل العريس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما
دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن سيأتي زمن
فيه يرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون" (مرقس
2/19-20). إذاً الصوم هو البحث عن الحبيب أو بالأحرى عن
العريس.
وتوبة الإنسان الباطنية قد تَتَّخذ تعابير متنوِّعة، ويلحّ
الكتاب المقدس والآباء على ثلاثة أشكال لها: الصوم والصلاة
والصدقة، وهي تُعبِّر عن الإرتداد في علاقة الإنسان مع
ذاته ومع الله والآخرين، فإلى جانب التغذية الجذرية التي
تتمّ بالمعمودية أو بالاستشهاد، علينا أن نعيش التنقية
لنيل الغفران بالطريقة التالية:
الجهود المبذولة للمصالحة مع القريب، دموع التوبة، الإهتمام
بخلاص القريب، وممارسة