كثيرة هي الكتب التي كتب فيها أصحابها عن الصابئة
المندائيين باعتبارهم أصحاب دين قديم ولغتهم تختلف عن لغة
من جاورهم قبل أن تطغى اللغة العربية لتكون لغة الخطاب
اليومي ولعدم وجود نصوص مترجمة من كتبنا الدينية والحياتية
آنذاك لخوف رجال ديننا من إشكاليات لربما كانوا سيقعون
فيها لو قام بعض الذين لا يفقهون في الديانة المندائية في
عملية الترجمة ونحن في غنى عنها، لذا آثروا السلامة ولم
يحاولوا أن يكون لهم هذا الدور الذي يعتبره البعض دوراً
سلبياً جعل الآخرين يتقوّلون ويتكهّنون ويصوّرون ما طاب
لهم ذلك دون أن ينبري مَن يرد عليهم ويحاول توضيح الصورة
الحقيقة لهذا الدين، فآثروا السلامة على أن ينزلقوا في
مهاوٍ نحن في غنى عنها، وقد يكون هنالك سبب آخر وهو أن بعض
رجال الدين لم يكن لديهم الإلمام الكافي بأصول ترجمة
النصوص الدينية والتي بواسطتها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا
وعن ديننا وبالتالي عن وجودنا وبذلك نستطيع أن نقطع الشك
باليقين، لقد تعددت الأسباب والخاسر الوحيد نحن المندائيين
الذين نحاول الآن وبكل ما أوتينا من قوة لإثبات وجودنا
وترسيخ مبادئ ديننا القديم. لقد كانت هناك هوّة بين رجال
ديننا وبيننا وحال البعض رأب الصدع هذا، وحاول البعض الآخر
زيادة الفجوة بما يضمن له أو لهم مكانة الرئاسة والتصرف
بمصير الطائفة كل حسب أهوائه ونواياه، حتى ظهر مَن طرق باب
التحذير منبّهاً المندائيين جميعاً من خطر دائم بات يهدد
وجود هذا الدين وهذه الطائفة والتي باتت تطفو على سحابة
صيف سريعاً ما تتلاشى وتتبخر ليسقط من عليها في قرار لا
يعرف قراره، ألا وهو الهجرة التي كتبت علينا والتي أضحت
هاجساً يؤرق الكثيرين وبات الكثير من المندائيين يبحث عن
السبل التي بواسطتها سينجو هو وأفراد عائلته ومحبيه من
مصير لا يعرف أحد كيف سيكون بعد لحظة الزمن.
لقد قادني إلى ما قاله كتاب جمع فيه
مؤلفه "محمد حمادة" ما قاله الأقدمون والمحدثون عن الصابئة
وعن دينهم وذهبوا مذاهب شتى تختلف من زمن لآخر ومن فكر إلى
فكر آخر لا يمتّ إلى ما سبقه بأي فكرة واضحة المعالم،
فالكل يدلو بدلوه والكل يفسر ما يراه وما سمعه عن الآخرين
دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتقصي والإستقراء. فالكل
يعتقد أنه العارف ببواطن الأمور وإليه انتهى العلم وأن ما
سيقوله سيكون هو الأصح وهو على يقين بأن ليس هناك مَن
ينبري له للردّ عليه لتعزيز رأيه أو لتوضيح ما التبس إليه،
وليعيد كتابة المفاهيم الخاطئة بما يتناسب والحقيقة التي
نريد لها أن تظهر للعيان ودون أن نخشى في قول الحق لومه
لائم، وقد أكون مخطئاً متجنياً فيما ذهبتُ إليه لذا أستغفر
الحي الأزلي إذا ما شططت في قولي هذا فقد يكون هناك مَن
كتب ومَن أفتى ومَن دافع وكافح لكم، لم يكن هناك من وسائل
النشر والإيصال إلى الآخرين ما صار متيسراً في هذا الوقت،
أو قد يكون هناك مَن بيده السلطة وله أن يمنع أو يسمح في
النشر لكم. ومن ناحية أخرى فإن الكتب التي طبعت أو نشرت
خلال الخمسين سنة المنصرمة من القرن العشرين لهي دليل قوي
على ما أستطاع المندائيون من انجازه ليوفروا لنا المناخ
المناسب الذي بواسطته استطعنا أن نصل إلى ما نحن فيه الآن،
واستطاعوا من إنارة للظلمة التي كانت تكتنف الأفكار
المتوارثة والتي كان يطيب للبعض تكرارها واجترارها بمناسبة
أو بدونها لغرض في نفوسهم المريضة.
يقول الكاتب والباحث محمد عمر:"حين التحدث عن الصابئة يحلو
للكثيرين محاولة الظهور بالعالم العارف ببواطن الأمور
وظواهرها، وكأنهم أوضعوا تلك العقيدة ومؤسسوها، فيبدءون
بالحديث عن عبادة النجوم والكواكب، وما إليها من مكانة
إلهية عند الصابئة. فهل لهذا الحديث من أصل في الحقيقة أو
الموضوعية؟.
حين تجولت بين الصابئة في أماكن
تجمّعهم في عدة مناطق كالناصرية والعمارة والبصرة وسوق
الصاغة في بغداد وغيرها، تبين لي أن الصابئة يؤمنون بإله
واحد قادر، لا أول له ولا آخر، ولا بداية له ولا نهاية،
وهو الخالق والصانع، والحي والباقي الذي لا يموت وهو نور
السموات والأرض، ونوره يعمّ الكون، وجميع المخلوقات في
الدنيا والآخرة، ولولا نوره الذي يبدد الظلام لما كان هناك
وجود كوني ولا وجود إنساني، ولهذا يصبوا الصابئة ويتعبدون
ليلاً ونهاراً، ويتقربون إلى الله بالعمل الصالح،
وبملائكته وبالأنبياء وبمبدعاته المدهشة في السماء، حتى
ينالوا الوصول إلى الجنة (عالم النور) المنور بنور الله
تعالى، وليس هذا التقرب بعيداً عن العقل والمنطق، فكل
أصحاب الديانات السماوية وغير السماوية يقتربون إلى الله
بالذي يعتقدون بأنه يقربهم من الله، ولينظر كل منا في
عقيدته ليتأكد من ذلك، فهناك مَن يتقرب بالرسل والملائكة
والكتب المقدسة، وهناك مَن يتقرب بالتعاويذ، وأصحاب الطرق
الصوفية أو العارفين أو الواصلين، أو المتحديين بالذات
الإلهية، ومنهم مَن يتقرب إلى الله بالأنصاب والأزلام
والأحجار والأخشاب، فأصبحت من القدسية والإجلال ما يساوي
القدسية الإلهية، بل أصبح المساس بها كفراً وخروجاً عن
العقيدة، لا يساويه المساس بالذات الإلهية، إذاً هي
اجتهادات في التقرب إلى الله والكل على حق وصواب إلا
الصابئة فإذا تقربوا إلى الله بشمسه ونجومه وملائكته،
أصبحوا عبدة النجوم والكواكب والملائكة" ... هذه شهادة من
رجل باحث آثر أن يرى بنفسه ويسمع من الآخرين ما يقولون دون
تحميص أو تدقيق في موضوع مخطوطات البحر الميت والتي وجدت
في وادي قمران في الأردن نجد الباحث الكاتب يقول:"ليس من
المستغرب أن نجد أفكار الصابئة في مخطوطات البحر الميت،
التي اكتشفت في عام 1947 بالقرب من البحر الميت، فاللفائف
المخطوطة التي وجدت، تتحدث عن عقيدة الطوائف التي عاشت في
كهوف بعيداً عن اليهود واضطهادهم لأصحاب العقائد. فتعاليم
يوحنا المعمدان نجدها واضحة في هذه اللفائف، ففكرة
المعمودية وطقس الماء والالإستحمام والتنبيه إلى أن
التطهير والالإستحمام لا يزيل الذنوب ما لم يسبقه تطهير
روحي، وهناك تشابه بين انتظار يوحنا المعمدان للمسيح
وتعميده، وما جاء في مخطوطات البحر الميت، فقد تنبأ يوحنا
بأن الذي سيأتي بعده سيحكم بعقوبة النار، وهذه الفكرة
واضحة بصراحة وقوة في أحد مزامير الشكر، إذ تقول:"إن
أعاصير الشيطان الرجيم سوف تلتهم بالنار حتى أسس الجبال"
... وجاء في المخطوطات أن حركة يوحنا بزغت بين الكهنة
والرهبان، لكنها تحركت منهم فيما بعد، مثلما وقع لطائفة
قمران على الأرجح، وكان يوحنا يوجه كلامه إلى الشعب بأجمعه
بعكس القمرانيين والاسنين".
بعدها يمضي الباحث إلى أن يجعل ليس
مجرد تشابه هو المعول عليه وحسب لكنه أمر مفروغ منه بأن
المخطوطات تعود إلى الصابئة حيث كتب:"عقائد الجماعات التي
عاشت في الكهوف، هي أفكار وعقائد قريبة من عقائد الصابئة
منها: لا تدع رجلاً يغتسل بالماء القذر، أو بما لا يكفي
لتغطيته، كما لايجوز أن تطهر بالماء المستعمل أي وعاء، كل
نقرة في الصخر يجب أن يغطى ماؤها ، فإذا لمسها رجل قذر
زالت طهارته"، وتنطبق هذه مع عقائد الصابئة حيث يؤمنون بان
المتطهر يجب أن يغطي الماء الإنسان بكامله. (كل آلة
كالمسمار أو الوتد في الحائط لامست الأموات تصبح نجسة)
والإنسان عند الصابئة حين يقترب من الموت يغسل قبل موته،
لأنه بعد الموت يصبح جسداً غير طاهر بمجرد خروج الروح منه.
ويستمر الكاتب محمد عمر بإيراد النصوص
القديمة التي ظهرت في مخطوطات قمران ومدى التشابه بينها
وبين عقيدة الصابئة المندائيين فيقول:"ومفهوم الروح في
المخطوطات يتطابق تماماً مع مفهومه في العقيدة الصابئية"،
"الروح عبارة عن شرارة من النور الإلهي اجتمعت في عالم
المادة المظلم" فتؤكد المخطوطات على تسمية الصالحين بأبناء
النور والأشرار أبناء الظلام فهم الكفرة غير المؤمنين وهي
تسمية ما زالت مستعملة حتى الآن. ويطلق الصابئة على النبي
يحي (عليه السلام) لفظ معلم الحق، ذلك أنهم لا يعتقدون أن
الله يرسل نبياً من عنده ويعطيه اللفظ الذي سيتحدث، بل إن
الله يهمه قول الحق. مثل ذلك جاء في المخطوطات:"إن
المستقيمين هم الذين استمعوا إلى معلم الحق وأما الأشرار
فقد رفضوا الإستماع إليه والشيء الضروري للخلاص مجرد
الإيمان برسالة معلم الحق والوفاء لتعاليمه".
والروح عند الصابئة محبوسة في جسدها،
وحينما تنطلق من الجسم فإنها تتخلص من السجن ومثل هذا جاء
في المخطوطات:"إن الأجسام تفنى وإن المادة التي عملت منها
ليست خالدة لكن النفوس هي الخالدة والتي تعيش إلى الأبد،
وعندما تتحرر من رقبتها، كأنها مربوطة بأجسادها وكأنها في
سجن بقوة سحرية، عندئذ تذهب الأجساد إلى الفناء وتذهب
الأرواح إلى الخلو".
ويخلص الباحث محمد عمر إلى استنتاج
مفاده إلى إن ألواح قمران ما هي إلا ألواح مندائية
فيكتب:"مما مرّ بنا من الفقرات الواردة في مخطوطات البحر
الميت يتبين لنا إن هذه الفقرات تحمل أفكار الصابئة أتباع
العقيدة التي جاء بها النبي يحيى على الرغم من إن هذه
المخطوطات لم تشر بوضوح إلى أنها تمثل عقيدة يحيى، إلا
أنها تشير بوضوح كامل إلى أنه آراء طائفة تعرضت للإضطهاد
من قبل اليهود، وتؤكد إن هذه الجماعة هاجرت باتجاه لشمال،
وهذا يتوافق مع الأحداث التي مرت بها طائفة الصابئة.
فالرأي الثابت لدينا إن الصابئة المندائيين الموجودين في
العراق وجنوب إيران أصحاب عقيدة كتابية توحيدية". بهذا
القدر غير القليل أكتفي من اقتباس ما أورد الباحث محمد عمر
حمادة، والذي أشار فيه بما لا يقبل الجدل على مبدأ التوحيد
الذي إعتنقه المندائيون منذ أن فتح الإنسان الأول عينيه
ليرى نور الحق لأول مرة.
يتوضح لدينا ما ذهب إليه الباحث من بحث
أجاد فيه وأنصف ولم ينحاز بل حكّم العقل والمنطق ليخرج
بتلك الإستنتاجات المنطقية والتي تؤكد كلها إن المندائيين
لم يكونوا يوماً ما عبدة للنجوم والكواكب بل هم عباد
للواحد الأحد والذي منه وبقوته وببركته انطلقت إلى
العوالم، وبفضله سبحانه وتعالى خلقنا من طين وله أرواحنا
تعود وتبقى وتعود أجسادنا لتعود إلى الطين.