اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 ثقافة احترام الآخر من ثقافة

 التسامح والرحمة

لويس اقليمس

 

  8 تموز  2019

 

      أيُّ مجتمع تغيب عنه ثقافة احترام الآخر لا يستحق أن يُقال عنه أنه ضمن المجتمعات البشرية المتحضّرة. فثقافة احترام الآخر تعني في أولى أساسياتها نضوجًا فكريًا واجتماعيًا وإنسانيًا في السلوك اليومي المتوازن في الحياة. كما أنّ سمة الاحترام تشكّل عبورًا آمنًا من جسور أخرى متأصلة في ثقافة الشعوب المتمدنة. وهذه تستمدّ قوتها وتنشر صوتها عبر انفتاح الإنسان "المخلوق على صورة الخالق الجميلة"، على أترابه البشر ومشاركتهم بركة هذه الخلقة الحسنة وما تعنيه من رحمة وتسامح من لدن الله في خليقته البشرية. فالله صانع مبدعٌ للإنسان وما في الأرض وما عليها وما تحتها وما فوقها من نعم وخيرات وبركات أوجدها لخدمة خليقته ولرفاهها ومتعتها ضمن الحدود المرسومة والقواعد الأخلاقية الوضعية التي يضعها البشر من أجل تنظيم الحياة وسبل العيش فيها بأفضل ما يكون.

     من هنا، يكون الله قد منح البشر خليقته حرية التصرف والعيش وفق مديات العقل والحكمة والتبصّر وبما لا يتعارض مع حرية الآخر المختلف الذي هو جزءٌ من العائلة البشرية التي أراد الله وجودها على الأرض في بقع مختلفة من الكون الأزلي. كما أنّ أيّة محاولة للزوغان والخروج عن نطاق هذه القواعد الأخلاقية البشرية يعني شذوذًا وخروجًا عن قاعدة الخالق الذي ساوى في خليقته من حيث منحه ذات الصورة التي تشبهه، وهي كما نعلم "صورة حسنة" وتستحق التفاعل والتفاخر إن سارت وفق قواعد السماء وما يرسمه عقلاء الإنسانية وفلاسفتُها ومنظروها حين إعداد دساتير البلدان وقوانينها ولوائحها بحيث لا تتقاطع مع حرية الإنسان وخياراته أينما وُجد.

     إنّ سمة احترام الآخر تأتي في مقدمة الأسس والأولويات التي ينبغي عيشها وتطبيقها في الحياة كي تحظى المجتمعات الإنسانية بفرصة أفضل للعيش والتفاهم والتكاتف والتفاعل والبناء الإيجابي. ولعلّ من أولى خطوات احترام الغير أو الآخر، الإيمان بثقافة التسامح وآلياتها وقواعدها وفرصها الكثيرة. وهذه تشمل أيضًا الإيمان بحرية الدين للأفراد والمجتمعات بكلّ أشكالها وتفاصيلها وبمعتقدات الآخر ومذاهبه وطوائفه وإن اختلفت هذه من مجتمع لآخر أو من شخص لآخر أو من بلد لآخر. ويدخل ضمن هذه السمة ايضًا، مَن لا يسوغ له الإيمان بأيّ دين أو معتقد، أو مَن يريد العيش تائهًا وحائرًا في فسلفة "الّلاأدرية" التي تشقّ طريقها في هذه الأزمنة كسمة بارزة للعصر. وكذلك الإيمان بحق الفرد في الانتساب للقومية والإتنية التي يتفاخر بها ويجد الراحة والطمأنينة في الانتساب إليها، سواءً كانت من استحقاقه أو ادّعاها بخياره وإرادته وطموحه.

     إن احترام الآخر لا يعني الانصياع لرغابته والعمل بقواعده وسلوك ما يذهب إليه في تفكيره ونمط حياته. فعندما يحترم الإنسان غيره أو الآخر المقابل، مختلفًا كان عنه أم متطابقًا في الدين والمذهب والقومية والفكر وما شابه ذلك، فلكون هذا الآخر مثيلٌ له في الخلقة، ومساوٍ له في الإنسانية، له ما لغيره من نفس الحقوق والواجبات على قدر التساوي ومن دون تمييز يُذكر. احترام الغير يعني أيضًا، الاعتراف بالإنسان كإنسان وبقدراته البشرية من عقل وفكر وطاقة وشكل وحرية مصانة لا تقبل الخرق والتجاوز. وهذا ما تسعى إليه الدول المتمدنة والمنظمات الدولية بجعل موضوعة احترام الإنسان شأنًا عالميًا شاملاً يستحق التطبيق من دون تمييز في المجتمعات.

     أمّا مَن شذَّ عن الركب الإنساني وخالف الأعراف المجتمعية وخرق الشرائع الإلهية وتجاوز على القوانين الوضعية، فهذا ليس له نصيبٌ في ثقافة احترام الغير. فهذه الأخيرة المدانة، ليست سوى سمة الشذوذ عن القاعدة لدى مَن تعاطى الإرهاب وسلك طريق التمييز الطائفي والعنصري وسمح لذاته بالتوكيل حاكمًا باسم الله الخالق وباسم الدولة والمجتمع في حكمه على سواه من دون وجه حق عبر تطبيق قوانينه المتعصبة الطائفية والشاذة وفقًا لتفسيره الناقص للشرع الذي يدّعي تطبيقه وتنفيذه. هنا، تبرز نقطة هامة تفرض ذاتها في مسألة احترام الآخر، حيث يفقد مثل هذا الفرد الشاذ حدوده ويخرج عن المألوف، بل يتوجب عليه حينئذٍ الحساب والعقاب. فلا يمكن أن يستوي الذي يعرف قيمته ويمارس القدر الوافي من الاحترام للغير ولخياراتهم البشرية المشروعة مع غيره الذي يتغاضى عن كلّ أشكال التسامح والاحترام والرحمة التي غرسها الخالق في قلب ونفس كلّ إنسان. وقد توضع مثل هذه الأشكال والأصناف الشاذة ضمن خانةّ المرضى النفسيين والشواذ في المجتمع الذي يلفظهم ويستنكرهم بسبب خرقهم القواعد والأعراف الإنسانية.

    حرية الأديان من جسور التسامح والرحمة بين الناس

    من ثقافة احترام الآخر، الإقرار بالحرية الدينية أو بعدم وجودها أصلاً في الذات البشرية، كما أسلفنا. وهذه الثقافة مرتبطة تمامًا بكرامة الإنسان نفسه وبكرامة البشرية المعذّبة. ولعلّ ما صرّح به البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان بهذا الصدد خلال زيارته للمغرب، وهي دولة متديّنة بحسب الأعراف، فهو كلامٌ يثلج الصدور ويهدّئ النفوس: "إن حرية الضمير والحرية الدينية التي لا تقتصر على حرية العبادة وحسب بل يجب أن تسمح لكل فرد بالعيش بحسب قناعاته الدينية، ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بالكرامة البشرية. بهذا الروح، نحن بحاجة دومًا إلى الانتقال من مجرد التسامح إلى احترام الآخرين وتقديرهم. لأنها مسألة تتعلق باكتشاف الآخر وقبوله في خصوصية إيمانه، وأن نغتني من بعضنا البعض عبر الاختلاف، في إطار علاقة مطبوعة بحسن النوايا وبالبحث عما يمكن أن نحققه سويا. فبناء الجسور بين البشر، بهذا المفهوم، ومن وجهة نظر الحوار بين الأديان، يتطلب أن يعاش تحت راية التعايش والصداقة، بل والأخوة أيضًا".

     من هنا، يمكن أن نجد في المسيحية مثلاً، مفردات حياتية عديدة مختلفة تمامًا عن غيرها من الأديان لكونها مبنية أساسًا على ثقافة احترام الآخر ومحبته بالقدر الذي يتسع قلبه. هذه الثقافة الواسعة المجبولة بجبال شاهقة من المحبة والرحمة والتسامح التي تمنح الكرامة البشرية قدرَها وقيمتَها من خلال الأعمال لا الأقوال. والمسيحية منذ نشأتها، أثبتت أنها حياة إنسانية يومية معاشة بالمثال الطيب والشهادة. وهي لا تقبل ولا ترضى باستغلال الغير أو التعاطي بالمكر والحقد والكراهية مهما بلغت هذه في سطوتها وتجبّرها، وذلك امتثالاً لقول سيدهم المسيح: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (أنجيل متى 5: 44). وهل أسمى وأرفع من مثل هذه الوصية!

     لو عاد الإنسان لعقله ولتفعيل توازنه، سيجد حتمًا أنّ مجمل السمات الطيبة التي توصي بها جميع الأديان مثل المحبة والرحمة والتسامح، هي الأفضل من بين البوابات التي ترسّخ الروح والعقل كما من شأنها أن تبني الأوطان وتمدّ الجسور بين المجتمعات بعيدًا عن النزاعات والصراعات والأحقاد التي تدمّر عالم اليوم. وهذه ينبغي أن تكون رسالة كلّ الأديان التي تدّعي الإيمان بالله الواحد الأحد، محبّ البشر جميعًا، وخالق الكون وما فيه من بشر وحجر ونبات وماء وهواء. كما أن هذا الإله الطيّب لا يرضى بأن تُهان كرامة الإنسان ولا أن تُداس خياراتُه حينما يمشي في طريق الخير والمحبة والبساطة في الحياة وضمن وصايا السماء التي تحثّ عليها الأديان جميعًا.

     اليوم، لو سعت البشرية لتعزيز هذه الفضائل بقدر معقول من اتزان العقل والفكر والفعل، لما صارت فريسة لحروب مدمّرة للبلدان ولآلام كبيرة للبشر ولاسيّما المستضعفين والفقراء ومّن ليس لهم معين ومدافع. ولو فكّر الكارهون والحاقدون على غيرهم من البشر والمتاجرون بهم، ومنهم صانعو الأسلحة وسماسرتُها الماهرون وأدواتُها والمتاجرون بأصنافها الفتاكة، بالعذاب الذي تهيّئه لهم السماء بعد انتهاء حياتهم الفانية على الأرض استعدادًا لملاقاة ربّ الأكوان والوقوف أمام منبر الديان العادل، لتركوا جبروتهم العاتي وعاشوا بالمسوح والرماد بكاءً وعويلاً ولطمًا وندمًا. فالله العادل حينما يفتح سِفرَه في اليوم الآخر، سوف ينادي كلًّا باسمه حينما يحين أجلُه ليحاسبه على أعماله وأفعاله وليس على ماله الوفير الذي اكتنزه وما متّعَ به نفسه وروى شرهَه ونهمَه بالقتل والظلم والحقد والكراهية بلا حدود ولا ضمير. ولن يحاسبه أيضًا لكونه اعتنق هذا الدّين أو ذاك أو اتّبعَ هذا المعتقد أو ذاك، بل سيقول له الملكُ الجبّار الطيّب العادل الرحمن الرحيم:" مَا فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ." (انجيل مت 25: 40). ولنا في هذا الكلام عبر ودروس.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة