خواطر
وكتابات عامة
على خطى إبراهيم، حجٌّ بابوبي تاريخي إلى أرض العراق
لويس اقليمس
25
كانون الاول 2020
بين مصدِّق ومنذهل، سيتحقّقَ الحلم الكبير بتأكيد حاضرة الفاتيكان في 7 كانون أول 2020 نبأ الزيارة الميمونة التي سبق أن وعد بها بابا الفاتيكان "فرنسيس" إلى أرض السواد العراقية، بلد إبراهيم أبي الآباء وحاضرة أكد وسومر وآشور وبابل، بعد أن كان مقررًا لها أن تجري في 2019 بسبب ضبابية الظروف الأمنية. سيباركُ قداستُه أرضَ شنعار-العراق ومياهَه وسماءَه ويحاورُ أهلَه الطيبين أصلاء الحضارة والثقافة قبل أن تتدخلَ أيادي الشرّ الخبيثة وتزرع الفتنة والفساد وتعملَ قتلًا ودمارًا وتشتيتًا في أبنائه وبناته، في شيبه وشبابِه، في نسائِه وأطفالِه، أحباء الله الخالق العظيم ومالك الأرض والسماء والعناصر بغير منافس. وعلامةً على حسن تدبيرِه وخياره، سيحلُّ البابا "فرنسيس" للفترة من 5-8 آذار من العام القادم 2021، ضيفًا كريمًا عزيزًا على مدينة بغداد دار السلام ومنارة المجد والخلود. وسيتعطّرُ قداستُه بتراب مدينة أور أبي الأنبياء، ويزور أربيل (حدياب الآرامية -مدينة الأربعة آلهة) عاصمة كردستان العراق ورمز التسامح المجتمعي والتآخي، وبعدها الموصل (نينوى الآشورية) قلعة الصمود والتحدّي والتعدّد الإتني والديني. وأخيرًا يأتي دور مدينة "راسن" / قرقوش (بغديدا / بخديدا بالسريانية) التي سيخصّها ببركة رسولية خاصة باعتبارها أكبر تجمّع مسيحي للكنيسة السريانية ورمزًا للمسيحية في محافظة نينوى الجريحة، وفيها أكبر كنيسة في العراق (كنيسة الطاهرة الكبرى) والثانية في الشرق الأوسط من حيث السعة والمساحة والعمران. فقداستُه لم ينس هذه البلدة الحالمة في أطراف مدينة الموصل الأصيلة في كلّ شيء، وما عانته مع غيرها من بلدات السهل متنوعة الأديان والأعراق والمذاهب من تهجير ونزوح لأهلها ومن تدمير لكنائسها ومعابدها وأديرتها ومزاراتها وحرق وتفجير وتخريب وسرقة وسلبٍ ونهبٍ لمنازل أهلها ومؤسساتها الإدارية على ايدي تنظيم الدولة الإسلامية الذي عاث في مدن العراق المحتلة على أياديه الظالمة فسادًا بسبب تقاعس المنظومة السياسيّة الفاشلة وإدارتها الفاسدة عندما سهلت دخوله بالطريقة السالبة التي لا تنطلي على أيّ متابع للأحداث والوقائع والوثائق.
قصارى القول، لقد رحب العراقيون، صغارًا وكبارًا، عامةً ومثقفين، رجال دين وعلمانيين، سياسيين ومدنيين بخطوة الفاتيكان الجريئة التي تُعدّ أول حدث تاريخي لصالح شعب العراق، قبل أيّ مسمّى آخر. فالزيارة المرتقبة كما نفهمها، ستكون لها آثارٌ إيجابية، ليس على الصعيد المحلّي فحسب، بل والإقليمي والدوليّ على السواء. فالعراق مازال يحتلُّ موقع استقطاب دوليّ حسّاس على أصعدة كثيرة نظرًا لموقعه الجغرافي وعمقه الحضاري والتاريخي والثقافي والدينيّ وتميّز أهله وناسه بالطيبة والأصالة والإبداع، لاسيّما مَن حافظ منهم على الأمانة الوطنية ولم يخن الوديعة ولم يتأثر البتة بفساد الساسة وبحكمهم الظالم لشعبهم بشتى أدوات القهر والعشائرية والمذهبية والطائفية واللصوصية والمحاصصة التي قصمت جميعُها حاضرَه وأهانت ماضيه وأضاعت مستقبلَه بفعل الحروب غير المبررة التي خاضها و السياسات غير الحكيمة التي مارستها الأنظمة والحكومات المتعاقبة، ولاسيّما بعد الغزو الأمريكي الظالم في 2003.
لفتة بطولية تعزيزًا لروح الأمل
يقول أحد المتابعين لأنشطة البابا "فرنسيس"، أن الخبر جاء مفاجئًا للجميع حيث لم تُرصد اية زيارة لقداسته منذ أكثر من سنة بسبب آثار فيروس كورونا الذي جمَّدَ حياة البشر وأحالَ العالم إلى كتلة راكدة ضعيفة الحركة في الصناعة والسياحة والتنقل. فيما يرى غيرُه أنّ تحقيق هذا الحلم للعراقيين جميعًا في هذا الوقت الأغبر بالذات، كان لفتة بطولية تعزيزًا لروح الأمل والرجاء بغدٍ أحسن، ومن الدلائل المبشرة بأيامٍ أفضل قادمات لشعب العراق والمنطقة ودلالةً على ترقبٍ واضح وحدسٍ واعد بخفّة حدةٍ مرتقبة في آثار الجائحة وفي تحسّن الأوضاع على عموم البشرية المعذبة في ضوء هذا التاريخ الذي وقع الاختيار عليه. كما أنّ من شأن هذه الزيارة أن تعزّز روح الوحدة الوطنية بين سائر مكوّنات الشعب العراقي وتعيد البسمة إلى شفاه التعساء والفرحة للبؤساء والأمل للفقراء وأن ترسمَ الضوء الأخضر لمَن اضطرّته الظروف الظالمة كي يترك أرضَ الآباء والأجداد ويهجر البلدَ بأهله وأرضه مضطرًا بفعل المعاناة والقهر والظلم والتهديد، للتفكير بالعودة إليه راجيًا حياة معيشية أفضل وعدالة اجتماعية أكثر ومساواة في الحقوق والواجبات من دون تمييز ولا تفرقة ولا تجاهلٍ ولا استخفافٍ بسبب الاختلاف في الدين أو المذهب أو العرق، وفي اعتماد الكفاءة معيارًا لتكافؤ الفرص في كلّ شيء.
عسى أن تجد بركاتُ الحبر الأعظم بلسمًا شافيًا من لدن من تبقى من حكماء العراق ممّن في الحكم ومن ناسه الطيبين من خارج الحكم من القادرين على أداء دورٍ وطنيّ في إعادة بناء ما تمّ تدميرُه على أيدي فئاتٍ متحزّبةٍ منفلتة من رعاع الجهل والتخلّف التي تدير دفّة الحكم الحقيقي بأدوات حكومة عميقة متغلغلة في كافة مفاصل الدولة بفعل المال والنفوذ والسلطة التي استقوى بها هؤلاء وأتباعُهم وذيولُهم.
ترتيبات الزيارة
مَن يتابع خطّ سير الحجّ البابوي المرتقب لا بدّ أن يعيد للأذهان رغبة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي تمنّى تحقيق هذا الحلم في العام 2000 على خطى إبراهيم أبي الأنبياء عندما كان العراق يعيش أوضاعًا صعبة بسبب تتالي الأزمات وانعزال نظام حكمه آنذاكَ عن المجتمع الدولي بسبب الحماقات العديدة لأركانه، لاسيّما في خطيئته الكبرى بحق جارته الجنوبية في حرب الخليج الثانية. فقد سعى البابا الراحل منع حدوث حرب وشيكة ضدّ هذا البلد بسبب قساوة قلب معظم أنظمة المجتمع الدولي ضدّ العراق وشعبه و"تكأكُئِهم على ذي جِنّةٍ"، لكنّه لم يفلح في ردع القوى العظمى المتكالبة عليه. فكانَ أن ظلَّ العراقُ بلدًا ذليلاً مستباحًا وهزيلاً مذ ذاك. وهو اليوم بسبب تلك الحماقات يعاني من تبعات تلكم السياسات الخاطئة وما سواها من أزمات متلاحقة في ديمغرافيته واقتصاده وسياسات حكامه غير الرشيدة منذ 2003، عبر أحزابٍ فاقدة الضمير والأهلية الوطنية سطت على ثروات البلاد وأرهبت ناسه وهجّرت عقولَه وطردت كفاءاته ما اضطرّ الملايين للنزوح والهجرة بسبب فقدانهم لأهمّ ركنٍ من أركان المواطنة، وهو الوطن والمواطنية.
بحسب ما متوفر من معلومات من مصادر حكومية ومرجعيات كنسية، فقد تمت جميع الترتيبات والتحضيرات اللوجستية والأمنية في أقصى درجات السرية مع الجانب العراقي من قبل مبعوثين من الفاتيكان زاروا العراق للتداول بشأن تفاصيل الزيارة، لاسيّما وأنّ البلاد تعاني من أخطر أزمة مصيرية في تاريخها ومن هزالة واضحة في إدارتها. فالمشاكل السياسية والاقتصادية قد أربكت حياة عموم الشعب بسبب فقدان الإرادة السياسية الإيجابية بإصلاح ما فسدُ منذ سنوات، وتفاقم الصراع على السلطة والنفوذ من قبل رؤوس الدولة العميقة وأدواتها التي تعيث في الأرض فسادًا وقتلاً ونهبًا وترويعًا وسط صمتٍ من السلطات التي تشعر أنْ لا حول لها ولا قوّة ولا مقدرة لوضع حدودٍ لمثل هذه السلوكيات الشائنة الخارجة عن الانتماء الوطني الصحيح. فما تزال هذه الأدوات تتحرك بحرية أينما شاءت وكيفما شاءت وسط معالجات خجولة من الأجهزة الأمنية والقضائية التي تخشى تقاطع ذلك مع مصالحها ومكاسبها، إنْ مجاملة أو محاباة أو خشية على أرواحها ومصيرها ومكاسبها غير مكترثة بمستقبل عامة الشعب ومصالح البلاد العليا المهدّدة بالانهيار في اية لحظة.
رسائل البابا في زمن الرجاء
إنّ زيارة بابا الفاتيكان المرتقبة، ستحمل عمومًا في طياتها رسائلَ كثيرة للعراق والمنطقة والعالم وسط زحمة المشاكل وتقاطع المصالح الداخلية والإقليمية والدولية المتكالبة على هذا البلد الجريح بسبب الحالة الراهنة من عدم الاستقرار الأمني والاجتماعي والسياسيّ والأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي زادت من حدّة التقاطعات والمناكفات والتسقيطات بين أحزاب السلطة الحاكمة وبسبب الدور السلبيّ اللاّوطنيّ الذي تضطلع به ميليشيات هذه الأحزاب، لاسيّما الدينية منها. وفي اعتقادي، ستشكل هذه الزيارة لبلدنا فرصة لمراجعة المشهد السياسيّ برمته نظرًا للرسائل المهمة الكثيرة التي سيوجهها قداستُه. وما علينا شعبًا وحكومةً وأحزابًا حاكمة، إلاّ ان نغتنمها فرصةً طيبة لصالح بلدنا وأرضنا وناسنا ومواطنينا. بل ستكون دعوة مفتوحة وصادقة لوضع الاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية وغيرها من الصراعات العشائرية والحزبية والمناطقية جانباً، وذلك طلبًا للتلاحم والتعاون والتآزر ومن اجل اشاعة قيم التضامن والسلام والاستقرار، وترسيخ العيش المشترك، واحترام التنوع والتعددية، بكوننا اخوة في عائلة واحدة، ومواطنين لأرض واحدة، هي العراق بيتًا وخيمةً وملاذًا للجميع. حينها فقط، ستمتدُّ يدُ السلام لترفرفَ خفاقةً فوقنا جميعًا لتحفظَ بلادَنا وأرضَنا وشعبَنا. وحينها فقط سنبدع جميعًا في خلق مجتمع عراقيّ أفضل يقبل بالآخر المختلف مهما كانَ دينُه أو مذهبُه أو عرقُه أو قوميّتُه أو لونُه أو شكلُه ضمن الانتماء لهوية الوطن الواحد وليس لسواها من هويات فرعية أخرى انفصالية وتمزيقية وتمييزية وولائية.
إنّ هذه الزيارة وفي سياق الترتيبات والتطلعات تمثلُ رمزًا قويًا وعلامة فارقةً للغاية، وهي تفوق أكثر بكثير ممّا تشكلُه زيارة أي رئيس دولة في العالم مهما تجبّر. ويكفي أن يحلمَ بابا الفاتيكان الذي يرأسُ أكبرَ تجمّعٍ دينيّ في العالم أن يسير على خطى إبراهيم أبي الأنبياء في أولى خطوات حجّهِ عندما تطأُ قدماهُ أرض أور الخصبة وتتغزّلُ عيناهُ بعظمة زقورتها التاريخية متطلّعًا للسماء ومتضرّعًا كي تحمي العراقَ وشعبَه وتصونَ أرضَه وأهلَه من أشرار الأرضِ وأفعالهم الشائنة بحق مواطنيهم المعذَّبين وبحق الوطن الجريح الذي خانته أيادي وأفعالُ هؤلاء الوكلاء غير الأمناء على مصالحه ومصالح الشعب عندما لم يحفظوا الأمانة ولم يصونوا الوديعة، ولم يكونوا رعاة صالحين للرعية.
وفي العادة، من ضمن رسائل البابا في أية بقعة أو دولة أو أمةٍ يخصُّها بالزيارة، يركّزُ قداستُه على مواضيع رئيسية مثل موضوع الأخوة الإنسانية التي تمثلُ مطلبًا ملحًا لتصالح البشرية جمعاء وتساهم بجعل العالم قرية نموذجية متآزرة ومتسامحة وإيجابية في سلوكيات البشر. وهذا ما نحتاجُه بإلحاح في ضوء المشهد السياسي المربك والاقتصادي المتراجع والاجتماعي الممزَّق المتأزم وسط صراعات مثلث السلطة الحاكم بلا رحمة ولا ضمير ولا دراية بشكل عناصر المنظومة السياسية الفاشلة منذ تشكيلتها وفق نظام التحاصص البغيض الذي أثقل كاهلَ الدولة وساهمَ بتمزيق لحمتها الاجتماعية وأحالَ ثرواتها إلى هباء منثور بسبب سوء الإدارة وغياب الإرادة في الإصلاح الحقيقي.
رسالة البابا في هذه الزيارة إذن، ستتضمن دعوة للوحدة الوطنية المهدّدة بسبب الصراعات القائمة التي فلّت من عضد الدولة ومن نسيجها المجتمعي إلى جانب رسالة السلام القوية وطنيًا وإقليميًا ودوليًا. ومن أهمّ عناوينها، توجيه رسالة خالصة لمدينة الموصل وأهلها، والتي لم تتعافى بعدُ من جراحاتها الكثيرة منذ طرد رعاع الدولة الإسلامية المتشددة من أراضيها. وستكون رسالتُه أكثر وضوحًا بل وتحملُ أملًا مشعًا لمسيحيي هذه المدينة، ولاسيّما بلدة قرقوش/ بخديدا (30 كم جنوب شرق مدينة الموصل) "رمز المسيحية" في شمال الوطن والتي كانت تحصي بين 50-60 ألف نسمة من أتباع الكنيسة السريانية قبل غزوها على ايدي تنظيم "داعش" الإرهابي المتشدّد. فآثار الدمار والسلب والعبث فيها وفي كنائسها ومنازل سكانها ماتزالُ قائمة بانتظار بلسمة جراحاتها وعودة أهلها الذين تشتتوا في بقاع العالم، ومثلهم سائر أهالي القرى والبلدات المجاورة الأخرى.
وبالتأكيد، لن تخلو لقاءات بابا الفاتيكان مع ممثلي مكوّنات البلاد، شيعةً وسنّةً وأكرادًا ومكوّنات أخرى تشكلُ فسيفساءَ الوطن المتآخية عبر الزمن، تمامًا كما اعتاد فعلَه في كلّ زيارة راعوية أو خارجية لبلدٍ أو منطقة. وفي اعتقادي، ستكون التفاتة أبوية وأخوية يقصدُ بها إشاعة الحقيقة الغائبة في زمنٍ غابَ فيه الأمل بمستقبلٍ أفضل وصارَ الرجاء في غياهب الظلمات.
مشهد غامض وأقليات في مرمى فصائل مسلحة
مَن يراقب المشهد في العراق والمنطقة وموعد الزيارة التاريخية الذي اختارهُ الفاتيكان والتي تُعدّ الأولى لبابا الفاتيكان للبلاد، سيرى توقيتَها متناغمًا مع المطالبات بضرورة إنصاف مواطني المكوّنات التي أحالَها الزمن الأغبر الظالم إلى جماعات "أقليات"، ليس ضمن المجتمع العراقي فحسب، بل في كلّ أنحاء الوطن العربي والمنطقة. فهناك شعورٌ قائمٌ بتحوّل بلدان المنطقة إلى صحارى بلون رمالٍ وحيدة في حالة فراغها من هذه المكوّنات، ولاسيّما المكوّن المسيحي الذي كانت له عبر الأزمان والدهور بصماتٌ مهمّة وأساسية في بناء الأوطان وتشكيل حضاراتها ومدّها بثقافة مميّزة تفتقرُ إليها الأغلبية القائمة في العهود والقرون الأخيرة. لذا تقترن هذه الزيارة قبل موعد الانتخابات المقررة في 6 حزيران من العام القادم برغبةٍ ملحة من لدن الفاتيكان ودوائره، لتشجيع أبناء المكوّن المسيحي للاشتراك فيها بقوّة وبنداءٍ وطنيّ لإثبات حضورهم الدائم والضروري في إعادة بناء الوطن على أسس حضارية واجتماعية سليمة ووفق اللوائح التي تديم عنصر المواطنة وتشجّع الالتزام الصحيح والصادق بالانتماء للوطن والأرض التي تذكّرُ الجميع بجهود الآباء والأجداد ودوام حضورهم "الغائب" عندما شكوا للزمن مرَّ الحياة وشظفَها. فمستقبل البلاد جديرٌ بأن يؤمّنَهُ الجميع بعيدًا عن أية خلافات تشهدها البلاد في صراع الأصدقاء الأنداد الأعداء هذه الأيام.
ومن المؤسف أن تستأنف فصائل خارجة عن القانون ومارقة عن إرادة الدولة توجيه سهامَ عدائها وعربدتها إلى أفرادٍ وكسبة من أبناء مكوّنات الأقليات بمحاربتها في عيشها ورزقها بعد أن أُغلقت بوجهها أبوابٌ غيرها لكسب الرزق الحلال. فاستهداف اصحاب محلات الخمور في هذه الأيام الأخيرة، موجَّهٌ أساسًا ضدّ أبناء المكوّنين المسيحيّ والإيزيدي المسالمَين تحديدًا. وهذه ليست رسالة جيدة قبل موعد زيارة البابا المقررة قبل الانتخابات لكونها لا تصبُّ في مصلحة العراق والعراقيين جميعًا. إنها رسالة عداء وحسد وغيرة فحسب، ولابدّ من وضع حدّ صارمٍ لما تتولاه فصائل القتل والرعب والترويع التي تدّعي تنفيذها بحجة "النهي عن المنكر". ف"الدين لله والوطن للجميع"، ولا حاجة للإله الواحد الذي نعبدُه جميعًا لتوكيل بشرٍ ضعاف النفوس للنطق وكلاءَ باسمه أو الدفاع عنه. فالله، ربُ السماء والأرض والعناصر جميعًا ليس عاجزًا عن حماية اسمه والدفاع عن قدرته الربانية وحقه الإلهي. أليس "اللهُ خير الماكرين"؟
في اعتقادي، مثل هذه السلوكيات العدائية الإجرامية وغير المهذبة تعمل على زيادة تمزيق النسيج المجتمعي بزرع الرهبة والخوف والرعب في صفوف أبناء هذين المكوّنين المسالمين. وقد تكون وراء هذه الأعمال العنفية والهجمات المسلحة الجرمية أهداف اقتصادية وتجارية تسعى الجهات المنفذة من ورائها لسحب البساط من المتداولين التقليديين بهذه التجارة وإبعادهم عنها لكي تتولى جهاتٌ تخضع لمصالح هذه الفصائل وأحزابها ومن يقف وراءَها لتحقيق أرباح من ورائها. بل والأنكى من ذلك، ما يُفهم من وراء هذه الأعمال فسحُ المجال لجهات تتولى ترويج أنواعٍ مختلفة من المخدرات القادمة من شرق البلاد والداعمة لهذه الفصائل في أعمالها وسلوكياتها وتجارتها. لذا على المراجع الدينية قول كلمة الفصل فيها وبما يحصل وليس الصمت والسكوت، وكأنها ضمنًا تقرّ بشرعيتها. فهذا عكس ما تصبو إليه زيارة البابا من تشجيع للحمة الوطنية، وتركيزٍ على وحدة البلاد، وضمان حرية الجميع باختيار سبيل الرزق والعيش الذي لا يخرج عن أدبيات القانون الوطني والأخلاقي، والدعوة لتثبيت عزم جميع ابناء الشعب العراقي، وبضمنهم المسيحيين الآيلين للانقراض بسبب مثل هذه الأعمال الشائنة التي تحاربهم في أرزاقهم وفي وجودهم وفي ثقافتهم وعاداتهم وفي ملبسهم ومشربهم وسلوكهم اليومي وتقاليدهم.
كما لا ننسى أنّ إقرار ممثلي الشعب الأخير باعتبار مناسبة عيد الميلاد عطلة رسمية للبلاد هي دلالة على اعتراف الوطن بحقّ أبناء هذا المكوّن وغيره بعاداتهم والحرية بكسب أرزاقهم وبما لا يخرج عن المألوف والقانون. فمثل هذه الأفعال الخارجة عن إرادة الدولة ومؤسساتها الرسمية والأمنية ستزيد من خطورة المشهد وتفاقم الخوف في صفوف هذه المكوّنات المسالمة أصلاً وتحجمُ أبناءَ المهجر من التفكير بالعودة إلى ديار الوطن ومناطقهم الاصلية بعد طردهم من قبل "داعش". فتكرارُ المأساة على أيدي فصائل مسلحة مدعومة من أحزاب السلطة بغطاء الدين والمذهب والولائية لا تقلّ جرمًا عن أفعال عناصر الدولة الاسلامية. بل إنّ مثل هذه الممارسات بحقّ هذه المكوّنات الأصيلة ستحدّ من سبل التعايش "المواطنيّ" الصحيح، كما ستسهم في غياب الثقة من جديد بين المكونات وأجهزة الدولة وفي فقدان "الأمل" المرجو من هدف الزيارة البابوية تعزيزًا لإدامة "فسيفساء الثروة البشرية" في العراق في ظلّ الدرجة العالية من الخلاف القائم الذي يضع البلاد ومستقبلَه على المحك في كلّ شيء.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة