خواطر
وكتابات عامة
هل يفعلها عبد المهدي حقًا؟
لويس اقليمس
13
اذار 2019
جميل جدًّا ما طرق أسماعَ الشعب العراقي على لسان السادة الرؤساء الثلاثة في جلسة بدء الفصل التشريعي الثاني لمجلس النواب الموقر من خطب وطنية حماسية تشعر الآخر المقابل أنّ البلاد بخير وأنّ المستقبل الأفضل في طريقه للإنجاز. تحدث الجميع عن تمنيات ومشاريع تصب في خدمة الوطن والمواطن وعن ضرورة توحيد الجهود بين السلطات من اجل مكافحة الفساد الاداري والمالي وعن إصلاحات ضرورية جذرية وجدية متأخرة ينتظرها الشعب بفارغ الصبر. وفي واقع الحال تبقى التمنيات رأس مال المفلسين. فهي مجرد أضغاث أحلام لذرّ الرماد في العيون ما لم تكن هناك إرادة رادعة لكلّ أشكال الفساد والترهل والأخطاء.
قصارى القول، مجمل هذه الأحاديث والمداخلات بانت خطبًا رنانة وخطوطًا عريضة تليق بفنّ الخطابة الوطنية المثالية. فقد أُلقيتْ على عواهنها من دون تشخيص دقيق للخلل الفاضح والواضح على رؤوس الأشهاد. أو لنفترض أنها تحاشت أن تسمّي الأشياء بمسمياتها في كشف رؤوس هذه الآفة القاتلة التي طالما تحدث عنها الجميع علنًا بمناسبة وبغيرها بابتسامات عريضة وأفواه فاغرة وعيون سافرة. ربما لم يشأ المتحدثون إحراج البعض ممّن في القاعة من الذين يتوسدون المقاعد الأمامية منها أو الخلفية من الذين تحوم حولهم شبهات كبيرة بالفساد، لكنهم اعتادوا خلط الأوراق واتهام غيرهم به وبتعاطيه بلا خجل ولا ضمير ولا رحمة. إلاّ أن اللبيب لم تعد تنطلي عليه مثل هذه الألاعيب وهذه السيناريوهات التي أصبحت مكشوفة للجميع.
لو افترضنا عرضًا، أن المقصود بالاتهامات التي يسوقها القائمون على السلطة هم مافيات وعصابات اخترقت العملية السياسية من الباب والشباك وسمحت لنفسها بتعاطي الفساد وسرقة المال العام، فهل تعصى الإجراءات القانونية والعقابية التي يتمتع بسلطتها القضاءُ العراقي الذي يُوصف بأنه قضاء مستقل؟ وإذا كان القضاء حقًا مستقلاً إلى هذه الدرجة من النزاهة والعفة والوطنية، لماذا لم يبادر إلى كسر رؤوس كبيرة متورطة مشاركة في السلطة يحتفظ بملفاتها مثلما تفعل مكاتب رئاسات الوزراء المتعاقبة وهيئة النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين والرقابة المالية ودوائر أخرى في الدولة العراقية؟
ممّا لا شكّ فيه أن مسألة قلب الطاولة بهذه الشاكلة ستكون لها عواقب وخيمة على معظم شركاء العملية السياسية منذ السقوط في 2003 ولغاية الساعة. وهذا ما يفسر عدم تجرّؤ رؤساء الوزارات السابقون من نشر قوائم بالفاسدين والمفسدين الحقيقيين بحسب تهديداتهم وتصريحاتهم المتواصلة طيلة فترة تسنمهم أعلى المناصب التنفيذية في البلاد. فقد آثر هؤلاء تأجيل فتح مثل هذه الملفات السرية الفاسدة خوفًا أو تحصينًا للذات وحماية للدين والحزب والكتلة والمذهب التي ينتمون إليها. فقلب الطاولة ممكن ومتوقع في اية لحظة بين الشركاء الحقيقيين، أصدقاء الأمس وأعداء اليوم. فالمال والجاه والسلطة تبقى من المغريات القاتلات الفاتنات. لذا ليس متوقعًا في ظلّ حكومات التوافق التحاصصي القائمة أن نشهد شيئًا من هذا القبيل. فالكل "في الهوا سوا" تحميهم خيمة المصالح التي لو تقطعت أوصالُها وتقاطعت لانفرط عقدها وآلت إلى مصيرها المحتوم، و"من بعدها الطوفان". كما أنّ وجود الحامي الأكبر المتمثل بالمرجعية الدينية ووكلائها وأتباع دول لها مصالح متشابكة في البلاد هو الآخر يقف حائلاً دون تقديم مثل هذه الملفات التي لو وجدت طريقها للقضاء، فإنها ستخلط الأوراق وتكشف العورات وتنهي تأثير مرجعيات وأحزاب وكتل وتقصم ظهر شخصيات. وليس من يستطيع فعلها سوى من يرسو على مغادرة السلطة طوعًا أو قسرًا، أو يترك الأهل والبلاد معًا خوفًا على حياته وحماية لأسرته وأحبائه. فمَن تجرّأ وفعلها في غفلة من الزمن نال جزاءه ولقي مصيره المحتوم بالطريقة المأساوية التي شهدناها.
في ضوء الأحداث والوقائع، هناك مَن يعلّق آمالاً كبيرة على عهدة السيد عبد المهدي الذي يدير مركب البلاد بكثير من الرويّة والتأنّي والحيطة وربما المجاملة على حساب طموحات وآمال الشعب العراقي الذي ينتظر منه وضع الأمور في نصابها. فهل سيفعلها ويقطع دابر الفساد ويقصم ظهر الفاسدين والمفسدين في مفاصل الدولة التي شهد لها هو نفسه مؤخرًا تنامي هذه الآفة بشكل كبير وتواصل إدامتها من جهات متنفذة تقف عائقًا أمام أية مساعٍ تبحث عن حلول لمعالجتها أو إجراءات لمكافحتها؟ فالجهات المعنية المتنفذة في السلطة والتي قد تطالُها مثل هذه الإجراءات الرادعة ربما قد وضعت خطوطًا حمراء لن تمكن الجهات العدلية والقضائية من تجاوزها بفعل تحديد صلاحيات هذه الأخيرة وعدم السماح لها بتجاوزها، ما يعني أنّ جزءًا مهمًّا من صلاحياتها مسيّس. كما أنّ السارق ليس من شيمه الاعتراف بفعلته إلاّ إذا تاب واستغفر الخالق ربه واعتذر من شعبه وأهله ومواليه الذين أولوه الثقة ليكون في خدمتهم لا أن يسرقهم ويختطف منهم ومن أبنائهم فرحة التمتع بخيرات البلاد وبراحة البال والخدمات لتسهيل عيشه اليومي.
لذا لو توفرت الإرادة الصادقة والقدرة على مواجهة الخصم اللدود المتمثل بالفساد وأدواته والذي ينخر جسد البلد منذ أكثر من ستة عشر عامًا من عمر الحكومات الفاشلة المتعاقبة، فإن رؤوسًا كبيرة من الزعامات السياسية والحزبية والإدارية ستسقط مثل ألواح الدومينو بسبب وقوفها وراء استشرائه، تنفيذًا وحماية ودعمًا وتغطية. وهنا يكمن دور القضاء الذي تُعلّق عليه آمالٌ كبيرة هذه الأيام لمطالبة كلّ مَن له ملفات فساد تقديمها له من دون تردد، وبالتالي بمحاسبة كلّ مَن يمتنع عن ذلك بسبب ادّعائه بوجود مثل هذه الملفات والتهديد بكشفها في مناسبات وعبر منابر حية وتحت الطاولات حين اشتداد التقاطع في المصالح. فالقضاء وحده، هو الأول والأخير المعنيّ بمحاسبة مَن تحوم حوله الشبهات ومَن تثبت إدانته. حينها سنهلّل له ونرفع راية النصر المنجز بمرحلة جديدة من الحياة الحرة الكريمة التي تليق بالعراقيين الأصلاء اصحاب الغيرة والشهامة والعدل من سليلي الحضارات وأبناء ثورة العشرين وكلّ الأخيار الذين كانت أعينُهم وعقولُهم وضمائرهم على البلاد ومصالحها. فقد تعوّد الشعب التأديب بالعصا الغليظة التي تبث الرعب وتنشر العدل وتحقق النظام وتفرض سطوة القانون. فهذه وحدها القادرة على إعادة التوازن للمجتمع إذا رُفعت بإرادة قوية وقدرة فاعلة وغاية نبيلة تطبيقًا للقانون واحترامًا للنظام وتنفيذًا للعدل بدون تمييز ولا تحيّز ولا مجاملة. ولا مجال للحيرة حينئذٍ في كيفية معالجة هذه الآفة مادام القانون والعدل والقضاء تأخذ مجراها الطبيعي حرصًا على مصالح الوطن وخدمة للمواطن.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة