خواطر
وكتابات عامة
المسيحيون ملح الأرض وعطرها
لويس اقليمس
3
كانون الثاني 2019
وسط أحلام السلام والتأكيد على سبل العيش المشترك وتعزيز النسيج المجتمعي، احتفل العراقيون وبامتياز هذا العام بقدوم العام الجديد 2019 مودّعين العام المنقضي المليء بالمطبات السياسية والمتناقضات الوطنية والتحديات الاقتصادية. فقد دقّت أجراس الكنائس احتفالاً واستكمالاً لعيد ميلاد ربّ الأكوان "عيسى"، مسيح السلام والمحبة والرحمة. والأجمل ما بدر من تصريحات من عددٍ من رجال دين من الطائفتين الشيعية والسنّة ومن غيرهم من أبناء العراق بلا استثناء ومن مسؤولين في الدولة العراقية الذين عدّوا مشاركتهم المسيحيين إخوانَهم في الوطن والمصير وفي الإنسانية خيرَ ردّ على تخرّصات وتحريضات وتلفيقات نفرٍ شواذ من بشرٍ مريضٍ أعماه التخلّف وأبى إلاّ العودة إلى عصور الظلام والتكفير وشقّ الصفوف. لكنّ صوت المحبة والتسامح والانفتاح على الآخر المختلف واحترام خصوصياته قد انتصر وطغى على سواد القلوب وغضاضة النفوس وأصحاب النوايا السيئة. فمرحبًا وألف مرحى لكلّ صاحب ضمير مؤمن بالله الخالق الأحد يرفعُ راية التسامح وينشر الفرح ويعيش المحبة لإثبات جمال الخالق في خليقته وحسن صورته.
لِمَن لا يعرف جوهر المسيحية بعدُ، أو مَن خانه الضميرُ الإنسانيّ الهشّ في فهم ما يعني عيد الميلاد والاحتفال بالسنة الميلادية كلّ عام، ولمَن فقد توازنه الدينيّ والزمني ولم يتسنى له اختبارُ أخلاق وسلوكيات أتباع "روح الله" و"مسيح الله" و "ابن الله" المتجسد بأعجوبة من العذراء مريم سيدة الأكوان، فقد آن الأوان أن يعود إلى رشده ويتوغل في التاريخ كي يدرك ما قيمة مولود المغارة الحقيرة الذي "عرفته الحيوانات يوم مولده العجيب وتنكّرت له خاصتُه".
لقد ردّ العديدون بما ينبغي على التصريحات الأخيرة الهوجاء للشيخ السنّي السلفيّ مهدي الصميدعي مفتي جمهورية العراق المعروف بمواقفه المتطرفة الشاذة الخارجة عن السرب ومعه رئيس أعلى هيئة دينية شيعية السيد علاء الموسوي بخصوص تحريم الاحتفال أو المشاركة الوجدانية من أتباع الإسلام بهذه المناسبة العالمية. وهذه الهجمة الشرسة على خصوصيات الطائفة المسيحية ومناسباتهم ليست الأولى، وكما يبدو لن تكون الأخيرة في سلسلة "فتاوى التحريض والتطرّف الأعمى" في حال عدم محاسبتهما وتعنيفهما، ليس تجاه المسيحيين بخاصّة فحسب، بل إزاء كلّ مختلِف في الدّين عنهم. ومَن يرجع إلى مجمل آيات القرآن المكّية، يروق له ما يقرأُه ويطّلعُ عليه من رؤية واضحة وجميلة لدينٍ متسامح في زمن معتدل يخصّ جميع الأنبياء ومنهم "عيسى" ووالدته الطاهرة مريم العذراء بكلّ آيات التقدير والتبجيل والاحترام. أمّا ما لحق تلك الحقبة من تغيرات وتحالفات وخروج عن دائرة "التقية" وما تبع ذلك من نقلٍ لأحاديث منقولة غير متزنة أو معروفة وغير مكتملة الموثوقية والمصدر عن فلان وفلان وفلان، فيبقى في دائرة الشكّ والطعن ومن باب الغيرة والتحريض والحسد والفتنة وزرع بذور الشقاق بين عباد الله أولاد إبراهيم الموحِّد أبِ المؤمنين.
يعلم العالمُ أجمع، إلاّ مرضى النفوس فيه ومثيرو الفتنة الدينية والطائفية وأصحابُ النظريات الإقصائية والتهميش، أنّ "أعياد الميلاد ورأس السنة بصورة خاصة لم تعد عيداً للمسيحيين حصراً، وإنما عيداً للبشرية جمعاء" و "مهرجانًا للفرح لجميع البشرية كي تخرج ولو لزمن يسير عن عباءة القهر والحزن والانكفاء على الذات" وتمنّي النفس باستبدال كلّ هذه الآهات والمشاكل وصور السواد القاتمة والكراهية الشنعاء بشيء من "التلاحم والتراحم والتصافح والتعانق على بساط من الحب والالفة بعيداً عن رائحة الازمات والحروب وعوامل الدمار"، تمامًا كما أشار إلى هذه الرغبة العديدُ من المتنورين وأصحاب العقول المنفتحة المُحبّة للإنسان أيّ كان شكلُه ودينُه ومذهبُه. وهل أجمل ممّا قاله أميرُ الشعراء أحمد شوقي في مناسبة مولد طفل المغارة "عيسى الحيّ" وسيّد الكون وحبيب الله، وكذا في رسالته الإنسانية وفي خلُقه وصفاته:
ولد الرفق يوم مولد عيسى والمروءاتُ والهدى والحياءُ
وازدهى الكون بالوليد وضاءت بسناه من الثرى الأرجاءُ
وسرت آية المسيح كما يسرى من الفجر في الوجود الضياءُ
تملأ الأرض والعوالم نوراً فالثرى مائج بها وضاءُ
لا وعيدُ، لا صولة، لا انتقام لا حسامٌ، لا غزوة، لا دماء
بعد قراءة هذه الصورة الشعرية الجميلة عن "نبي الله عيسى" كما يعرفه المسلمون، إخوتنا في الإنسانية، هل للشيخ الصميدعي الموقر والسيد الموسوي المحترم أن يدلاّننا على موجبات إنسانية وشرعية معقولة ومقبولة ومنطقية بتحريم أتباع المسيحية ومشاركة مواطنيهم في الإنسانية بمباهج الاحتفال من منطلق عفويّ ديني او انساني او عاطفي، بمناسبة ذكرى مولد هذا النبيّ العظيم الذي أذهل العالم بميلاده العجائبي من امرأ ة عذراء خصّها ربُّ الأكوان بكل النعم والمزايا والأوصاف الجميلة كما يصفها القرآن كتابُ المسلمين نفسه، لتكون سيّدة العالمين وقبلة الزائرين من كلّ الأديان والمشارب لمزاراتها في الكنائس والقرى والمدن في كافة أرجاء العالم؟ وأين مظاهر المجون والعربدة والرذيلة التي يتحدثان عنها والتي ليس لها من وجود إلاّ في مخيلتهما المريضة ومَن على شاكلتهما من المنغلقين على الذات القاصرة والمنزوين في صومعة الجمود الفكري والعائشين في زمن التحنّط العقائدي الذي لا يقبل الآخر ولا يطيق احتمال المختلف عنه دينًا ومذهبًا وفكرًا ولونًا وشكلاً وعمامة وعباءة ولحية؟ فهذا يبدو ديدنَ الكثير من أمثال الشيخين المحترمين من الذين يرومون العيش في ظلمات القرون الوسطى المدمّرة في تخلّفها، وممّن لا يحتملون التنفس والعيش إلاّ من رئةٍ مريضة تحنّ لأتربة الماضي المليء بالفتنة والتحريض وزرع الشقاق والمموّه بهواء الصولة والغزوة والوعيد والانتقام لا بالرحمة والهدى والحياء والمروءات، تمامًا كما جاء في وصف أمير الشعراء.
ترميم البيت العراقي لا تخريبُه
ليس من مصلحة أبناء الوطن الواحد أن ينزلقوا مرة أخرى إلى الدروب المظلمة من الطائفية وتكفير الآخر المختلف بسبب فتاوى التحريض والتطرف التي اكتوينا بها جميعًا في الماضي القريب منه والبعيد على السواء. فالعيش في زمن الصحراء والبداوة والغزوات والصولات والكراهية والحقد لم يعد الرهانَ المقبول عصريًا بعد تجاوزنا عتبة القرن الواحد والعشرين بعولمته ونهضته وتطور الفكر والعلوم ووسائل الترفيه والراحة والتقنيات فيه على السواء.
وكفانا إعادة عيش مرارة السنوات العجاف لنبقى أسرى أزمنة داعش الإرهابي المتطرّف حدّ العظم وأشباهه في متلازمة أحادية في الفكر والدين والعرق والسلوك. فقد ولّى زمن الأرحام الخبيثة التي نزل منها هذا التنظيم الإرهابي وأمثالُه ولا بدّ من إعادة تقييم وتقويم للزمن والتاريخ والفكر والرؤية كي ندخل تاريخ الإنسانية من أبوابه الواسعة من جديد حيث تشهد لنا حضارات بابل وسومر وأكد وآشور، وما تركه من إرث ثري آباؤُنا السريان الآراميون الذين فرشوا أرض بلاد الرافدين بالمحبة والعلم والتسامح والاحترام مع قدوم الدين الجديد إلى الجزيرة العربية.
فهل يُعقلُ محو تاريخ شعوب أصيلة بهذه السهولة وبمجرّد فتوى نشاز تصدر من هنا وهناك وليس لها من موجبات إنسانية أو شرعية إلاّ ما صدر عن بشرٍ عاشوا فترة من التخلّف في ترتيب البيت الإسلامي لظروف وأسباب حتّمتها حقبة زمنية متشنّجة انتهى دورُها زمانًا ومكانًا؟ ما هكذا تُبنى الأوطان ولا بهذه العنجهية الكارهة تعيش الشعوب بل بالمحبة والرحمة والتكافل.
شاء البعض أم أبى، فإنّ رائحة خلق الازمات والحروب الدينية التي زكّمت الأنوف وقتلت الضرع والزرع وأتت بكلّ عوامل الدمار التي عاشتها البشرية في حقب التاريخ المظلمة قد ولّت ولا عودة إليها. بل السعي كلّ السعي للأبرار وذوي الإرادة الطيبة بفتح كل الأبواب أمام حوارات وتفاهمات متزنة ومنفتحة على الآخر المختلف، حيث في الاختلاف، أي اختلاف دينيًّا كان أو عرقيًّا أو قبليًا أو اجتماعيًا أو شكليًا أو بشريًا وكذا في التعددية غنى وإثراء ونجاح وسموّ في النفس والقلب والفكر أكبر وأكثر وأوسع.
فهل يدرك أمثال المعترضين على احتفال البشر في العالم أجمع بهذه المناسبة الكبيرة وبرأس السنة الميلادية أنّ التاريخ الميلادي قد أصبح عالمّيَ الاستخدام كما شاهدنا على شاشات التلفزة في جميع القنوات العالمية وفي الساحات والشوارع وصالات الترفيه. وما العيب في ذلك، كما تساءلُ أحدُهم؟ ولماذا لا يجهد هؤلاء المعترضون المتشدّدون أنفسهم للبحث عن صيغ أخرى جامعة للبشر على المحبة والتصافح والسلام ويلفظوا هواءَ العصور الفاسدة ورياح الأفكار المتخلّفة التي لا تبني ولا توحد بقدر ما تهدم وتفرّق؟
لقد ذقنا العلقم ورُوينا المرّ حينما اكتسح تنظيم الدولة الخرافية، السلفيّ المتشدّد مناطقنا الآمنة قبل سنوات عجاف، فقتلوا الأبرياء في إبادة جماعية مشهودة وشرّدوا الملايين من دورهم وقضوا على ممتلكاتهم وسبوا الحرائر وتم بيعهنّ في أسواق النخاسة.
وهذا احتقار لخليقة الله الذي خلقهم أحرارًا لا عبيدًا لتمجيد اسمه والعيش في الأرض كي يخلقوا فيها بذرة ناضجة وثمرة طيبة. فهل نُعيد تلك الأيام العجاف ونقبل ثانية بالفكر الداعشيّ الذي مازال يعشعش في صدور نفر ضال؟
في ظلّ الظرف القائم والحاجة الملحة، آن الأوان إن لم أقل قد تأخر كثيرًا، بمراجعة الذات كلّ من موقعه والتوجه نحو إرساء ركائز المحبة والرحمة والمصافحة والمصالحة وفرض أسس التعايش السلمي التي تلزم الجميع بأخذ دورهم في إعادة بناء الوطن وترميم النسيج المجتمعي الذي أهانه الساسة ومزّقه حكّام الصدفة واستباحته الميليشيات المنفلتة بالسماح ببروز الفتنة الطائفية بين فترة وأخرى وكلّما شعروا بالخطر على مكاسبهم غير المشروعة.
وبعودتنا إلى الأسباب الحقيقية وراء مثل هذه السلوكيات الشاذة، تتراءى لنا الصورة واضحة وناجمة عن غياب الرؤية الوطنية للقائمين على السلطة، وفي القصور الواضح للجهات التنفيذية في الحكومات المتعاقبة الفاشلة بفرض القانون ومحاسبة الخارجين عنه ومحاربة الفاسدين بمن فيهم مَن في رأس السلطة ووعّاظها، وكذا بسبب انتهاج سياسات الإقصاء وتهميش الآخر من أبناء المكوّنات القليلة العدد الناتج عن نظام المحاصصة المقيت. ولولا مجمل هذه السياسات الرعناء غير المسؤولة التي سمحت بتسييس الدّين وفرض النمطية المذهبية للجهة الحاكمة التي تغاضت عن محاسبة كلّ مَن هبَّ ودبَّ بالتطاول على كرامة الغير ومَن تسوّلُ له نفسه فرض عقيدته ومنهجه وسياسته وسطوته، لَما تناقصت أعداد هذه المكوّنات ومنها المسيحيين والإيزيديين والصابئة وقبلهم اليهود.
بعد كلّ هذا وذاك وما شهده العالم أجمع ومن ضمنهم العراقيون دولةً وحكومةً وشعبًا ومعهم المقرّبون من المرجعيات الدينية والمحسوبون على الوقفين السنّي والشيعيّ على السواء وسائر المدن العراقية ومنها مدينتا كربلاء والنجف المقدستان، من احتفالات بهيجة ومشاركات شعبية ووجدانية عفوية ومنظماتية في أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، هل يكون جميع هؤلاء قد وقعوا في فخّ الفسق والرذيلة؟ وهل تكون الدولة العراقية وحكومتها الشرعية ومعهما الساسة والمسؤولون المشاركون بهاتين المناسبتين "مارقون وواقعون في الشرك" كما حلا لأصحاب الفتنة ودعاة التطرف والتحريض والكراهية؟
في الختام، ندعو أن يكون العام الجديد مناسبة للتلاحم الوطني والتعايش السلمي والمصالحة المجتمعية من أجل إعادة بناء عراق المواطنة والمساواة والعدل، والتبشير بدولة مدنية تحتضن جميع المواطنين بعيدًا عن خطابات التحريض والفتنة والتفرقة.
نصلّي معًا، ونحتفل معًا، ونبني معًا، ونفرح معًا، ونتكافل معًا من منطلق الإيمان الكامل بحرية الأديان والاحترام الكامل للآخر المختلف حفاظًا على التعددية التي إنْ هي إلاّ بركة وثراء وخير وغنى قلّ نظيرُه.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة