خواطر
وكتابات عامة
ثقافتنا المجتمعية فوضى وواقع حال
لويس اقليمس
12
اذار 2019
سلوك البشر وأسلوب حياتهم اليومية تعكس ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه إلى درجة كبيرة. وقد تتعداها بإلصاق صفات وسمات سلبية أو إيجابية على الشعوب التي تشكل هذا المجتمع أو ذاك بسبب الاختلاف أو التقارب في حقائق كثيرة منها الدين والعقيدة والعرق والذهنية السائدة والموقع الجغرافي وطبيعة الوضع الاقتصادي وما سواها.
هناك مجتمعات ألفت تطبيق القانون وهي تمارس النظام بأعلى صوره وتفاصيل يومه تمامًا كما تفعل الماكنة من دون تقاعس أو شكوى أو امتعاض، لا لسبب باهت بل لكون هذه المفردات تمثل خبزًا يوميًا لا يقلّ أهمية عن الزاد الحقيقي الذي يتناولُه أفرادٌ من هذه المجتمعات المتميزة بحفظ النظام العام وتطبيق القوانين المرعية ومنها الحفاظ على نظافة البيئة من ضمن سلوكيات النظام اليومي في الحياة. وضمن هذه الخانة يمكن احتساب المجتمعات الغربية التي تطورت وتقدمت وترفهت بفضل تطبيقها للقوانين وحفظها للنظام العام وحرصها على تهيئة بيئة حياتية نظيفة تليق بالعيش الآدمي الطبيعي وتتلقى الخدمات المطلوبة مقابل احترامها للنظام العام. تقابلُها مجتمعات موغلة في التخلّف ومصرّة بالعودة إلى الوراء ممّا لا يسمح لها بتطوير الذات. والسبب لأنها اعتادت عيش أسلوب الغابة والأزمنة الغابرة الموغلة في الجهل والجاهلية ولا يهمها ما يعنيه تطبيق النظام والحفاظ على بيئة نظيفة خالية من التشوهات والسموم. ومن هذه الشعوب، أفرادٌ يديمون ذات السلوك الحياتي اليومي المعتاد حتى لو تسنى لهم العيش في بيئة متطورة في بلدان الغرب. لكنهم يظلون حفاة عقليًا ومتخلفين ذهنيًا ومتأخرين عن الركب اجتماعيًا بسبب عدم مقدرتهم على الاندماج في المجتمعات الجديدة.
عندما خلق الله تعالى العالم، خلقه وفق نظام كونيّ محكم، وأعطى للفرد المخلوق حرية التصرف والعيش وفق ما يرتئيه، سواءً باتباع نظام سائد أو بعيدًا عنه. وهذا ما يمنح البشر القدرة على تقدير شكل هذه الحرية واحترامها ومدى تطبيقها في حياتهم اليومية. والنظام كما نعلم جميعًا، يخص كلّ مفاصل الحياة. فهناك سلوك خاص في المنزل والمدرسة والعمل، وهناك نظام للسير والبناء والتصنيع، وهناك نظام في الشوارع والأرصفة ومقترباتها، وكذا في الأحياء السكنية وفي القرى والمدن. تمامًا كما هناك نظام للسلوك والأخلاق بين البشر وفي تفاعلهم مع بعضهم البعض. لكنّ البعض وبسبب غياب الوعي التربوي والثقافي الذي ضرب أطنابه في كلّ مفاصل الحياة العراقية، مصرّون كما يبدو على ضرب كلّ أشكال المدنية والتحضّر عرض الحائط والبقاء في دارة الفوضى التي يرون فيها المتعة واللذة ما طاب لهم ذلك، بحيث أصبحت ثقافتُهم المجتمعية واقع حال، تمامًا كما هي حالة العشوائيات والاستيلاء على الملك العام.
صحيح أن مؤسسات الدولة يقع على عاتقها جزء كبير من عملية تنظيم الحياة المجتمعية، وبالخصوص منها ما يتعلّق بالعملية التربوية التي تُكمل ما بدأته الأسرة والعائلة لحين التحاق الطفل بهذه المؤسسات. فالتربية تبقى أساس ثقافة الشعوب وتقدمها ورقيّها وتطورها. والدولة التي لا تولي التربية والتعليم والثقافة ما تستحقه في حياة المواطن هي دولة فاشلة وستبقى كذلك لأنّ أساس تطور الشعوب مرهون بهذه السمة أولاً وآخرًا. فما الفائدة من الأموال ومن تكديسها؟ وما فائدة من الثروات وأحجامها إنْ لم تُسخَّر في خدمة الإنسان والمواطن وتعمل على تثقيفه مجتمعيًا وترصينه ذهنيًا وصقل سلوكه اليومي في البيت والشارع وموقع العمل؟ الأموال والثروات تزول وتفنى وتختفي، أمّا التربية والعلوم والثقافة، فإنها تبقى شواهد على هوية الشعوب والمجتمعات والأمم. لكنّ غير الصحيح أن تتنصّل الأسرة والعائلة ولاسيّما الإباء والأمهات عن المسؤوليات الأساسية الملقاة على عواتقهم. فالتربية المنزلية تنعكس سلبًا أو إيجابًا على السلوك اليومي للفرد في الشارع والعمل والمقهى والمطعم. وما أيسر للمشاهد أن يرى مختلف أشكال السلوكيات بين البشر. ففيها المؤدب والرصين والمهذَّب والراقي الذي يُعتدُّ به فخرًا وحسدًا وغيرة. وفيها الهابط والناقص والمقزّز والمنفر حدَّ الاشمئزاز والإدانة والاستنكار. وشتّان ما بين السلوكين!
هكذا هي أخلاق الشعوب وسلوكياتهُا. فهوياتُها تبقى معيارًا لحضارتها وثقافتها ولجزء كبير من هذه الأخلاق التي تتسم بها وتحملها على أكتافها وفي ضمائرها وعقولها وأفعالها أينما حلّت وارتحلت. فإنْ ارتفعت الأخلاق وسمت السلوكيات، ازدهت بها هوياتُ شعوبها. أمّا إن هبطت مستوياتُها وتلاشت أخلاقُها لحدّ الانحطاط والإسفاف، زالت عنها سمة التمدّن والتحضّر وبقيت غارقة في سبات عميق بانتظار صحوة متأخرة. ويبدو أن مجتمعنا العراقي قد دخل في سباته الشتوي المستغرق في النوم لحين بلوغ صحوة المدنية والتحضّر من جديد. لستُ أجور عليه من باب النقمة والتقليل من القيمة. فلو كُتب له أن تكون له قيادة حكيمة وحكومة قوية رشيدة وإدارة نزيهة مبنية على العلمية وحسن التدبير والتخطيط، لصار في الخطوط المتقدمة في مسار تطور الشعوب والأمم ورقيها ونهضتها. فقد عرفه العالم شعبًا متجذرًا في الحضارة والرقيّ وصاحب غيرة في البناء والإعمار ومثالاً في التآزر والتعايش والكرم والتكافل وخدمة الغير. أمّا الغيمة السوداء المكفهرّة التي يمرّ بها، فهي بعون الله زائلة بزوال الأحداث والظروف والشخوص الذين أحالوا البلاد والعباد إلى هذه الحالة من التخلّف والفساد ومن الإرباك وغياب النظام والقانون.
ربّاط الحديث، هناك مظاهر أصبحت لا تتحمّل المزيد من الانتظار والاضطراب والصبر، ولابدّ لمؤسسات الدولة ولاسيّما التربوية والتوجيهية والتثقيفية منها وبدعم من المنظمات الناشطة مجتمعيًا، من استعادة المبادرة لوضع القانون والنظام في واقع الحياة المريرة للمجتمع العراقي. فقد خرجت الأمور عن نصابها كثيرًا في الشوارع والأرصفة والأزقة والأحياء السكنية بعد أن غزتها الأسواق المتنقلة المتمثلة بالبسطات والعربات التي اكتسحت هذه جميعًا ولم يعد للسابلة إلاّ اللجوء إلى الشوارع لارتيادها وسط زحمة البضاعة التي تفترش الأرض متجاوزة على حقوق السابلة وحقوق أصحاب المحال التجارية الذين يشكون تفاقم هذه الظاهرة. لقد أصبحت هذه الحقائق اليومية القائمة كواقع حال، تشوه المنظر العام للمناطق البغدادية التراثية والسكنية التقليدية دون مراعاة لأصحاب الدور السكنية وأصحاب المحلات التجارية التي كسدت تجارتُهم بسبب مزاحمتهم من قبل أصحاب البسطات. كما أنّ العديد من هؤلاء أصبحوا يشكون الكساد في مبيعاتهم، ما حدا ببعضهم في مناطق عديدة لتأجير الأرصفة أمام محلاتهم لتعويض جزء من خسارتهم. وقد راجت هذه التجارة كثيرًا ولاسيّما في المناطق والمواقع المزدحمة التي تلقى رواجًا كبيرًا في العرض والطلب، حيث تحصل المتاجرة بهذه الواجهات بين صاحب المحل التي تقع أمام محله مع صاحب البسطة مقابل مبالغ مالية كبيرة بحيث أضحت الأرصفة هي الأخرى خاضعة للبازار تباع وتشترى بمثابة محلات تجارية. وهناك مَن يدّعي استئجار الأرصفة والشوارع من أقسام بلديات أمانة بغداد أو حتى من الجهات الأمنية التي تتولى حماية المنطقة والإشراف على وضعها الأمني والاستخباري.
إنّ الجهات المعنية، ومنها على وجه الخصوص أمانة بغداد التي يقع على عاتقها الحفاظ على رونق الأحياء السكنية ونظافتها وبصورة أخصّ على جمالية الشوارع الأساسية في العاصمة بغداد، علاوة على الجهد الأمني الذي يتولى حفظ النظام، أن تعي خطورة تشويه العاصمة بغداد والمدن العراقية في عموم البلاد. فالتجاوزات الحاصلة على أملاك الدولة والشوارع الرئيسة ومقترباتها وفروعها وما تشكله هذه مستقبلاً من مشاكل ما يسمّى بواقع حال سواء في البناء العشوائي القائم من دون رقابة ومحاسبة شديدة، أو بترك المخلفات وتراكمها من دون بذل جهود للحفاظ على البيئة التي زحفت إليها يد التجارة وفعل الاستثمار العشوائي، هي بحدّ ذاتها مظاهر للتخلّف والتراجع في الثقافة المجتمعية وفي الذوق السليم. فهوية المجتمعات وسماتُها تبقى شهادة لواقع حالها ومدى تفاعلها مع جهود الجهات المعنية بتطوير البلاد وتغيير ملامح التخلّف نحو ثقافة ترقى لتاريخ العراق وحضارته ومكانته بين الأمم والشعوب. وإنّ جزءًا من هذه المسؤولية يقع أيضًا على عاتق الجهات الإعلامية في الوزارات والمؤسسات المعنية والقنوات الفضائية في البلاد من أجل توعية المواطن من دون أن ننسى الجهد المدني والبلدي بتوفير مواقع بديلة لأصحاب هذه البسطات وفق نظام مقبول كما هو معمول به في دول متقدمة تسمح بمثل هذه الأنشطة التجارية المحدودة والمقنّنة على مدار أيام الأسبوع والسنة.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة