خواطر
وكتابات عامة
العملية التربوية في العراق
ما لها وما عليها
لويس اقليمس
23
تشرين الاول 2019
مفهوم التربية واسع ومتشعب وجدير بالاهتمام من قبل الجميع، أسرة تربوية ومجتمعًا ومؤسسات تعليمية عامة وخاصة، وجهات تخطيطية ومالية إضافة إلى الدور الرئيس الذي يمكن، بل الذي يتوجب أن يضطلع به البيتُ الأسري ذاتُه قبل كل هذه وتلك. فالبيت الذي يتربى فيه الطفل يمكن عدّه، بل هو النواة الأولى للتربية المجتمعية الصحيحة التي تضعه في الاتجاه الصحيح للخروج من قمقم الدار وأجوائه المنغلقة نحو المحيط الخارجي واللقاء مع محيط واسع مختلف المدارك والقدرات والاتجاهات والأفكار وجهًا لوجه. هذا إذا أضفنا موضوعة إلزامية التعليم للجميع من دون تمييز ولاسيّما في مراحله الأولى. فهو حق مفروض للجميع بموجب الحقوق العامة في الدول المدنية التي تنشد حقوق الإنسان.
حدثتني زوجتي قبل أيام، عن مقترحات جديرة بالاهتمام وقابلة التطبيق تختلج أفكارَها من حين لآخر في ضوء ما بلغت إليه العملية التعليمية والتربوية المتهالكة في البلاد التي تترنح على كفّ عفريت منذ عقود. وإنّي إذ لا أشكّ بغيرة أمّ أولادي الوطنية وكفاءتها العلمية ونضجها التربوي أولاً، إلى جانب تصوّرها الصادق لشكل التربية والتعليم والوسائل الطبيعية والسلسة لإنجاحها بغية الإصلاح والذهاب بها نحو تعزيز التنمية ثانيًا، فإني أرى أن مجمل هذه العملية تتطلب قبل كلّ شيء وأيّ شيء وجود أرضية صحيحة وصحيّة توكل إليها عملية تأهيل عام وصحيح للقائمين عليها وعلى أدواتها المتعددة المعنية.
كما لا أنتقص من ضرورة وجود إشراف علمي مطلوب من قبل مختصين وعلماء اجتماع وتربويين جديرين برسم سياسة المناهج التربوية العامة للدولة مع تعزيز الرقابة على مناهج المدارس الخاصة واحتواء نزوعها والحدّ من سلوكياتها خارج المقررات الرسمية الوطنية. هذا إضافة إلى ما يمكن أن تضيفه من فوائد وخبرات، اقترانُ العملية التربوية في بداياتها بمقررات مهنية وفنية ودروس لا منهجية وترفيهية شاملة في الرياضة والموسيقى والزراعة والصناعة والتجارة وتقنية المعلومات والفنون التطبيقية المعروفة القريبة من معترك الحياة، بحيث تعين الطالب لتسهيل خياراته من أجل تشجيعه في بناء مستقبله والارتكاز على مهنة يتقنها ويحبها وتتوافق مع مهاراته الشخصية وليس بفرض مهنة عليه. هنا كان لا بدّ من الوقوف إزاء كل مقترح معقول وقابل للتطبيق. ففي كلّ فقرة ومحور نجد خطوات مهمة ينبغي التريث والوقوف إزاءها لما تحمله من كمّ هائل من النصح والإرشاد والتنويه والتحذير والدعم في الوقت عينه.
التربية الأساسية تبدأ من المنزل
من حيث المبدأ، يرى علماء الاجتماع والتربويون أن العملية التربوية تبدأ من البيت الأسري كما أسلفنا، وفيه تقع مسؤولية الأخذ بتربية الطفل رضيعًا حتى يكبر وينمو في العقل والقامة تمهيدًا لإدخاله إلى المراحل الأولى من العملية التربوية التي تبدأ عادة في الدول المتقدمة منذ سن الثالثة وتتدرج لغاية تأهيله للعبور إلى المرحلة الابتدائية حيث من شأنه أن يكون مؤهلاً في سنّ السادسة لتقبّل دروس منهجية منتظمة تؤهلُه للتقدم في درجات التربية والعلوم إلى ما استطاع ذلك سبيلًا بحسب قدراته ومؤهلاته واستعداداته وظروفه الزمانية والمكانية. ومن شأن المتابعة الميدانية للوالدين أن تعزّز من ثقة التلميذ بقدراته وتزرع فيه حبّ طلب العلم والنهم ما استطاع إليه في هذه السنّ الطرية التي تحتاج إلى رعاية أولية خاصة ومثابرة في ذات الوقت. ولكنْ في كلّ الأحوال الطبيعية، يتوجب على الأهل والمتولين أمر التلاميذ المتعلّمين، ذكورًا وإناثًا ومن دون تمييز، من سنّ الابتدائية حتى المتوسطة والثانوية أن يكونوا أكثر يقظة ورعاية وحرصًا على مستقبل أولادهم ويحسنوا التعامل مع حاجاتهم وطلباتهم المتطلّبة أحيانًا في المدرسة أو إزاء الهيئات التعليمية والتربوية أو مع أقرانهم بحيث يخفّفوا من حدّة التمايز الطبقي والتباين في المستوى المعيشي في حالة وجودهما في المحيط المدرسي. وإذا ما نجخ التلميذ المجتهد باجتياز كلّ هذه المراحل بنجاح، حينئذٍ تنفتح أمامه آفاقٌ جديدة، ربما تكون أكثر تعقيدًا، ولكنها أخفّ وطأة في المتابعة والإرشاد بسبب بلوغ الفرد السنّ الذي يؤهله الاعتماد أكثر على نفسه وعلى قدراته الذاتية في استيعاب الأمور وتقرير الصالح من غيره في مسيرته العلمية والأدبية. وهنا فقط، يشعر الأهلون بشيء من الراحة النفسية لنجاحهم بإيصال فلذات أكبادهم إلى سكة الطريق التي تؤهلُهم لدخول المجتمع من أوسع أبوابه بالاعتماد على ما اختزنوه بعد التخرّج من علوم وخبرات اجتماعية وتربوية مفيدة تعينهم في تكوين مسيرة حياتهم.
سياسة تعليمية صحيحة وصحية للدولة
نعود لفقرات مهمة تخصّ فلسفة السياسة التربوية والتعليمية للدولة وكيفية إعداد المناهج عبر الجهات المرتبطة بها من حيث المبدأ. فعندما تضع الدولة في سياستها فكرة كون العملية التعليمية ركنًا أساسيًّا من أركان العدالة الاجتماعية ومن صحة المجتمع ومن تساوي الفرص وبكونها خطوة لا بدّ منها من أجل نقل البلاد إلى قيم التطور والتمدّن وإدخال التنمية المستدامة بفضل ما يستوعبه ويناله الطالب طيلة سنيّ دراسته، تكون قد أخذت هذه العملية مسارها الصحيح حين تطبيقها على أرض الواقع. وهنا تكمن الخطوة الأولى في تأهيل الشخص القائم على العملية التربوية أي في كيفية إعداد المعلم الذي يُعدّ محور العملية التربوية برمتها، حتى في أبسط مظاهرها وصولاً لتقدّمها دراسيًا وعلميًا من خلال إعداده مجتمعيًا وثقافيًا وعلميًا وتعلّمه طرق التدريس الضرورية التي تكفل نجاحه وتفاعله مع الطالب ومع العملية التربوية ككلّ لا انفصال فيهما. فالمعلّم في كل المراحل، بحاجة إلى عملية تأهيل صحيحة وإلى اكتساب مهارات كثيرة تعينه لتقديم أفضل ما لديه لتلميذه وكي يحظى بتقدير الأخير واحترام المجتمع والدولة له ولكفاءته. وإنّي شخصيًا ما أزالُ أحتفظ بشيء كثير من الوقار والاحترام والفخر للعديد ممّن علّموني وزرعوا فيّ فضائل الطاعة والحوار والاحترام إلى جانب مختلف العلوم التي استقيتُها بفضلهم والتي بسببها يخطُّ يراعي في هذا المنبر هذه الكلمات وأقطع بها ما تبقى من شوط في الحياة إكرامًا للعلم والمعارف والخبرات التي أعتزّ بها لغاية الساعة. وكلّ هذا بفضل تربيتي المنزلية أولاً وسهر المربين والمعلّمين الذين توالوا على تلقيني ونصحي وإسنادي. من هنا يأتي الاهتمام بدور المعلّم كي يأخذ قسطه من البرامج التدريبية المستمرة وصولاً للارتقاء بوظيفته إلى أفضل ما يستطيع ضمن نطاق قدراته وقابلياته واستعداداته.
حقًا، ينبغي لنا التنويه أن التراجع الذي حصل في العملية التعليمية والتربوية في العراق بعد الاحتلال في 2003 ولغاية الساعة لهو إشارة على تردّي هذه العملية في كلّ مفاصلها. بل إنها تعني من جملة ما تعنيه وفاة سريرية للعملية برمتها لا سيّما وأنّ إدارتَها وسياستها ما تزالُ خاضعة لعمليات مساومة سياسية من قبل أحزاب السلطة بحيث أضحت لا تختلف عن أية إقطاعية أخرى للتنافس بصددها، بسبب ما تشكله الموارد المسخرة لها من أطماع وأموالٍ يسيل لها لعاب الساسة. وأفضل دليل على مثل هذا التراجع يتمثل بوسائل البنى التحتية التي غابت عن الأنظار من مدارس ليس لها من وجود على الأرض في بعض القرى والقصبات والمدن أو تلك التي انتصبت أعمدتُها من دون إكمالها أو حالة الاكتظاظ القائمة في مدارس عديدة تعج بالتلاميذ أو تلك الخالية من أدوات ووسائل إيضاح مناسبة تساعد العملية التربوية مثل الرحلات المدرسية والقرطاسية والمناهج الوطنية والعلمية المستقرّة الهادفة التي ينبغي تهيئتها قبل بداية الدوام في كلّ سنة دراسية. هذا إذا ما أضفنا إلى هذه جميعًا موضوع غياب الجدارة وأصحاب الاختصاص في عملية إعداد المناهج التي تعاني من فوضى وارتباك تختلط فيها مشكلة الدين والمذهب والتقاليد العشائرية والقيم المجتمعية البالية التي تحدّ من تطورّها وبناء الإنسان على أسس وطنية خالصة بعيدًا عن كلّ هذه المؤثرات غير المقبولة لدى الشعوب المتحضّرة التي تنشد العلم والتقنية الحديثة والتنمية والتطور في كلّ شيء، وأولها تنمية الفكر وترويض الرأي وتنقيتهما من كلّ أشكال الشوائب الدينية والطائفية والتعصّب.
فشل الدولة والحلول
هنا، ينبغي على الدولة أن تقرّ بفشلها في صنع عملية تربوية صحيحة وصحيّة بسبب الصراع المذهبي والتنافس السياسيّ غير الشريف الذي استبعد من سياسته وجود أية استراتيجية تربوية للنهوض بالواقع السيّء المتهالك ليأخذ دوره الطبيعي. فغياب البنية التحتية بكلّ فقراتها وضعف تأهيل المعلّم وعدم الاستقرار في المناهج مضافًا إليه تراجع احترام الشخص القائم على التعليم من جانب المجتمع والحملات التشويهية ضد العملية التربوية وضدّ مؤسسات الدولة التعليمية المتعددة من قبل القطاع الخاص دعمًا لمشاريعهم التجارية تجاه تأسيس مدارس وكليات خاصة، كلّها تساهم في تردّي دور الدولة الأساسيّ في دعم العملية التربوية والتعليمية.
كما أنّ المضي غير المبرّر في تقديم تسهيلات وعروض المكرمات من جانب وزارتي التربية والتعليم العالي بهدف تسهيل اجتياز الطلبة الفاشلين بإضافة درجات أو القبول بأداء امتحان الدور الثالث، كلها إشارات على فشل وتعثّر العملية التربوية والتعليمية.
وهنا فقط، على الجهات التنفيذية في الدولة، وحبذا لو توجهت هذه الأخيرة لتشكيل مجلس أعلى للتعليم والتربية في البلاد كي يُعنى بوضع سياسة وطنية قائمة على العلوم والمعارف والخبرات طالما أن الوزارات المعنية غير قادرة على صيانة حقوق الطالب والمعلّم والمؤسسة التعليمية على السواء. فالتغوّل على حقوق هذه العناصر عبر التوجه السهل للسماح بخصخصة التعليم ليس سوى تنصّل من الدولة ومؤسساتها التعليمية عن أداء دورها الإلزامنيّ المطلوب منها. وهنا أخشى مثل غيري، أن تشهد البلاد في السنوات القادمة فراغًا في الكفاءات العلمية والتربوية والإدارية والسيادية والاقتصادية لأجيالٍ بكاملها ولأسباب عدة، منها مغادرة الكفاءات التي تسلحت في الماضي بشتى العلوم والخبرات إلى بلدان المهجر من غير رجعة بسبب عدم استعداد الجهاز التنفيذي للدولة بطاقمه المحصّصاتي القائم منذ السقوط في 2003 لكون هؤلاء المغادرين أفضل من الباقين ومن أتباعهم الجهلة الذين تولوا مراتب ومناصب ليست من حقهم. وكذلك بسبب ضعف التعليم القائم وغياب الخبرات المكتسبة سيّما وأنّ أغلب الذين تدّعي الدولة ومؤسساتها خضوعهم لدورات تدريبية وتأهيلية لا تعدو كونها سفرات سياحية للترفيه وكسب مخصصات السفر وزيارة الأهل والأقرباء في الدولة المختارة. وأتحدى أن يُقال بغير هذه الحقائق.
صحيحٌ أن العملية التربوية بدأت في الانتكاسة والركود والإهمال بعض الشيء في عقد الثمانينات حين انشغلت الدولة ومؤسساتها في الدفاع عن الأرض والعرض وصيانة التراب التي استلزمت وقفة وطنية بوجه الشرّ القادم من الشرق، وبعدها بسبب ما عانته البلاد من شرور الحصار الدولي. إلاّ أن مؤسساتها كانت لا تزال قائمة، ومن الإشارة إليها وإلى تفاعلها تحقيقُ القضاء على الأمّية تمامًا وعدّ العراق من أفضل البلدان في المنطقة في التعليم ولاسيّما جامعات البلاد المتقدمة. فيما اليوم ربع البلاد تعاني من أمّية قاتلة ومن تخلّف وتراجع في العلوم وفي القراءة والكتابة. ودليلُنا على ذلك، عدم قدرة العديد ممّن تسنموا مواقع المسؤولية في البلاد بعد 2003 على إجادة القراءة والكتابة أو إنّ إجادتهم غير كافية ومن ثمّ فقد استأثروا بدعم الأحزاب التي ينتمون إليها أو تبجحوا بأسباب وحجج ركيكة أخرى بها يدّعون التضحية والخسارة والشهادة. ولا مناص من التذكير بتقديم العديدين من أمثال هؤلاء شهادات مزوّرة أو أخرى ليس لها علاقة بالاقتصاد والإدارة والعلوم والمعارف التي أصبحوا مسؤولين على إدارة مؤسسات مهمة من غير كفاءة ومن دون وجه حق. وآن الأوان للنظر في كلّ هذه وتلك من منطلق الحرص الوطني ومصلحة البلاد العليا وإلّا فلنْ تقوم للعراق قائمة من غير صحوة جديدة تطالب بتصفية البندر وفرز الشوك والعوسج والزؤان من الحنطة الوطنية الخالصة التي تنتمي للوطن وتجلّ ارضَه وتحفظ كرامة المواطن وتعطي لكلّ ذي حقٍّ حقَّه بعيدًا عن سياسة المحاصصة والمحسوبية والمنسوبية والعشائرية والحزبية والطائفية والدينية والعرقية.
-------------------------------------font>
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة