اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 ثقافة احترام الوقت من أبجديات النجاح

لويس اقليمس

 

  2 نيسان  2019

 

        يبقى الوقت هو الأقوى من الإنسان. فالإنسان يعيش حياته بما فيها من فرح ومرح وحزن وغمّ، لكنّه في النهاية يموت لا محالة، فيما الوقت تبقى له الأبدية. هذا هو الفرق بين رفيقي الدرب: الإنسان والوقت. فالإنسان بحاجة إلى الوقت كي يعيش حياته ويحقق طموحاته ويبني مفردات هذه الحياة وفق رغباته وقدراته البشرية والعقلية. والعاقل مَن يستغلّ مشوار وقته الثمين على الأرض الفانية بأفضل صوره لتحقيق هذه الرغبات والغايات وفق مرضاة الله الخالق وبالتآزر والتعاون مع سائر البشر، فلا ينقلب عليه الوقت عدوًّا إذا أخفق في استغلاله للفائدة المرجوة منه. وأفضل الأوقات ما يجري استغلاله في تعزيز سبل العلاقة الطيبة بين البشر. يقول فيكتور هيغو:"يمضي الإنسان نصف حياته وهو ينتظر من يحبهم فيما النصف الآخر يمضيه في كيفية تركهم". فالإنسان إذن في سباق مع الوقت يحاول أن يروّضه لصالحه ما استطاع وفق رؤيته وقدراته البشرية التي تخطئ وتصيب، تنجح أو تتعثّر.

     مِن الناس مَن يحترم الوقت لحدّ القداسة في حياته اليومية. ومثل هذا الفرد النادر لا يمكن أن يخذله الوقت، فهو حليف إضافيّ آخر للنجاح في مشواره على الأرض من دون شك. هكذا تقول السير الذاتية للناجحين في حياتهم، الذين لا يتركون مجالاً للخسارة في الاستفادة من أوقاتهم. فالوقت بالنسبة للبعض سيف حاسم لتحقيق النجاح في الحياة وبلوغ المآرب عبر استغلاله بطريقة فضلى بترويض العقل والفكر والرؤية والإرادة والهدف كي تتجانس مع أعباء الحياة وتتنافس مع همومها ودهاليزها. ومثل هذه العناصر الأساسية في التقويم الإيجابي للوقت، وربما غيرها أخرى، هي السبيل لتطبيع الذات الشخصية والدفع بها لتحمّل المسؤولية في استخدام الوقت للأغراض المفيدة والأهداف النبيلة التي ترسم مسار السمات المطلوبة عادة في الشخص الناجح في الحياة.

    إن مسألة استغلال الوقت لا تخضع لقوانين محددة. بل الإرادة الذاتية هي التي تحدد كيفية تسخير الوقت لتحقيق النجاح لدى الفرد المتزن والمتوازن عبر الموازنة في الأداء الفردي مع الهدف المقصود. والإنسان الناجح هو الذي يخطط بطريقة عاقلة كيف يضع ساعات يومه في خدمته واستغلالها على أتم وجه من دون تضييعها أو هدرها هنا وهناك. فالوقت يمضي ويركض بسرعة، والعاقل والذكي مَن يستغلّ مروره بأقلّ خسارة حفاظًا على مكاسب يرتجيها منه. فمَن يسعى لمشاهدة وردة نظرة في حقله لا بدّ أن يقضي وقتًا في سقيها وتشذيبها كي تنبت وتكبر ويبان جمالُها للناظر وتفوح رائحتُها الزكية للقاصي والداني.

      هناك مَن يستغلّ أكثر أوقاته في النوم وطلب الراحة، وصنف آخر في اللهو واللعب البريء وفي هوايات شخصية، وغيرهم في العربدة واختلاق المشاكل وافتعال الشرور. يقابلهم مَن يسخّر وقتًا مهمًا في القراءة وأعمال الخير ومساعدة الغريب ومؤازرة الفقير والمحتاج وفي الصلاة وصلاح النفس. وآخرون تراهم منهمكين في تسيير عملية الإنتاج والصناعة والإبداع، سواءً لتحقيق الربح وكنز المال أو للشهرة وتبيان الحال. وهناك شعوب تسيّر ماكنة حياتها اليومية على دقات الساعة في الالتزام بالوقت وفق برنامج يوميّ روتينيّ لا يختلف سوى بما يكنّه الفرد من مشاعر ولواعج داخلية أو هموم وأشجان وطموحات شخصية تبقى طيّ الكتمان في أغلب الأحيان ولا يتمّ البوح بها لأنها خارج سياقات الروتين الزمنيّ. ومن العقلاء مَن وصف إدارة الوقت الطبيعية للإنسان بثلاث أسياسيات: صرف جزء كبير أو ما يعادل نصف الطاقة الشخصية في كسب الرزق اليومي والجري وراء العمل، وما يعادل ربع الوقت في أنشطة ضرورية في الراحة والأكل وتوضيب البيت والاهتمام بحاجات الجسم وتفعيل عملياته الحيوية، والربع الأخير يقضيه الفرد في تطوير ذاته خارج أوقات العمل وفي الشارع ومع الأصدقاء. ومثل هذا الترتيب، لو سار وفق روزنامة معدّة برويّة، فإنه سيحقّق نتائج مُرضية للإنسان الطبيعي الذي يستغلّ أية فرصة لاستغلال الوقت المتاح لصالحه ولصالح المجتمع الذي يعيش في كنفه.

     إن الشعوب المتحضّرة ترنو للأمام دومًا ولا تعير للزمن الماضي اهتمامًا كبيرًا، لأنه ببساطة أصبح من الماضي ولم يعد منه فائدة. بل جلّ ما يمكن الاستفادة منه أن يُتخذ مهمازًا لنجاح أكبر ودرسًا لمستقبل أفضل. وهذا سرّ نجاح معظم دول الغرب التي تهتمّ للوقت الحاضر وتتطلع به للمستقبل وتحترمه حتى القداسة. فيما الشعوب النائمة الكسولة لا تعير للوقت اهتمامًا كبيرًا. فوجوده وعدمه سيّان، إلاّ الندرة النادرة التي تعلّمت من غيرها من الشعوب المتقدمة واستلهمت قيمة الوقت وأهميته في حياتها ونشاطها اليومي. لذا تجد الفرد من أمثال هذه الشعوب المتخلفة يُبدع في استنباط وسائل واختلاق أعذار لترك العمل وموقع الواجب الذي هو فيه تبريرًا لتهرّبه منه. وهذا النوع من الاستخدام السلبيّ للوقت شائع في الكثير من دول العالم الثالث التي اعتادت الاعتماد على النظام الريعي لدولها في حياتها الاقتصادية. وبلدنا العراق من بين هذه الدول. فالأجير أو القائم بوظيفة في دائرة حكومية يكاد لا يعمل إلاّ بثلث الوقت المفترض أن يعمل به أو حتى أقلّ من ذلك بكثير بحسب دراسات معتمدة. وهذه الحالة العامة هي سرّ الترهّل القائم في معظم دوائر الدولة العراقية وفي تخلّفها وضعف إنتاجيتها بسبب غياب نظام المراقبة والمحاسبة الجدّيين وفي المقدمة منه محاسبة الذات، إلاّ ما ندر من البشر ممّن يعرفون قيمة الوقت ويستغلّونه سواءً للمنفعة الشخصية أو لأجل الصالح العام. ويهذا السلوك، يضرب مثل هذا الصنف النادر الأخير أروع الدروس في المثابرة والإخلاص في العمل وفي الالتزام المطلوب منه تجاه رب العمل، عند احترامه للوقت وتقديسه إياه.

    لا يخفى على أحد، أنّ سرّ نجاح الغرب يكمن في مثل هذا السلوك الميداني في الالتزام الأدبي والمجتمعي من خلال احترام الوقت المخصّص للعمل من دون ضياع فرص الاستفادة منه قدر الإمكان. فصنّاع المهنة أو الصناعة مثلاً قد خطّطوا للوقت استراتيجية أو وضعوا مهلة تضمن بلوغهم الهدف في التصنيع والتسليم والتسويق من خلال احترام التوقيت المخطَّط للعملية الإنتاجية. وفي حالة نقض هذا التوقيت، فذلك يعني تأخيرًا في الالتزام بسقف الإنتاج الصناعي المحدّد وفي تسليم البضاعة، ومن ثم بتكبّد خسائر غير متوقعة. وذات الشيء يمكن أن ينطبق على نوع المهمة المناطة بكادر العمل في أية مؤسسة مدنية أو عسكرية أو تعليمية لا تقلّ أهمية عن العملية الإنتاجية ووفق استراتيجية هذه المؤسسة أو تلك. فعدم الالتزام بالتوقيتات في تسليم نتائج أو تحاليل أو دراسات تخصّ المهام الإدارية والمالية والاقتصادية يعني تأخرًا في اتخاذ قرار يصبّ في الصالح العام أو لصالح هذه المؤسسة ذات الشأن، ما يعني خسارة أيضًا وخروجًا عن آداب الالتزامات المتعارفة. وهذه ليست من شيمة الإنسان الواعي أو المجتمع المتحضر الذي يشعر بالإحراج حين تخرج الأمور عن عقالها ويفقد الزمن هيبته وقيمته. وقد لا يشعر بهذا الهاجس سوى المتقدمون في العمر الذين خبروا أهمية الوقت وتحسروا لخسارته في فترات لم يؤدوا احترامهم المتعارف لمعنى الوقت، فدارت بهم الأيام وهم هائمون بلا هدف. وهذه حالة مَن عبرَ به الزمنُ فشاخَ ولم يعد للشيب من مهرب. فتراه يتحسّر على ما فاته من وقت مرّ من دون فائدة، لأنّ عجلة الزمن تسير بسرعتها ولا ترجع أبدًا إلى الوراء.

      من هنا، لا بدّ للإنسان الناجح أن يضع لنفسه برنامجًا أو استراتيجية (أجندة) في كيفية إدارة وقته في البيت والعمل والمؤسسة والسوق والسفر وأي مكان يقصده. وهذا يتطلب منه وجود إرادة قوية لتنفيذ ما قرّره أو ما يرتئيه وما يرمي إليه من وراء ذلك بحيث يجري ترتيبها وفق الأولويات وليس بشكل عبثيّ. فالتأجيل في التنفيذ أو التطبيق من شأنه أن يساهم في تفاقم حدة التوتر وانسحاب ذلك على الراحة النفسية للفرد بسبب ما قد يتركه مثل هذا التأجيل من تراكم الروزنامة الشخصية وتقاطعها مع ما قد تأتي به الأيام اللاحقة من موجبات والتزامات إضافية.

     في المحصّلة، يبقى الوقت واحترامُه في الالتزام به وفي استغلاله في العمل وغيره من الأنشطة الشخصية والجماعية، من ثقافة الإنسان الذي لا بدّ أن يتطبّع وفق شكل الثقافة المجتمعية التي يعيش وسط ظروفها. والخاسر مَن أدركه الوقت دون تحقيق قدر وافٍ من الاستخدام الأمثل والأفضل والأكثر صوابًا.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة