اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

 مفهوم الشرّ في المقياس البشري

 أسبابُه، أدواتُه وشكلُه

لويس اقليمس

 

   28 نيسان 2019

 

            موضوعة الشرّ في صفوف البشرية لها بداية وليست لها نهاية. فقد تناولتها الألسن وسالت بسببها أحبارٌ ملأت كتبًا وأوراقًا ومجلّداتٍ، وتطرقت إليها أديانٌ وفلاسفة ووعّاظ للتعريف به وبآثاره السلبية على الأفراد والمجتمعات على السواء. بل غدا مفهوم الشر من أسئلة الحياة المعقدة. فالشرّ منذ الأزل في تطوّر مذهل، لم ولن تكبحه كلُّ المحاذير والنصح وأشكال التوعية والتربية. كما خبرته الأمم والشعوب، أفرادًا ومجتمعاتٍ بأنواعٍ وأشكالٍ مختلفة تأتيها بالتعاسة والأذى، سواءً عبر أدوات وظواهر طبيعية ليس للبشر فيها يدٌ، أو أخرى تقترفها أيادي بشرية لأسباب معلومة وأخرى تبقى مجهولة، كالحروب وأدوات الدمار وأشكال الفساد القائمة. فالإرهاب والعنف المنتشران في عالمنا المعاصر، اليوم مثلاً، يُعدُّان من أخطر أشكال الشرّ ومن أدواته الضاربة، حالُهما حال مفهوم القتل والتخريب والتدمير وأنواع السلوكيات الأخرى التي توصف بكونها من نمط كلّ ما هو غير أخلاقي سائد في المجتمعات السوية. وقد اتخذ الشرّ أشكالاً ووسائل تفنّنَ بها أصحابُه ومنفذوه والمخططون له سواءً بسواء. فهل يخضع مفهومُه لثقافة الدين والمجتمع ونوع التربية التي نما عليها الفرد "الشرّير" ومن ثمّ على غرائزه ورغباته السلبية الكامنة التي شبّ وشابَ عليها في محيط عائلته ومجتمعه وبلده؟

   الشرّ في المفهوم الفلسفي للمجتمعات

     في رأي بعض أصحاب الفكر واللاّهوت والفلسفات، يكمن الشّر في طبيعة النفس البشرية وفي إرادته الضعيفة وفي كنه ذاته التي لا تقوى على مقاومة مكايدِه. ومَن يمارس الشرّ يصبح عبدًا له، من حيث يعلم أو لا يعلم. وهو لدى البعض منهم، ذات مفهوم جدليّ نسبي قد يخضع لطبيعة المجتمعات والظروف التي تعيشها هذه الأخيرة في سياق عصور تختلف في الفكر والرؤية للأشياء والأحداث وكذا في التطبيق اليومي للحياة وبحسب الطبيعة البشرية عينها. أي أنّ الشرّ ومفهومُه، هو كلّ ما يضادّ الخير ولا ينفع البشر ممّا يُعدُّ سلبيًا في سيرة الأمم والشعوب الطبيعية وفي سلوكها اليومي. وقد نرى تصنيفات عديدة للشرّ وفق رأي بعض الفلاسفة، منها ما هو طبيعي وأخلاقي وميتافيزيقي أي ماورائي، ومنها ما يُنظر إليه بكونه دافعًا شكليًا نابعًا عن الجهل وعدم المعرفة بفاعلية تأثيره، وخروجًا عن سلوك الطبيعة البشرية، أو فيه شيءٌ ممّا يعزّز النزعة الفطرية لإلحاق الأذى لدى الإنسان غير السويّ.

      في ضوء التباين في تقدير مفهوم الشرّ، يكون الاختلاف أيضًا في النظرة إليه وفي تفسيره من أوجه مختلفة والحكم على نوعه بحسب تقاطع الرؤية والنظرة من فكرٍ لآخر ومن عصرٍ لآخر من حيث السلبية والإيجابية. في المجتمع الهندي مثلاً، لا وجود لمفهوم الشرّ. بل يدور الحديث عن سمات الألم والمعاناة التي ترافق حياة البشر على الأرض. أمّا من وجهة نظر أتباع بوذا، فهناك حديث عن توازن قائم بين طاقة سلبية وأخرى إيجابية كامنة في باطن الإنسان. فهو في نظرهم يشكل جزءًا من العالم ويجب ببساطة توجيهه عبر إماتة كلّ أنواع الرغبات التي يمكن أن تجلب معاناة ومشاكل وآلام للإنسان الذي لا ينجح في تحقيقها. فيما يختلف مفهوم الغرب الذي يرى أن معاناة الإنسان تأتي بسبب المشاكل التي تلفه من كلّ حدب وصوب، ومنها ما يمكن أن يُعزى إلى أساس اجتماعي بحت أو اقتصادي طارئ أو سياسيّ مستفحل. وللفلاسفة نظرتُهم أيضًا. فالمدرسة الفلسفية لسبينوزا مثلاً، تذهب في تصوّرها بكون " كل إنسان يسمّي خيراً ما هو ملائم له هو، ويسمّي شراً ما لا يسرّه". أمّا توما الأكويني، ويتفق معه في الرأي العديدُ من مفكري الكنيسة الكبار منهم القديس أغسطينوس، فهو يرى فيه "عدمًا وسلبًا للخير"، أي بمعنى آخر هو "غيابٌ للخير". ولكن يبقى من المنصف القول، إنّ في النفس البشرية صراعًا دائمًا بين الشرّ والخير، تمامًا كما تراه المانوية، ومنه استعداد الإنسان لفعل أيّ منهما بحسب الظرف، زمانًا ومكانًا وحكمًا على الحدث والحادث. فالمجتمع لم يأتي بشروره من لا شيء، بل دخلت عليه بفعل الإنسان وأعماله ورغباته وتهوّره وكبريائه، أي ببساطة بفعل إرادته. أليست "النفس أمّارة بالسوء"؟

  الشرّ من وجهة نظر الأديان

     بالتوازي، تختلف الرؤية حول مفهوم الشرّ في الأديان أيضًا. فالصراع بين قوى الخير والشرّ قائمٌ مادامت "الأنا والأنتَ" تتنافسان بسبب قوانين ثنائية الجسد والروح ومتطلباتهما. وهذا ما يشير إليه بولس الرسول بإشارته إلى الصراع القائم بين الاثنين. ومن نظرته الفكرية البعيدة الرؤية إلى هذه الثنائية تنطلق أخلاق المسيحية في تعاليمها وأدبياتها باتجاه تعزيز كلّ ما هو خير وحسنٌ للكائن البشري، وبدعوتها في أبجدياتها للابتعاد عن الشرّ وأدواته وعناصره وأشكاله. وتشاطرها في هذه الرؤية مع الاختلاف في جزئيات منها، أديانٌ توحيدية وغير توحيدية أخرى، انطلاقًا من أنّ الشرّ قاتل وزائل، ولا يبقى للذكرى الطيبة غيرُ ما هو صالح وجيّد في نظر البشرية. فالأشرار هم المفسدون في الأرض وعليهم نقمة السماء ولعنة الله الخالق، وأمّا الصالحون فَلَهُم الجزاء الطيّب من ربّ الأكوان والدعاء من عباده المؤمنين. وفي كلتا الحالتين، يقع على الإنسان العاقل بحسب النظرة التوحيدية للأديان الموحدة الثلاثة، أن يميّز بين الشرّ والخير. ولعلّ ما توصي به الوصايا العشر في التعاليم اليهودية والتي تتمسك بها المسيحية كثيرًا وجوهريًا، وأقلَّ منها في الإسلام، هي خير مثالٍ للدعوة للأعمال الصالحة وللتحذير والنهي عن أضدادها ممّا يوقع في شراك الشيطان وإبليس الخنّاس الوسواس. وهذا من باب التعريف والتوعية والتربية على الخُلُق الحميدة وترك أبواب المعصية وكلّ الأدوات المساعدة التي من شأنها تدمير النفس والجسد معًا، ومنها تدمير المجتمعات وإفساد الأخلاق العامة.

     لدى الحكم على أيّ فعلٍ شرّير إذن، لا بدّ من توفر شرط المعرفة بفعل الشرّ المرتكب. أي أنّ عنصري الوعي والمعرفة ضروريّان لفرز أعمال الشرّ عن الخير بفضل نوافذ التربية وأدوات التوعية التي تقودها فعاليات دينية نابعة من حرص الأديان على تقويم المجتمعات ونشر قيم السلم الأهلي وبذور الخير والرحمة والمحبة والصفاء بين الناس. هنا تقع المسؤولية الكبرى على العقل الناضج للكائن البشري والذي يبقى الشفيع الأهمّ في التمييز والفرز بين ما هو خير وصالح وما هو عكسُه، حيث تقوده هذه المعرفة إلى الوقاية من الشرّ وأعوانه وأدواته المتنوعة التي كثرت وانتشرت في عالم اليوم عبر وسائل عديدة بعضُها تتسلّل وهي بثياب الحملان الخاطفة. وهناك المعرفة السلبية بالشرّ وأدواته، حين يوغل الإنسان في ممارسة أنواع منه بالرغم من معرفته بالخطأ الذي يمثله عليه وعلى غيره. وهذا من باب الضعف في التحكم بالغرائز الباطنية الدفينة التي يحرص الإنسان الضعيف على ممارستها بدوافع خاصة تخضع للحالة القائمة لدى أمثال مثل هذا الشخص، فتقودُه نحو السقوط في الإثم أي في ممارسة الشرّ، أيّ كان شكلُه ونوعُه.

   الشرّ، التحدّي الأكبر للفلاسفة واللاهوتيين

    تتزاحم الأسئلة حول كثرة أنواع الشرّ في العالم. ولكن شيئًا كبيرًا منها يقع على عاتق الطبيعة، ما يشكّل تحديًا صعبًا بحدّ ذاته في تفسير ماهيّته وأسبابه. في العالم تكثر الحروب والزلازل والكوارث الطبيعية وأنواع القتل والإبادة والاستغلال والقهر التي لا تبدر على بالِ أحد. ليست هذه جديدة، بل إنّ ما يمنحها مزيدًا من القلق البشري والتساؤل الفكري، تطوّرُ أدواتها وأنواعها وأشكالها وتحدياتها للبشرية بالرغم من تطّور وسائل هذه الأخيرة في مقارعتها وأساليب التعامل معها. فهذه جميعًا، ستبقى لغزًا ما عاشت البشرية ومهما تطورت وتفاعلت مع موجباتها وسلبياتها جميعًا، ولن يجد الفلاسفة واللاهوتيون تفسيرًا واحدًا موحدًا يمكن أن يقتنع به الفكر البشري مهما بلغ من تطور وعصرنة وحضارة وتفوّق علميّ. وما تشهده مناطق ساخنة من العالم في هذه الأيام، وما مرّت به العديد من بلدان العالم في سابق السنين والأيام تشكل مشهدًا مؤلمًا للعالم المتحضّر.

     من وجهة نظر أصحاب الفلسفة واللاهوت، هناك ما يُعزى إلى الشرّ الأخلاقي في وصف أنواع الجرائم والفساد والقتل وارتكاب الفواحش وأشكال الأضرار التي يمكن أن تلحقها اليد البشرية ضدّ نظيرتها في الخلق. وهناك الشرّ الجسديّ الذي يتعرّض له الكائن البشري في أعضاء جسمه وممتلكاته بقصد أو بغير قصد سواءً بفعل أبناء جلدته البشر أو بسبب عناصر الطبيعة من حرائق وفيضانات وزلازل وأعاصير. وهذه الأخيرة، لا يمكن التكهّن بحدوثها في الكثير من الأحيان، كما حصل بالأمس القريب بسبب أعاصير التسونامي التي ضربت أندونيسيا وقبلها بعض الولايات الأمريكية المتحدة وغيرها من بلدان العالم. وهناك ما يلحق بحياة الإنسان بسبب التقادم في السنّ أو الأمراض لاسيّما تلك التي تستعصي معالجتُها على الطب البشري وأدواته.

     نظرة الفلاسفة واللاهوتيين إزاء فعل الشرّ وأنواعه تصطدم بعنصرين مختلفين: صانعُ الشرّ ومتحمِّلُه. ولكنّ ما يحيّرهم أكثر، أنّ صانع الشر ومرتكبَه لا يبالي بالأذى الذي يمكن أن يلحقه فعلُه على الطرف المقابل. فيما يمكن أن يبدي الشخص الواقع عليه نوعُ الشر المرتكَب ضدّه، شيئًا من الصبر والتحمّل بالرغم من قسوة الفعل وتأثيره عليه وعلى حياته وحياة مَن يعيش وسطهم. وهذا النوع من البشر، قد يبدو خارجًا عن المألوف البشري، ولكنه قائم في التاريخ. ومثالنا على هذا، ما وقع من ألم وشرور واذى لصفيّ الله أيوب الذي ابتلاه ربُّه بحيث انعزل عن المجتمع، بموجب إرادة ربّانية فائقة عن الطبيعة. ولنا من هذه الأمثلة في العهد القديم (التوراة) وما يسردُه العهد الجديد (الإنجيل) الكثير من نماذج المرضى والمصابين بعاهات من الذين كانوا يضطرون للعيش خارج المجتمعات أي خارج أسوار المدن الآهلة، بحجة أنَّ ابتلاءَهم بتلك الأمراض كانت تشكل عقابًا إلهيًا لهم من السماء. وهذا مفهوم خاطئ ناقشه الفلاسفة واللاهوتيون ولم يجدوا إجابة شافية لحصول تلك الأعمال لأشخاصٍ محدودين من بشر دون غيرهم. ففي الوقت الذي وجد فيه البعض منهم تجربةً أو اختبارًا من السماء أي من الله الخالق بحق خليقته، رأى البعض الآخر أنّ ذلك يشكّل ظلمًا لفئة بشرية دون أخرى وتعدّيًا أخلاقيًا بحق إنسان طبيعيّ بريء. فما لا يمكن قبولُه من وجهة نظر إنسانية سويّة، أن يرى البعض في الألم الذي يرمز إلى الشرّ عقوبة للفرد المبتلى به خارج خياره وإرادته.

    في منظارنا البشري اليوم، هل يمكن اعتبار الشرّ عقوبة أو فضيحة أو قصاصًا للإنسان المبتلى به؟ تبقى الإجابة على هذا السؤال أكثر جدلية ونسبية وقابلة للنقاش والتفسير والتأويل بحسب طبيعة الثقافة والرؤية الفكرية والأرضية الدينية لصاحب الرأي والفكر.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة