خواطر
وكتابات عامة
حين يتحول الفساد إلى ثقافة مجتمع
لويس اقليمس
25شباط 2019
ربما لا يوجد بلد عربي أو شرق أوسطي بلغ فيه الفساد ما وصل إليه العراق بعد 2003. فقد انتشرت فيه كلّ أصناف الفساد الإداري والمالي والمجتمعي والأخلاقي والاقتصادي. وبعبارة أدق، فسد فيه الملح ولم يعد صالحًا لإعطاء نكهة الطعام الذي تعوّد المواطن تناوله في بلد الخيرات والأمجاد التي نخشى عدم عودتها، في الأقلّ لما تبقى لنا في هذه الفانية من أعمار هي في قدرة وإرادة السماء.
أوساط كثيرة، سياسية واجتماعية وثقافية وكتّاب جريؤون تحدثوا ومازالوا يشيرون إلى محنة العراقيين التي أصبحت ظاهرة مستعصية وغير قابلة العلاج بسبب ابتلائهم بآفة الفساد من كل هذ الأصناف التي أتينا لذكرها. وربما هناك أنواع من فساد آخر غير ظاهر، قد يبدو خافيًا على أمثالي ومَن بقي في جعبته وروحه وفكره شيءٌ من الماضي الزاهي بشتى تقاليد وأخلاق الأمس وأيام زمان اضطررنا للتحسّر عليها والتأسّف على ما جرى وما يجري.
هذه الظاهرة الخبيثة التي استعصت كسمكة التونة العنيدة على المصلحين في المجتمع من رواد الكلمة ورجالات دين وباحثين اجتماعيين ومَن في حاشيتهم من منظمات وجمعيات لا تبخل في التوجيه والنصح، قد واجهها ربابنة السياسة وأركانُها ممَّن جاء في السلطة بعد الغزو الأمريكي السافر، بشيء من الاستهتار بالمصلحة العليا للوطن وأهله من البسطاء الذين لم يتعلموا الدرس بعد ومازالوا واجمين في غيّهم وغبائهم وعنادهم بمنح الثقة بساسة الصدفة الذين خذلوهم مرة وثانية وثالثة ورابعة. أليس من المؤسف حقًا أن يعيد الشعب المغلوب ذات الخطأ الفادح في إعادة تدوير ذات الوجوه أو مَن على شاكلتهم من سرّاق ثرواتهم ومستقبل أجيالهم القادمة في عزّ الليل ووضح النهار، وهم غافلون بين الصحوة والنوم؟ شعب بائس في عمومه، إلاّ القلّة المتمسكة بأهداب الوطنية وبقايا الضمير وتقاليد المدنية التي تأبى الذلّ والمهانة. كلّ ما نستطيع قوله إنه في معظمه، قد فقد النخوة والشجاعة وسمة الانتماء الرصين للوطن ومستقبله ومال إلى معسكر الكسالى والصيد السهل باللحاق بأذناب ساسة الخذلان والخمط والنهب وانتظار الفرهود. شعبٌ فقد الغيرة ولم يعد يعي ما يعيد تكراره في كلّ مهرجان انتخابيّ فاشلٍ يشهد تزويرًا وتضليلاً ونفاقًا وقفزًا على حقائق صناديق الاقتراع بوسائل وطرق شتى. ونحن المساكين أصحاب الكلمة، ليس لنا سوى اقتحام هذا الصخب والدخول في هذه الجلبة اضطرارًا أم حرصًا. ففي كلّ مرّة نعيد ذات الانتقادات وذات التنبيهات وذات الاتهامات، مقابل آذانٍ صمّ لا تسمع، وعيون عمياء لا ترى وأفواه فاغرة تبغي المزيد لتغرف من الريع النفطي ما يتسنى لها ومن باب المدخولات غير الريعية ما تطوله يدها.
نعم، لا يوجد بلدٌ مثل العراق، ميزانيتُه بحجم مجموع ميزانيات عدة بلدان متطورة وكبيرة في المنطقة، تتقاذفها أيادي دخلاء وتتقاسمها إرادات غرباء عنه في التخطيط والإدارة والتنفيذ. ومَن يسعى لتصحيح المسار، يُزاح في غفلة منه وتحت أنظار أسياده، هذا إن كان له أسياد يستحقون السيادة في زمن الغفلة السياسية. فجلّ ما يهمّ هؤلاء الأغراب مقدارُ ما يدخل جيوبهم من رشا ومن كوميسيونات ومن موارد من هذا المشروع أو ذاك ممّا في حوزة أحزابهم وكتلهم السياسية من وزارات وهيئات ودوائر. فهُم قد تعوّدوا مذ ذاك، تقاسم المقسوم من كعكة البلاد حتى لو حصل ذلك على حساب مصلحة الوطن والشعب. كما لا يهمّ الكثير منهم ما آلت إليه أحوال البلاد وتعاسة الشعب من مستويات متقدمة ومخيفة، حتى لو حصلت مفاسد كبيرة تطال التلكّؤ في إكمال هذا المشروع الخدمي الشامل أو ذاك، وما أكثرها منذ أعوام، أو جرى تأخير في تقديم خدمة بلدية أو صحية أو بيئية للترفيه عن المواطن وتحسين حياته وظروفه المعيشية التعسة في العديد من مفاصل الحياة، تمامًا كما حصل مع مشاريع فساد الأبنية المدرسية والوحدات السكنية والعلاجات الصحية والطبية ومشاريع المياه الصالحة للشرب والصرف الصحّي الكذّابة وما سواها ممّا يدخل في خدمة المواطن وتسهيل عيشه. فهذا إنْ يكنْ، فهو من أبسط حقوقه التي يستحقها في حياته الآدمية المهدورة والمهانة والمهمّشة، من دون أن يمنّ بها عليه أربابُ السياسة وزعاماتُ الأحزاب الذين احترفوا الكذب والنفاق والمخادعة وأشكال الفساد بدراية من شعبهم وأتباعهم أو بغيرها.
سؤالٌ مقبول في زمن ضياع التوازنات والموازين: كيف لشعب يهينُه ساستُه ويستغلّه حكّامُه ويضحك على عقله الصغير القابل للمساومة والإقناع بكلمة ماكرة أو بوعد ساذج، أن يتطور وينتقل من جادة التعاسة إلى ناصية المعرفة والمدنية والرفاه والحرية بمفهومها الإنساني والعالمي في زمن العولمة والديمقراطية وحرية الرأي والفكر والتعبير والدين؟ أهو الخوف أو الستر على المال والعرض أم الّلامبالاة أم السير مع القافلة عملاً بالمثل البغدادي "المفلس بالقافلة أمين"؟ فيما الدلائل تشير أن هذا الأخير لم يعد هو الآخر أمينًا في قافلة العراق الذي تحكمه التوافقات فوق الدستور، والمساومات خارج القانون، وبيع المناصب بعيدًا عن الأخلاقيات.
بعد أكثر من ستة عشر عامًا من الإطاحة بالنظام البائد السابق، تراجع تصنيفُ العراق، وطنًا وشعبًا، في كل مفاصل الحياة، العلمية منها والتربوية والصحية والخدمية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، إلاّ في آفة الفساد وزيادة المخدرات وبروز المنهج الطائفي وتراكم الديون والتشدّد في وضع الحجاب والاستزادة من المواكب الحسينية والترويج لها وصرف مبالغ طائلة لإحيائها استفزازًا للشارع الصاغر، وفي الإغارة على مستوردي الخمور وبائعيها وتعدّد مراكز التدليك والمساج التي تشكل بابًا آخر لإجازة بيوت الدعارة. وبشهادة أصحاب الأرض والمربين ورجالات السياسة المعتدلين وما تبقى من الوطنيين الأحرار والدول والمنظمات الدولية والمحلية المعنية، يكون المجتمع العراقي قد انحدر فعلاً إلى الدركات السفلى في سلّم الفساد الإداري والمالي تطبعًا بسلوكيات ساسته من صنف الأغراب في الولائية له ولشعبه. والخطر في كلّ هذا، تحوّلُ هذه الآفة إلى ما يشبه بثقافة عامة في أوساط العامة والخاصة.
لقد دقّت نواقيس الخطر مرارًا وتكرارًا وماتزال معلنة ضرورة القضاء على هذه الظاهرة السلبية المتنامية بسبب استفحالها وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على مسيرة الشعب العراقي ومستقبل البلاد المرهون بإرادات فاسدة تدير دفة الحكم وتتحكم بثرواته وقروضه ومساعداته الخارجية كما تشاء وكما يحلو لها وفق مصالحها ومشاريعها ومناهجها. وهنا لا بدّ من التعريج على آفة قديمة جديدة، أصبحت هي الأخرى ظاهرة كاسحة كالتسونامي في صفوف الشباب خاصة، وهي ظاهرة المتاجرة بالمخدرات، إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا واستيرادًا وتصديرًا. فبعد أن كان العراق قبل الغزو ممرّا سرّيًا فقط لمثل هذه التجارة المحرّمة، أصبح في السنين الأخيرة بعد الغزو في 2003، الملاذ الآمن والسوق الرائجة القادمة مع الرياح الصفراء من الحدود الشرقية بصورة رئيسية. ويكاد لا يمرّ يوم من دون أن تتصدى جهات المراقبة لمتورطين في هذه التجارة، بحيث أخذت حيزًا واسعًا من كواليس المحاكم والسجون. ولا أدري ما العبرة من تحريم الخمر وأنواع المشروبات الروحية مقابل خنق الحريات في التعبير والنقد وانتشار الميليشيات المنفلتة والجماعات المسلحة وإجازة فتح مكاتب بيع السلاح بهدف عسكرة المجتمع وتسهيل تجارة المخدرات والترويج لها أحيانًا دعمًا ودفاعًا ومشاركة في إدخالها للبلاد أو التغاضي عن ترويجها واستيرادها وتصديرها تحت أكناف ورعاية جماعات محترفة ليست بعيدة عن جهات سياسية حاكمة، أو في الأقلّ جهات متنفذة في السلطة تتدخل للدفاع عن مرتكبي هذه الجرائم إذا ما تطلّبت الحاجة للإفراج عنهم تحت ضغوط سياسية وحزبية وعشائرية.
جلُّ ما يمكن قوله إنّ البيئة السياسية في العراق لا تبشّر بخير قادم قريب طيلة السنوات الأربع القادمات من فترة الحكومة الحالية. والسبب لا يقبل الجدل، لكون هذه الأخيرة نسخة عن سابقاتها التي حافظت على امتيازات السادة الساسة في الرئاسات الثلاث ومَن في أذيالهم على رأس القائمة أولاً، وعدم قدرتها على الخروج من قوقعة الكتل والأحزاب المتمسكة بالسلطة وبمنهج المحاصصة والتوافق وإدامة زخم الطائفية ثانيًا، وترددها في اتخاذ خطوات إيجابية قوية وصارمة في إصلاح مؤسسات الدولة وتنقيتها من الفساد والمفسدين لأنّ الجميع في مركبها سائرون ثالثًا. وأخيرًا وليس آخرًا، لأنّ الفساد وعقدة النقص والنفاق الديني والسياسي والجوع الدائم المستمكن في النفس والعقل للمزيد من النهب والتملّك وأشكال الطائفية وتهميش الآخر قد أضحت مناهج تدرّ ذهبًا وسلوى وعسلاً لأرباب السياسة والمتعاملين والمتعاونين معهم، ما ينذر بقادم أسوأ. وحين تخرج الهفوة والغلطة والخطيئة عن سيطرة الطبيعة البشرية ويصبح الفساد في المجتمع آفة سرطانية وظاهرة مستعصية، حينئذٍ يخسر دعاة الإصلاح والطيبون الرهانَ ويتحول المجتمع إلى غول سفيه وكاسر بانتظار الفارس المصلح وليس لرحمة السماء.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة