خواطر
وكتابات عامة
إلى متى تبقى نينوى تُستباح وتبكي وتنزف؟
لويس اقليمس
25اذار 2019
حين بلغت مآثم "نينوى العظيمة" حجمًا كبيرًا من الفساد لم يعد يطيقها "يهوه"، أرسل لهم الله يونان بن متاي (النبي يونس) نبيًا من عنده ينذرهم بكوارث كبرى ويدعوهم إلى التوبة إلى الإله الحقيقي. فقد ضاق هذا الإله ذرعًا بهذه "المدينة العظيمة التي كانت تضم أكثر في حينها من مائة وعشرين ألف نسمة لا يعرفون يمينهم من شمالهم، فضلاً عن بهائم كثيرة"، كما يورد سفر يونان النبي في العهد القديم، فأراد أن يعطيهم درسًا تعليميًا بشخص النبي يونان. كان ذلك على أيام جبروت نينوى في القرن الثامن قبل الميلاد، بحسب البعض من العلماء والمفسرين. وبالرغم من أن هذه الحكاية تأتي في نطاق درس تعليمي مرحٍ بعض الشيء في نقل تعاليم الإله الحقيقي بحسب البعض، من حيث إنها لا تخلو من الدعابة والطرفة في بعض تفاصيل سردها وشرحها، إلاّ أنها تكشف عن مدى عظمة نينوى في ذلك الزمان، دولة وشعبًا وحياة. فقد ورد اسمها صريحًا في العديد من الكتب والأسفار التاريخية في العهد القديم بشكل إشارات أو مواعظ على أفواه أنبياء آخرين يتحدثون عنها كلامًا سلبيًا من أمثال النبيين ناحوم وارميا اللذين يتحدثان عن فساد أهل نينوى في ذلك الزمان على عهد الملك نبوخذ نصر الجبار. فقد كان لها من مكانة مرموقة ومتقدمة على غيرها من المدن في ذلك الزمان. لذا فرح بها الله فرحًا عظيمًا عندما استجابت لكرازة يونان فتابت ورجعت إليه بالمسوح والرماد.
رباط الحديث، مأساة نينوى الكبرى قبل أيام بغرق عبّارة الموت التي قتلت أرواحًا بريئة وحوّلت ربيع الموصل إلى مأتم مفتوح وفتحت جراحًا مثخنة طعنت أهالي المدينة وفتحت الأبواب لسيناريوهات عديدة لاحقة. فهذه الكارثة ستدخل التاريخ مثل غيرها ممَا ألمّ بهذه المدينة التاريخية العظيمة.
كوارث عبر التاريخ
لقد حلّت بالموصل نوائب وكوارث كثيرة عبر التاريخ، وأحدقت بها مخاطر وقصدها غزاة وسقطت مرارًا وقاومت في غيرها، ثمّ نهضت تلملم جراحها مع مرور الأيام. وهذه أحوال المدن الكبرى والشعوب المتميزة، مثل مدينة نينوى التاريخية العظيمة وشعب نينوى المتمرّس الصامد المدبّر المضروب به المثل في الحرص والاجتهاد والتدبير والصبر، وقل ما شئت من سمات وصفات يستحقها أبناء الموصل، سواء في مركز المدينة، أو ما يحيط بها من بلدات وقصبات تعود لمكوّنات متعددة الأديان والأعراق والمذاهب ولا تقلّ تميّزًا في سمات وصفات وطنية وخاصة. فالمدن العظيمة مثل الموصل التي دخلت التاريخ فخلّدها، لا يمكن أن تقع فريسة للغرباء والدخلاء وأصحاب المطامع غير الشريفة. ولو أنّ الزمن التعس قد غدر بها ونالت حظها من الخراب والدمار في حقب سوداء من التاريخ فغادرتها الفرحة والطيبة وحسن الإدارة، إلاّ أنّ هذه لن تكون النهاية، وآخرها حادثة العبارة. فالمدينة باقية وأبناؤها الأصلاء ما زالوا على ذات الحرص والطيبة والأنفة والقدرة وعلى العهد باقين. وسينتفضون، بل لقد انتفضوا أمس كما انتفضت البصرة بعد أن بلغ السيل الزبى وعانت مدينتهم وبلداتها من عسر الحياة وإهمال الدولة ومن استهانة بقدراتها البشرية في الحكومات المتعاقبة بعد التغيير.
حادثة العبّارة القاتلة التي نالت قسطًا وافرًا من الكتابة عنها ومن التصريح بحادثتها الأليمة المفجعة ومن أشكال التعاطف والحزن الكثير على ضحاياها الأبرياء، لا يمكن أن تعبر من دون دروس للاتعاظ والتعلّم والاستفادة. فهي حبلى بملفات كثيرة متراكمة بانتظار فتحها ومعالجتها من دون تردد. بل طالما أن الحديد ساخن، ينبغي الطرق عليه بقوة وفتح ما يمكن من ملفات مخزية وما يدور ويجول بين الأسطر وما تحويه طيات الكواليس والرفوف المطمورة بفعل فاعل لا يريد لهذه المدينة ولأبنائها النهوض من كبوة الغزو الأمريكي في 2003 وما لحق بها وبهم من ويلات ومصائب وكوارث كان الهدف منها كسر شوكتها وتحجيم تأثير كفاءات أبنائها على المستوى الوطني.فهُمْ أهلٌ لها في ميادين الوطن والوطنية والعمل والزراعة والصناعة كما في الجندية العقائدية المتميزة بالدرجة الأولى التي لا يُعلى عليها.
استرخاص النفس البشرية
لقد أثبتت هذه الحادثة المروّعة رخص الإنسان العراقي واستخفافًا كبيرًا لا نظير له بالقيمة البشرية عندما أهمل القائمون على مثل هذا الموقع السياحي وإدارة المدينة، لجميع معايير الأمان والمراقبة والحرص في يوم ربيعي كان يحلم به قاصدوه زرع البهجة والحبور والراحة في نفوس أطفالهم وفلذات أكبادهم. لكنهم كانوا على موعد مع الموت، وأي موت، موت بعبّارة "دوبة متهالكة" تسارعَ الركابُ فيها ليكونوا قرابين رخيصة أخرى لتضاف إلى مأسي وتضحيات وخسائر لم تجف بعد شوارع مدينتهم من دماءٍ سفكت بقدوم تنظيم داعش الإرهابي عندما استباح هذه المدينة ونشر الرعب والقتل والترهيب وجعل من بعض أبنائها مريدين ودعاة باسمه وآخرين ضحايا وسبايا وأداة لتجارة الرقيق وسط مسامع ومرأى العالم. فهل كان العراق بحاجة لمثل هذه المصيبة كي يستيقظ من سباته ويعاود الانتفاض والثورة والغضب ويزيد من المطالبات بوضع حدود للمآسي والكوارث التي يعاني منها المجتمع والدولة على السواء؟
وإذا كانت الدولة، مجتمعة بالرئاسات الثلاث ومعها القضاء الذي أسمع صوت القانون عندما أنذر بمعاقبة المقصّرين، قد أرادت بخطواتها وإجراءاتها امتصاص غضب الشارع وأهل هذه المدينة بالذات، فذلك لن يكون على حساب المطالبة بتغيير السياسات العامة للنظام السياسي الفاسد القائم عل أساس سرقة المال العام وسوء الإدارة وتجيير القوانين لصالح الطبقة المتسلطة على رقاب المواطنين وفق النظام السياسيّ الممقوت السائد حاليًا. فالغضب القائم ضدّ أشكال الفساد الإداري والمالي سيزداد ويتعاظم لحين وضع الأمور في نصابها وقيام نظام سياسي وطني يضع مصالح الوطن والشعب في أولى الأولويات ويلفظ جميع الأجراء والدخلاء والأغراب من السياسيين المنتفعين والفاسدين والمفسدين، إلاّ القلّة النادرة منهم، ويتم محاسبتهم أمام الشعب وبقوّة الشعب ولمصلحة الشعب أيًا كان انتماؤه السياسي أو الحزبي أو الديني أو المذهبي. فالمعادلة الوطنية لم تعد تتحمّل أكثر ممّا هو قائم منذ سنوات من دون صحوة ضمير وعودة عقل إلى رشده واستقدام يد نظيفة تستطيع تحمّل المسؤولية.
الفارس المنقذ قادم
نحن لا ننظر إلى مسألة توالي النكبات والكوارث والمصائب على شعب فقد دفة حياته على أنها قصاص من السماء، ولكن الشيء بالشيء يُذكر. فيونان النبي حينما نادى أهل نينوى للتوبة والعودة إلى الإله الحقيقي، لم يقم بذلك الفعل من عنده، إنما مشيئة الإله في ذلك الزمان جعلت الحوت تبتلعه وترميه قريبًا من نينوى ليقوم بتحذير أهلها من كوارث قادمة في الانتظار. ففي الأفق العراقي و"النينوي" ما يشير إلى نكبات مرتقبة في حالة لم تقم الدولة العراقية، رئاسة وحكومة وبرلمانًا وقضاء وشعبًا بما ينبغي فعله الآن وليس غدًا. فانتفاضة البصرة التي لم يخبو أوارها بعد، قد لحقتها موصل الحدباء التي فقدت منارتها على أيدي أعتى التنظيمات الإرهابية التي عاثت في الأرض فسادًا وحوّلت المدينة القديمة وآثارها التي لا تُقدّر بثمن إلى ركام وأبنية وحواضر متهالكة يُرثى لها. وهذا ما حدا بالجموع الغاضبة يوم وقوع كارثة العبّارة للتنفيس عن خلجات دفينة برفض التعاطف الظاهري لمسؤولين زاروا موقع الكارثة فهتفوا هتافاتهم الصارخة والمدوية: "حرامية" أي لصوص كما رشقوا سياراتهم بالحجارة وحطموا الزجاج. وربما هذا لم يحصل في السابق إلاّ نادرًا. فالألم عميق والمأساة كبيرة والمدينة تحولت إلى بيوت تسكنها أشباح وتفوح منها رائحة الجيفة الباقية تحت الأنقاض، كما أضحت مقطوعة الأوصال بعد تحطيم وتدمير جسورها، وعدم صلاحية ما هو قائم منها حاليًا.
إن المشكلة في هذا البلد المنكوب لا تكمن في نقص الأموال أو القدرات البشرية، بل في كيفية إدارة هذه الأموال وفي نزاهة المسؤولين والإداريين وفي الحكم الوطني الرشيد الغائب عن أي استراتيجية معمول بها لغاية الساعة. ولعلّ أهمها، كيفية التعامل مع الحيتان الكبيرة للفساد التي تسببت بنكبات وما تزال تتسبّب بمصائب ونوائب كبيرة وكثيرة في العراق وأهله، وآخرها فاجعة العبّارة في الموصل. فالمطالبون بمكافحة الفساد في البلاد هم مَن يشكلون عماده ضمن الحلقات الفاعلة والحقيقية للسلسلة الطويلة من الفاسدين القائمين على إدارة الدولة وحكم الشعب البائس. وهؤلاء ينطبق عليهم المثل القائل "إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً، فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ". هذا هو الواقع المرير. فهل سيحاسبُ الفاسد نفسَه؟ وإن فعلها، فمتى يكون ذلك؟ فنحن نعلم أن هذه ليست من ثقافة أهل المنطقة ولا من آداب دولها ولا من شيم الزعماء والمسؤولين. لكننا نسمع ونقرأ ونشاهد في دول العالم المتحضّر، أن المسؤول المكلّف بواجب وطني أو مجتمعي في أي مجتمع متحضّر يحترم شعبه، حينما تحصل أدنى مشكلة تمسّ مصلحة البلاد أو تتضرّر بها أية فئة في المجتمع، يبادر من تلقاء نفسه ومن دون تردد لتقديم الاعتذار ومعه الاستقالة.
كلّنا نسأل: مَن ينقذ الموصل في ظروفها المرّة القاهرة؟ هل من "يونان" آخر ترسله السماء للمناداة بعودة البشر فيها إلى جادة الصواب والتخلّص من براثن الفساد والإهمال السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد استباحتها من جديد من قبل فصائل وميليشيات وأحزاب ومكاتب اقتصادية تعمل لصالح تنظيمات إرهابية واخرى لصالح أحزاب في السلطة تنهب وتسرق خيراتها وتتلاعب بالمعونات المقدمة لأهاليها من دون رحمة ولا غيرة ولا شرف؟
قلناها فيما مضى ونكرّرها اليوم: دعوا الموصل لأهلها، ودعوا أهلها الأصلاء يسوسونها على طريقتهم "المصلاوية" وعلى سجيتهم الوطنية، فهم أدرى بشعابها. وهذه دعوة نصوح لكلّ غريب أو دخيل حطّ الرحال في هذه المدينة وفرض فيها إرادته المرفوضة انتقامًا من أهلها بسبب مواقفهم الوطنية النبيلة في محاربة الأغراب عن الوطن وأعداء البلاد التاريخيين، أن يخرج منها ومعه الأذيال الخائبة من المحسوبين على أهلها الشرفاء. فدمار هذه المدينة وإهمال الحكومات المتعاقبة لمطالبها والاستخفاف بقدراتها البشرية والوطنية وبتركيبتها السكانية الفريدة وإعادة إعمارها بالسرعة المطلوبة يتطلب نجباء حقيقيون من بين مواطنيها ليقوموا بهذه المهمة بعيدًا عن تأثيرات أحزاب السلطة وخارجًا عن مطامع بعض المغرضين والفاسدين من أهلها ممّن لحقوا بصفوف فساد السلطة منذ السقوط الدراماتيكي.
في الأخير، نقول كفى استباحة لحقوق هذه المدينة والمتاجرة بمآسي أهلها والنازحين فيها ومنها. فقد ظلمتها الحكومات المتعاقبة بعد السقوط في 2003، وحوّلها داعش الإرهابي إلى إمارة طالبانية حينما عاث فيها فسادًا وقتلاً وتنكيلاً لحين إحالتها إلى ركام ومدينة أشباح في أشرس معارك قادها التحالف الدولي في 2017 لإنهاء حكم الخلافة المزعوم. وعسى أن تتحلّى اللجنة الجديدة المكلّفة بإدارة حكومة نينوى المحلية بكلّ المقاييس الوطنية التي تتيح لها وضع حدود قاطعة أمام أشكال الفساد المستشري، الذي أضحى ظاهرة عامة في عموم البلاد، بالرغم من أن الحاجة تدعو لتعيين حاكم عسكري على رأس إدارتها لغاية قيام إدارة جديدة منتخبة. فالموصل لن تنهض من كبواتها في ضوء القوانين التقليدية السائدة، ما لم تتمتع الإدارة الجديدة المؤقتة بصلاحيات واسعة. وسوف تتكالب الأحزاب الفاسدة على منصب محافظها مهما قيل ويُقال وفق مبدأ المحاصصة.
ونقول للشهداء والمفقودين: ليس لنا سوى الدعاء بالرحمة والمغفرة لملاقاة رب السماء. ولهم نوقد شموع الدموع التي نزلت من مآقينا مدرارًا. فعساها تكون عنوانًا للسلوان الوطني لأسرهم وأحبائهم وأهل مدينتهم، ودرسًا بليغًا لنا نحن العراقيين جميعًا. فيونان النبي قادم للتبشير بغضب الله من شعبه بعد سماعه جرس الإنذار يدعوه للرحيل باتجاه نينوى لوقف زؤام الموت وبكاء الثكالى والعودة إلى جادة الصواب والنزوع للعقل في البناء والإعمار وإصلاح الذات.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة