خواطر
وكتابات عامة
حين يكون التخلّف صفة مجتمع!
لويس اقليمس
15
ايار 2019
يكره الله الماكرين في العمل والوظيفة والمنافقين في التداول والتعامل وسرّاق المال العام والخاصّ والأدعياء في الدّين والتديّن، وكذا كلّ مَن يقترف آثامًا حرّمتها السماء وألزمت بتجنبها لوائحُ الشعوب والأمم المتحضّرة بقوانين ولوائح وضعية خدمة للمجتمع وساكني الأرض. هكذا الأوطان الحرّة المستقلّة والأمم المتحضّرة أيضًا، فهي لا ترضى عن كلّ مَن خرج عن الركب الاجتماعي في مجتمعه وبلده أو مَن شقَّ له طريقًا ناشزًا خارجًا عن الذوق العام ومليئًا بالأشواك والعوسج من الموروثات البالية التي ألزمتها بِسِمَةِ الخرافات والعادات البالية في شيوعها. والحجج غير المبرّرة لمثل هذه الفئة المتخلّفة لا تسمح لها بالنأي عن أيِّ سعي أو رغبة بتطوير الذات وتهذيب السلوك والآداب العامة بحجة الحفاظ على الدين والمذهب والموروثات البالية. فالكثير من هذه الموروثات والتقاليد والعادات تدخل اليوم في باب الترّهات والتخاريف. وهي في مجملها تبدو ممارسات غير مقبولة عن شيء من التخلّف في النفس البشرية. فلو كانت بدواعي الجهل بحقائقها، فتلك مصيبة. أمّا إنْ حصلت عن سابق إصرار أو بخنوع قطيع يُساق كالشاة إلى الذبح من دون تفكير أو وعيٍ فتلك مصيبة أعظم! وهذه حالُنا في عراق اليوم!
أدوات التخلّف من سمات المرحلة
هناك الكثير من الأدوات السيئة والسلوكيات الشاذة غير المتحضّرة التي أصابت مجتمعنا العراقي الذي تراجعت آدابُه وتخلّفت أخلاقياتُه وعاد بنا وضعُه الاجتماعي والعلمي والاقتصادي والتربوي والعلمي والثقافي مئات السنين إلى الوراء بعد التغيير الدراماتيكي سيّء الصيت في 2003. فقد دخلت الكثير من آفات التخلّف المرير بيوتَنا واكتسحت الممارساتُ الدخيلة شوارعَنا وتلوثت مدارسُنا ومؤسساتنا الحكومية والمجتمعية بأيدي دخلاء ولصوص على البلد والمجتمع عندما أتاح الغازي الأمريكي لهم ولأتباعهم أن يغرفوا ما شاءوا من نعمه وثرواته من دون رحمة ولا وازع من ضمير، فأصبحت صفة لاصقة بالمجتمع.
وهكذا تحوّل العراق على أيدي هؤلاء السادة الجدد، حديثي النعمة وساسة الصدفة من بلد للحضارة والرحمة والتقدّم إلى اسطبل لأشباه الرعاع والمتخلّفين يأتمرون بأمر أسياد لا يستحق معظمُهم مثل هذه الصفة أو جهلة في أغلبهم من أصحاب عمامات ارتدوها زورًا وبهتانًا واستغلّوها لحرق الأخضر واليابس فكرًا وعلمًا وتربية وتراثًا وحضارة وتطورًا بحجج وتبريرات دينية ومذهبية لا ترقى للحياة الآدمية. وإلاّ، كيف يمكن أن توصف فئاتٌ منغلقة موغلة في سواد الفكر ورافضة لكلّ صور الحداثة والتطور إسكاتَ أصوات الحقّ الحرّة المنفتحة المنادية بضرورة تغيير المنهج في الحياة والفكر والتربية والتعليم والاقتصاد، وساعية لانتشال البلاد من آنية منغلقة ومغلّفة بحجاب الظلم والقهر إلى رحاب الألوان الزاهية التي تزهو بها الدول المتطورة تماشيًا مع تقدم العصر وتطور المجتمعات والأمم في جميع ميادين الحياة من دون أن يفقد مجتمعها أصالتَه وأصول حضارته؟
لا يكفي اليوم أن تصعد الأصواتُ متفاخرةً بحضارات سادت ثمّ بادت. فالأصل فيما نحن عليه وفيما نستطيع فعله وتقديمه من أشياء متميزة للمجتمع والناس والدولة كي نسمو بالبلاد وبالشعب إلى ما فوق ونحظى بتقدير العالم والشعوب في أسلوب حياتنا وفي تطوير بنيتنا وتغيير فكرنا وأفعالنا نحو الأحسن والأفضل. وما أكثر أشكال التخلّف التي تحيط مجتمعنا العراقي، ونحن أدرى بها. لكنّ الكثيرين يتغاضون أو يخشون أو يخافون من البوح والاعتراف بها أو نشرها أو التحدث عنها لأسباب أمنية ولغاية تحقيق مصالح ذاتية خشية من فقدان امتيازات أو خوفًا من التعرّض لأذى. وإلاّ كيف يمكن إعطاء وصف دقيق لمظاهر التخلّف القائمة في بلادنا؟
دعونا نستقرئ الرأي الصائب في هذه الأمثلة من أدوات التخلّف عن الشعوب، ليس المتمدنة منها فحسب، بل القائمة في دول الجوار أيضًا لنتعرّف على ماهية التخلّف وأشكاله وأدواته. فعندما تفتقر مدننا وقرانا إلى مدارس نموذجية تتيح لأطفالنا الجلوسَ المريح على مصطبات الدراسة كما هي الحال في مدارس البلدان المتقدمة التي تحترم العلم والعلماء، فهذا شيءٌ من التخلّف في بنيتنا التحتية. وعندما نفتقد إلى معلمين أوفياء ونجباء يكثرون من العطاء والبذل لصالح قيام أجيال متعلمة تساهم في بناء البلاد والعباد، فهذا من الجهل والتخلّف أيضًا. وعندما يُجيَّرُ التعليم والمنهج التربوي الوطني لصالح فئة أو مذهب ويُستعاض به عن احتفالية رفع العلم الوطني بلطمية سوداء في رحاب المدرسة، أليسَ هذا أمرًا مقززًا يثير السخرية والاشمئزاز والأسف في تخلّفه؟ وعندما نمنع الاختلاط في المدارس والمؤسسات التعليمية أو نسعى لمنع ذلك في مواقع العمل بحجج واهية، أليس في هذا شيءٌ صارخ من التخلّف في الفكر والحياة؟ وعندما تصرّ جهات دينية ومذهبية "دمج الموروث الفقهي بالمنتج الاجتماعي" كي نرى في الشوارع والطرقات ومواقع العمل نساءً وفتيات بعمر الزهور وكأنّهنّ كتل سوداء متحركة، ألا يشكل هذا أدواتٍ صارخة للتخلّف، مع احترامنا لما لا يتعارض مع الحشمة والتبرّج المعقول كلّ في محيطه؟ وعندما لا يحصل المواطن على حاجته من الطاقة ومن وسائل الاتصال المتطورة عالميًا، فهذا تخلّفٌ في واقع الحال. وعندما تُرمى النفايات والقاذورات من فتحات السيارات وهي سائرة في الشوارع أو في الأماكن غير المخصصة لها، فهذا عينُ التخلّف والنفور. وعندما لا يراعي المكلَّف بواجب حكومي طلبات الناس أو يعيق المسؤول تمشية معاملات المواطنين إلاّ بتعاطي الرشوة، فهذا تخلّف أيضًا. وعندما لا يمتثل سائق مركبة أو راكب دراجة لإشارة رجل المرور أو للإشارة الالكترونية في الشارع ويستخدم الرعونة والعنف مع رجال الشرطة الساهرين على راحته، اليس هذا تخلّفًا عن الركب المجتمعي؟ وعندما يستغلّ المسؤول في الدولة منصبَه وموقعه من أجل سرقة المال العام الموكل إليه حفظُه وصيانتُه وتغاضيه عن أشكال كثيرة وعديدة من الفساد تحت أمرته وأمام مرأى من ناظريه، أليس في هذا شيءٌ من التخلّف عن الأمم والدول المتحضّرة التي تحترم المنصب الذي مصدرُه الشعب؟ وعندما تتسيّد سمة العائلة والعشيرة والدين والمذهب المشهدَ السياسي في البلاد وتعلو هذه على سمة الوطن والعدالة والمساواة، اليس في هذا ما يمكن عدّهُ تخلّفًا؟ وعندما يتحول البلد إلى قطيع استهلاكي لمنتجات أجنبية عبر التأسيس لثقافة المولات الغريبة العجيبة الجارية وتُركن أدوات الإنتاج الوطني قهرًا متعمَّدًا لإعاقة الصناعة الوطنية، أليس في هذا قتلاً متعمَّدًا للاقتصاد الوطني، مردُّه التخلّف في إدارة البلاد وفي التخطيط الوطني؟ وعندما تتسع مساحات العشوائيات ويتنامى الاعتداء على عقارات الدولة والغير وتُخرق قوانين التخطيط العمراني للمدن والقصبات تحت مرأى الجهات المعنية، أليس في هذا تخريب للبنى الأساسية للبلد وللعمارة الوطنية بسبب تخلّف الدوائر المعنية أو عدم قدرتها على معالجة المشكلة المستديمة؟ وعندما يُزاح الرب الخالق جانبًا وتُستبدل عبادته بعبادة شخص مخلوق، نبيًا كان أم إمامًا أم مرجعًا أو حاكمًا، أليس في هذا قمّة الكفر والنفاق والرياء التي يغلّفها التخلّف؟ وعندما تُنهب ثروات البلد عبر تجيير الدستور وسنّ القوانين لصالح فئة ومذهب وشخوص نافذة وتُصرف لها أموالٌ بالهبل ويُترك الشعب المسكين فاغرًا فاه لتلقّي لقمة العيش بصعوبة والبحث عن عمل يجد فيه خبزتَه ليعيل أسرتَه فيما لا تستطيع الحكومة أو لا تسعى لمحاسبة الفاسدين وسرّاق المال العام، أليس هذا قمّة الظلم النابعة من التخلّف في إدارة شؤون البلاد؟
...
ووووو وأشكالٌ أخرى كثيرة ولا تُعدّ من الآهات والويلات والحسرات بشأن ما يجري في بلد الأربعين حرامي الذين توالدوا وتكاثروا كالأميبا الزحارية بحيث أصبح الفسادُ قاعدة والتخلّف أمرًا واقعًا، فيما النزاهة أضحت شذوذًا والنزيه مضطهَدًا في زمن القهر والظلم والفوضى التي تلت حقبة الغزو الغاشم بحجج واهية وخيالية.
لو عاد الحسين!
قد يكون التخلّف بأشكال وطرق شتى، وليس بالضرورة أن يكون متعمّدًا في بعض الأحيان. فالوراثة، أسريةً كانت أم مجتمعية، لها تأثيرها في إشاعة أشكال من الموروث المتخلّف عبر أجيالٍ لم ترقى إلى حياة سوية قادرة على تمييز الصائب المقبول من الشاذّ المنفر. وهذا يمكن أن يدخل في باب التخلّف الفكري والعقليّ بسبب الذهنية المجتمعية السائدة في منطقة أو مدينة أو قرية نائية عن أيّ محيط متمدّن قابل للتطوّر والتغيير. كما تختلف نظرة المجتمع إلى طبيعة المظاهر والصور وأشكال التخلّف السائدة. فهناك مَن يتحرّز على الكثير من مثل هذه المظاهر التي يجدها منفرة وغير مقبولة لكونها لا تليق بعصر العولمة والتطور الذي نحن فيه اليوم. وبعكسه، تجد فئة ضالّة تأبى الانخراط في متواليات أيّ تطور وتعدّه خروجًا عن الدين والشرع وخالقه، والأخير بريء من مثل هذه الأفكار الخبيثة المتخلّفة براءة الذئب من دم يوسف. ولكن يبقى التخلّف سمة سائدة في مجتمعات كثرة تبعًا لطبيعة المجتمعات
عجيبٌ أمر العراقيين والعراقيات هذه الأيام. عندما تخرج امرأة بكلام واقعيّ منتقدة مظاهر مدانة في مجتمعها، تتكالبُ عليها ألسنة طويلة لا تعرف الخجل وترتفع رؤوس سوداء غارقة في أشكال التخلّف لتقوم بتجريمها وتحريمها والتحريض على محاسبتها بسبب أمانتها الوطنية بضرورة إصلاح ما تمّ إفسادُه بحق الوطن والشعب من قبل فئاتٍ غارقة في الخرافات والتخريفات التي يصلح أن يُطلق عليها بالمتخلفة حقًا. فالنائبة هيفاء الأمين التي نطقت بكلمة حق، ومثيلاتُها من الماجدات العراقيات من ذوات الأصوات الصادحة والجريئة والفاعلة يستحققْنَ أن يصفنَ بالأيقونات لأخواتهنّ الماجدات من الوطنيات الّلائي يفتخرنَ بالانتماء للوطن ومراجعه وليس بالخنوع لغيره وللدخيل على البلاد. هيفاء الأمين مثل زميلتها هناء أدور ومَن على شاكلتهما من النساء الغيورات الفاعلات في المجتمع وفي المنظمات غير الحكومية الصادقة في عملها، تستحقان لقب الماجدة العراقية لتصدّيهما لكلّ أشكال التخلّف ولمناداتهما في المنابر والمناسبات بالإصلاح الضروري في مرافق البلاد المختلفة. وبهما وبغيرهما من كلّ الوطنيين الأحرار، يمكن إعادة بناء العراق على أسس وطنية مستقلّة بالوسائل المتاحة وبالضغط على الجهات الرسمية وغير الحكومية من أجل إبعاد الفئات المسببة لهذ الآفة من تولّي أية مسؤوليات في المجتمع والدولة، كي نشهد زهوًا جديدًا لبلاد الرافدين وصورة مشرقة أخرى لمواطنيه عندما يتعاطون إيجابيًا مع التغيير الضروري في الفكر والعمل والأداء وفي عكس روح الحضارة التي تأسست عليها البلاد منذ آلاف السنين. فلا يكفي البكاء على ماضٍ درس، وحضارة أفلتْ، وشخوص ماتوا، وشواخص اندرست بفعل الزمن. بل المطلوب الإيمانُ بنهضة جديدة قادمة من الداخل وانقلابٍ في المفاهيم في كلّ شيء، ولاسيّما بالانسلاخ عن شرنقة الماضي المتخلّف الذي تسببت به أجندات الأحزاب الإسلامية التي أثبتت فشلَها ومشاركتها في الفساد الذي استشرى في البلاد منذ 2003. نقطة رأس سطر!
واليوم لو عاد الحسين، شهيدُ كربلاء والناطق باسم الحق، والعابدُ لله الواحد الأحد، والناشد الإصلاح في بلد المآسي والثورات والانقلابات والكفر بنعم البلاد، بلد "النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق" كما وصفه الحجاج يومًا، فإنّ الإمام المغدور سيقيم الثورة على ما يجري من مخالفات ومفاسد وخروقات في شبه الدولة العراقية التي خرجت عن المعايير الدولية واتسمت بسمة الفساد في كلّ مفاصلها. بل إنّه سيستلُّ سيفه العادل ويحاسب ويصفّي التجار واللصوص والفاسدين الذين توالدوا وتكاثروا وتفرعنوا ولم يتركوا للفضيلة مجالاً ولا للأخلاق سبيلاً ولا لإصلاح الذات والغير نافذة. هكذا فعلها المسيح أيضًا، عندما دخل الهيكل فوجده يعجّ بالباعة والتجار والصيارفة. فما كان منه إلاّ أنْ "أخذ سوطًا من حبال وطردَ الجميع من الهيكل ومنهم باعة البقر والغنم والحمام، وقلبَ موائدَ الصيارفة، لجعلهم إياه مغارة للصوص". أليس المشهد يعيدُ نفسه عبر التاريخ، ويذكّرنا كيف يكون التخلّف؟
مع الاعتذار، فالوصف لا يطال الشرفاء والغيارى وما تبقى من الوطنيين الأحرار من محبّي العراق والحريصين على استقلاليته وزهوه وحضارته وانتشاله من الكثير من آفات التخلّف التي ألمّت به مؤخرًا.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة