خواطر
وكتابات عامة
لويس اقليمس
20
اب 2019
حالة الاستنفار التي مانزال قائمة هذه الأيام والاستعدادات المتواصلة لمواجهة اية تطورات أمنية أو عسكرية جديدة بين المتخاصمين اللدودين، أميركا وإيران، تلقي بظلالها الكثيفة على العراق وأهله في توتر لم نشهد له منذ سنوات. ففي الوقت الذي لم يتعافى فيه البلد بعدُ، من الدمار الفكري والمادّي والاقتصادي الذي أحدثه أعتى تنظيم إرهابيّ متشدّد، وفي ضوء الصورة المزرية القائمة لعراق ما بعد الغزو الأمريكي في 2003، تتجه كلّ الأعين والعقول والأفكار بشيء فيه الكثير من الريبة والخيبة معًا نحو استغلاله ثانية وثالثة وعاشرة أرضًا للتدمير والقتل والهلاك والترهيب من قبل عدوّين لدودين يحاول كلٌّ منهما استغلال أدواته المحلية لنيل مبتغاه وفق روزنامته. فالاثنان يريدان أرضَ الرافدين مكانًا لشنّ الحرب فيها بالوكالة، فيما وكلاء العدوّين جاهزون لها بموجب الوقائع وفي ضوء حالة الاستنفار والجهوزية القائمة في بعض أطراف الوسط الميلشياوي الشيعي خاصةً، حتى لو كان العراقيون فيها حطبًا سريع الاشتعال تلبية لرغبات الأسياد من خارج الأسوار أو من الأدوات القوية التي تمثل ذراع هؤلاء الأسياد.
الساسة العراقيون اليوم جميعًا أمام امتحان عسير بالقبول بإيثار المصلحة الوطنية العليا على مصالح دول الجوار أم بالرضوخ لرغبات الأسياد ولإراداتهم الشيطانية والقبول بتوريط البلاد والعباد في حربٍ طويلة وشرسة لا تُحمد عقباها ولا يُعرف مداها ولا آثارُها ونتائجها. فالعراق لم يعد يتحمّل أكثر ممّا أصابه وابتلي به منذ عقود حينما ورّطَ نفسه في حروب دامية ظلّت مشتعلة منذ عقد الثمانينات وما تزال آثارُها شاهدة. وفي الحقيقة، ليس مَن يتحمّل مآسيها وتداعياتها وآثارَها غير الشعب المسكين البائس الذي مازالَ غارقًا في الترّهات والخرافات واتّباع الأسياد من خارج أسوار البلاد الذين يتحكمون به وكأنه قطعة شطرنجية أو تابع ذليل لولاية الفقيه الإيرانية التي تتحكم اليوم بكلّ مقدّراته وتوجّه سياساته بحسب مزاجها ومصالحها وفلسفتها الدينية المذهبية الساعية لتشييع المنطقة برمتها والتربع على عرش اللاعب الكبير فيها.
ممّا لا شكَّ فيه، أنّ ضعف الحكومة الحالية وعدم قدرتها على فرض رأي أو اتخاذ قرار وطنيّ صائب يصبّ في خدمة البلاد وأهله بتجنيب الطرفين المتصارعين شرّ حرب جديدة بالوكالة في البلاد، هو الآخر يعتبر عامل ضعف في إدارة البلاد، بسبب التيارات السياسية والطائفية والمذهبية القائمة. هذا إلى جانب تقاطع المصالح الشخصية في أوساط أغلب الكتل السياسية وزعاماتها المنتفعة الفاسدة التي ترعى مصالحها قبل مصلحة الشعب والبلاد. وهذ واضح في التشرذم القائم إزاء التحديات الجديدة التي تضع البلاد والمنطقة في طريق حرب، لا سمح الله إذا ما وقعت، ستستخدم فيها أحدث أنواع أسلحة الفتك والدمار، وهي تدقّ اليوم طبولها على قدمٍ وساق عبر ضربات أو حوادث أو أشكال من التمرّد هنا وهناك. لذا ليس على هؤلاء الساسة الذين ابتلينا بهم صاغرين، سوى التفكير بنتائج الأفعال الطائشة والاستفزازات القائمة والتصريحات النارية غير المسؤولة لبعض من الغافلين والمعتوهين والمجانين من الخانعين التابعين للجارة إيران بالسعي لجرّ الطرفين إلى حرب ضروس غير معروفة النتائج والحقائق. ولا يخفى علينا، وجود زعامات حكيمة، على قلّتهم، إلاّ أنّ ما ينضح في الوسط السياسيّ يُنذر بخطرٍ داهمٍ وكارثة جديدة، إن حصلت وقامت هذه الحرب المجنونة بالوكالة.
هناك اليوم مَن يتحدث عن سيناريوهات قائمة على قدم وساق ضمن هذه الأزمة القديمة الجديدة بين أميركا وإيران وبموجب عقوبات اقتصادية متتالية شديدة الوطأة على هذه الأخيرة لم تشهد لها دول العالم، إلاّ كوريا الشمالية. وهذه السيناريوهات تُصاغ ويُخطَّط لها في دوائر استخباراتية دولية شديدة الحنكة والخبرة. ومنها ما هو تخريبيّ يمسّ التركيبة السكانية، الديمغرافية والجغرافية لأهل العراق. ويُقصد منها إعادة تشكيل خارطة البلاد وفق كانونات مناطقية بطابع مذهبي وعرقيّ بامتياز. ويدخل ضمن هذا المخطّط مشروع إعادة إحياء تشكيل "الدولة الكردية" الذي برز مجدّدًا مؤخرًا للواجهة في بعض تصريحات المعنيين بالأمر في وسائل الإعلام والتفاعل الاجتماعي. فهذا المشروع القديم الذي حاولت أطرافٌ عديدة تمريرَه ولم يتحقق لأسباب وأعذار مؤجلة، ستُتاح له فرصة جديدة مؤاتية قابلة التحقيق فيما لو اختلطت الأوراق وسادت الفوضى من جديد، ممّا سيتيح الفرصة أيضًا لأكراد إيران وسوريا بالانضمام إليه أو تقليد خطى جيرانهم في العراق لإعلان طموحاتهم بتشكيل دويلاتهم وفق المعطيات الجديدة على الأرض بتشجيع مباشر وغير مباشر من الدول الساندة لمثل هذه الطموحات بحجج ولأسباب تخصّ كلَّ طرف. هذا إلى جانب تتويج طموحات أطراف سنّية بتشكيل إقليمهم الخاصّ بمناطقهم بهدف تخفيف حدّة الاصطدام بين الأطراف السياسية الداخلة في اللعبة والمشاركة في الحكومة. ومجمل هذه السيناريوهات يعدّها البعض من المحللين والمتابعين جزءً من لعبة كبرى لا تخلو من ورطة محتملة بين الطامعين ببلاد الرافدين واللاعبين الكبار الذين وضعوا أيديهم على العراق ومقدّراته من أجل تقاسم المغانم عبر أدوات كلّ منهم وتوزيع الأدوار بينهم.
صحيحٌ أن العراق قد سُمح له أخيرًا أن يتعافى ممّا لحق به طيلة سنوات الحكم الشيعي القائم منذ 2003. ولكن الدلائل تشير أيضًا إلى أنّ مثل هذا السناريو لا بدّ أن يمرّ عبر تفاهمات الأضداد الأعداء، "الأصدقاء" في النهاية في التنعم بالمكاسب التي يحصل عليها كلّ فريق متصارع. فمن الواضح أنّ مسألة تعافي البلاد لا يمكن تمريرُها من دون صفقات بين الفرقاء المتخاصمين على كعكة المصالح، وغالبًا ما تكون مريبة وتجري من تحت الكواليس. ومن هذه المفردات المريبة تفاعس الحكومة في محاسبة الفاسدين الذين ازدادوا فسادًا وقوة وجبروتًا بسبب تعدد تسميات الجهات التي تدّعي محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين، فيما هؤلاء ليسوا ببعيد عن السلطة وشركائها.وهذا يدخل أيضًا ضمن فلسفة إدامة مشروع مصالح الدول الكبرى المؤثرة على الساحة التي تتحدث بلغات مريبة تاركة المجاميع الفاسدة تتسيّد مشهد السلطة من دون مساندة الشرفاء في الوطن بالسماح لهم بمحاسبة أدوات الفساد ومَن يقف وراء هذا الكمّ الهائل منه. وقد يدخل من ضمنه أيضًا، طريقة إدامة المشاركة التحاصصية الطائفية التي سادت الحكومات المتعاقبة للمكوّنات بدلاً من سيادة دور المؤسسات التي تبني الدولة وتدير شؤونها وفق الدستور والقوانين الوضعية. وبهذا تبقى البلاد ضعيفة ومحكومة كي تدور في فلك غيرها وغير قادرة تمامًا على الاستقلال بذاتها والتحكم بإرادتها المسلوبة غصبًا. ومن نتائج كل هذا وذاك، أن ملّت نداءات الشرفاء وبحّت أصوات الأخيار وأصابت الخيبة جموع ما تبقى من الوطنيين والمثقفين والأخيار في البلاد ولم يعد للقلم الصارخ ولا للصورة المدانة ولا لسوء الأحوال المجتمعية أية مفاعيل وسط سطوة الميليشيات وتنامي قدراتها المالية والعسكرية والعقارية بدعم من شركاء في السلطات القائمة.
لذا في اعتقادي أن الأزمة الحالية التي دامت وقد تطول سنوات، بين أميركا والجارة إيران والتوتر الشديد الذي تتصاعد حدتُه بين فترة وأخرى، ليست متعلقة بقرار الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب المصمّمة على إلغاء الاتفاق النووي أو تعديل عددٍ من بنوده الأساسية، بقدر ما هي صراعٌ آخر جديد للاستحواذ على ثروات المنطقة ووضع حدود لتوسع النظام الإيراني ونشر تشيّعه في دول الشرق أوسطية بسببٍ من تفاقم قدراته العسكرية وخروجها عن السيطرة. فقد بدا المشهد السياسي مربكًا وغير مطمئن بعد سطوة نظام ولاية الفقيه على مقاليد الأمور في كلّ من سوريا والعراق ولبنان واليمن وربما دول خليجية أخرى مرشحة في الأفق، وما نجم عن هذا السطو السياسي والعسكري والمذهبي من آثار على سائر دول المنطقة التي بدأت تخشى على مستقبلها ومصير أنظمتها. وهذا يُعدّ في نظر النظام العالمي وبعض دول العالم المحبة للسلام ومنها دول المنطقة، قدرًا مثيرًا للريبة وعدم استقرار للنظام العالمي وتهديدًا للسلم والأمن الدوليين، سيّما وأنّ أكثر من ثلث تجهيزات العالم وتجارته يمرّ عبر ممرات في هذه المنطقة. فيما تسيطر إيران على واحد من أهمّ خطوط الملاحة البحرية في مضيق هرمز الاستراتيجي، وهذا كفيلٌ بخلق هواجس متعددة الأسباب والنتائج. وهذا ما حصل فعلاً خلال الأسابيع المنصرمة. كما تنظر دول العالم بجدّ للتهديدات الإيرانية بإغلاقه بقدرٍ كبير من التحدّي للإرادة الدولية ومصالح الدول في المنطقة والعالم من دون استثناء ما دفع دولاً سيادية للتفكير بتشكيل تحالف لحماية مصالحها في هذه المنطقة الساخنة التي تطفو على بارود قابل للتفجير في أية لحظة. لذا فإنَّ أيَّ تصعيد سواءً من قبل الطرفين المعنيّين أو من اية جهة أخرى في حدود البلدان المحيطة بالجارة إيران، سيكون لها عواقب وخيمة، سيّما وأنّ الماكنة الحربية جاهزة وعلى أهبة الاستعداد حال اندلاع الشرارة الأولى التي ستقصم ظهور الجميع، ولاسيّما مَن في المنطقة الذين يؤدون الأدوار بالوكالة صاغرين.
ما نحتاجه تمامًا، ترجيح الخيار الحكيم الذي يهدّئ النفوس ويشرح القلوب ويضع مصلحة جميع البلدان في المنطقة والعالم في أعلى درجات سلّم السلام. فالحوار الهادئ وحده على طاولة النقاش المفتوح وبصدر رحب هو الكفيل بإيجاد الحلول المقبولة بين الأطراف المعنية المتخاصمة عبر القبول بالامتثال لرغبة دول العالم بالسلام أولاً، وترك سباق التسلّح الذي نهجته الجارة إيران خصوصًا بعد حربها الضروس مع العراق ثانيًا، وترك النهج التوسعي في تشييع المنطقة على حساب غيرها من الشعوب والمذاهب ثالثًا. وأيّا كان ما نحن مقبلون عليه، فنحن في ورطة ونخشى من اللعبة التي تدور دوائرُها علينا هذه الأيام ، فتحرق الأخضر واليابس مرة أخرى.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة