نحن نعلم أن معشر الكهنة لم يتقدموا إلى الدرجة الكهنوتية
إلاّ بنيّة مستقيمة، وغايتهم متجهة إلى تمجيد الله والسعي
لخلاص نفوسهم وخلاص القريب... فإذا كانت هذه فعلاً غاية
الكهنة ومقصدهم، فلماذا لا نرى النهضة الروحية في رعايانا
رغم عمل الكهنة بنشاط وبحركة دائمة متواصلة؟... أين
تضيع ثمار الجهود؟ ... ولِمَ يضحِ الزرع عقيماً؟.
إن حياة الكاهن الحقيقي تتوقف على
ثلاثة أركان، فإذا فُقدت، فُقدت معها الحياة الكهنوتية
وفُقد النجاح مهما كثرت الوسائل المادية والحركة ومهما زاد
العمل. وهذه الأركان الثلاثة هي: الصلاة، النعمة، الصليب.
** الكاهن رجل صلاة: أليس هو الوسيط بين الله والناس، بين
السماء والأرض؟ ... كهنة اليوم كثيرو الإتّكال على قِواهم
ومهاراتهم، ولا يلتجئون إلى الله بالكفاية وكما ينبغي
مستمدين منه النعمة الفعالة للقيام بمهامهم الكهنوتية، مع
أن الكهنة لا يجهلون أنهم بدون نعمته التي ينالونها
بالصلاة لا يستطيعون مطلقاً أن يفعلوا شيئاً ... "بدوني،
أي بدون نعمتي، لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً" ... ألم يقرن
المخلّص الأقوال بالأعمال فكان ينقطع مراراً وحده إلى
الجبل ويصلّي، ويقضي ليالي برمّتها في الصلاة !!!.
إذا تمعنّا في حياة الرجال القديسين
العظام الذين أجرى الله على أيديهم الأعمال الباهرة في
الكنيسة، نجد أنهم كانوا كلهم رجال صلاة، الصلاة بمعناها
الحقيقي وهو ارتفاع القلب إلى الله، وليس كما يفهمها ضعفنا
البشري الذي يحملنا على أن نحرّك شفاهنا بصلوات لفظية
وقلبنا بعيد عن الله.
أين هو كاهن اليوم من الصلوات الكبرى
التي تؤلّف حياته وهي: صلاة القداس التي يقوم بها مقام
المسيح بتقديمه الذبيحة الإلهية _ صلاة الفرض التي يقوم
بها مقام الكنيسة كلها لأنه يصلّي باسمها عنه وعن الشعب _
الصلاة العقلية أي التأمل اليومي الذي يتبحّر به في كمالات
الله ويتلذّذ بالأمور الروحية.
** الكاهن رجل نعمة: ولا عجب في ذلك، فهو موزع النعم في
توزيعه الأسرار المقدسة، فيعيد النعمة إلى مَن فقدها أو
يزيدها في نفوسهم ... الكاهن هو أيضاً مبشر بالنعمة، فكل
مواعظه وكرازته موجَّهة إلى هدف واحد وهو: حمل الناس على
الثبات في النعمة بالإبتعاد عن الخطيئة أو استرجاع النعمة
بعمل التوبة.
قال المخلص:"أنا الكرمة وأنتم الأغصان.
كما أن الغصن لا يستطيع أن يأتي بثمر من عنده إنْ لم يثبت
في الكرمة ..." ... فحياة النعمة للكاهن أشبه بحياة النفس
للجسد، فكما أنه بدون نفس لا يسع الجسد أن يأتي بحركة بل
يكون جثة هامدة، كذلك الكاهن إذا كان بعيداً عن الله فمهما
عمل من سلام النفس واتحادها بالله بالنعمة.
** الكاهن رجل صليب: الكاهن هو رجل الإحتمال وهو رسول
الصليب. فالكاهن الذي يظن إنه يقدر أن يعمل الخير وهو يعيش
براحة ورفاهية بدون تعب ولا إنزعاج يحاول أن يشقّ للسماء
طريقاً جديدة هي غير طريق الخلاص، طريق الصليب.
الصليب ليس متوقفاً على إحتمال الأمراض
أو المصاعب التي تنتابنا _ كما يظن البعض _ إنما المخلص
يطلب منا أن نحمل صليبنا يومياً "مَن لا يحمل صليبه كل يوم
ويتبعني فلا يستحقني" ... فما هو صليبنا اليومي؟.
هو الصليب الذي أعدّته العناية الإلهية لكل
واحد منا حسب حالته. أما الكهنة فصليبهم هو حياتهم
الكهنوتية بما فيها من الأعمال والأتعاب والمحن، لأن
الحياة الكهنوتية مع ما لها من سحر المنزلة والكرامة لا
تخلو من مسؤوليات وواجبات ثقيلة. فالقيام بهذه الواجبات
بأمانة وشجاعة هو الصليب اليومي. هذا الصليب هو: الإقامة
الدائمة في الرعية _ الوعظ _ الصلوات الطويلة _ الحفلات
الطقسية _ سماع الإعتراف _ زيارة المرضى _ تحمّل أثقال
الشعب، طباعهم الخشنة، نكران جميلهم _ الإهانات
والإنتقادات والكلمات الجارحة الصادرة سواء من إخوتهم
الكهنة أو من الشعب، بحق أو بدون حق.
الصليب هو الطاعة الحقيقية لأوامر
الرؤساء بإخضاع العقل والإرادة دون تذمر بل بفرح حباً
بالله لاسيما في اختلاف الآراء.
الصليب هو عدم التقدير الذي يراه
الكاهن من رؤساءه أو من الشعب رغماً عن كل أتعابه وغيرته،
ولا يجد مَن يفكر فيه أو يوجّه إليه أقلّه كلمة ثناء تنعش
نشاطه، بينما هو يرى مَن هو أقل منه فهماً واقتداراً
وغيرةً متقدماً وله الكلمة والنفوذ.
فحياة الكاهن كلها صليب ... هو الذي
أقيم ليبشر بالمصلوب، عليه أن يحقق فيه معنى هذه البشارة
كما قال بولس الرسول:"إني لا أعرف بينكم إلا يسوع، وإياه
مصلوباً".
إذاً، حياة الكاهن هي حياة الصلاة،
حياة النعمة أو القداسة، وحياة الإحتمال وحب الصليب، وهكذا
يكون الكاهن كاهناً ويمكنه أن يقدس غيره. وهكذا صنع في
كنيسة الله مَن سبقونا من الكهنة الصالحين الأبرار، الذين
عملوا في حقل الرب ونجحوا، فكان عصرهم العصر الذهبي لحركة
النعمة والنهضة الروحية في نفوسنا.
إن الوسائط التي لدى الكهنة اليوم متوفرة أكثر مما كانت في
الأجيال السابقة. فعدد الأساقفة والكهنة اليوم أكثر من
الماضي، وهم في العلم والثقافة أرقى، وفي المشاريع الخيرية
المتنوعة كالأخويات والجمعيات والنوادي أكثر، وفي الوسائل
العمرانية كبناء الكنائس والمطرانيات والأوقاف أكثر وأكثر.
بينما آباؤنا الأولون كانوا محرومين من أغلب هذه الوسائل،
فضلاً عما احتملوه من أنواع الإضطهاد والعذاب والأَسر
والنفي حتى الإستشهاد.
أولئك الرجال كانوا مع بساطتهم وقلّة
عددهم ووسائلهم وفقرهم كهنة بكل معنى الكلمة ... كانوا
رجال صلاة، رجال نعمة، رجال احتمال. وهكذا يجب أن يكونوا
كهنة القرن الحادي والعشرين إذا ما أرادوا أن يكونوا كهنة
قديسين ناجحين في حقل الرب.
فلنطلب هذه النعمة من ربنا يسوع المسيح
لكهنتنا الأفاضل بشفاعة العذراء أمّ المسيحيين وأمّ
الكاهن.