خواطر
وكتابات عامة
إعادة هندسة الدولة العراقية بإطار وطني
لويس اقليمس
28
تشرين الاول 2019
تطورُ الأحداث وتفاعلُها منذ يوم 25 تشرين اول 2019 وما تلاها لا يترك مجالاً للشكّ بشهادة الجميع على ثورة شعبية عارمة وانتفاضة وطنية عفوية من كافة قطاعات الشعب هذه المرة. فقد برز في ساحات الاحتجاج مؤخرًا، فئات من شباب عاطل باحث عن حقوق مشروعة ومن نخب اقتصادية وقانونية وأكاديمية ومن عامة الناس من كلا الجنسين ممّن ذاقوا الأمرّين وضاقوا ذرعًا على أيدي طبقة سياسية فاسدة لا تمتّ في أغلب شخوصها للوطن وأرضه ومصالحه أرادت إزاحته عن محيطه العربي الطبيعي وتعددية مكوناته التي تشكل فسيفساءَه الغني بتاريخه وحضارته.
اليوم، تخرج نخب اقتصادية وطلابية وأخرى متوقعة غيرُها مشاركة وداعمةً للحراك الشعبي الذي يطالب بتنحي أحزاب السلطة وأركان الفساد ممّن ارتضوا أن يمسخوا ضمائرهم ويلوثوا أياديهم بالمال الحرام واستغلال البسطاء بحجة حماية الدين والدفاع عن المذهب والطائفة أو بحجة المظلومية السياسية والمذهبية التي أضحت شمّاعة للكثيرين ممّن تمتعوا بدعم فاسدي السلطة بامتيازات ومرتبات لا حدود لها. كلّ الذين ارتضوا ركوب مراكب الفساد وخيانة الوطن والشعب ومَن وقف في صفوفهم ممّن ادّعوا على طول مسيرة السنين السبع عشرة التي انقضت من عمر العراق والعراقيين، ومنهم المصرّون لغاية الساعة على سياسة التطبيل بقطع الوعود والتسويف والضحك على ذقون البسطاء الذين خسروا أغلى ما عندهم، مازالوا يحاولون بكلّ الطرق والوسائل قمع الانتفاضة الشعبية الصاعدة المتواصلة ووأد أحلام الشعب الثائر وحرمانه من حلمٍ ببسمة قادمة على شفاه الأبرياء وعباد الله البسطاء كي تشفي جراح الأمس المظلم بكل جرمه وكلّ فساده وكلّ سطوته.
لقد صحا الشعب من جديد لاستعادة حقوقه وكرامته وفرحته وليعيد للوطن حضارته وقيمه وعروبته وللطفل والفتوة والشيب والشباب بسمتَهم المفقودة منذ عقود. ثورة شعبية عارمة بكلّ المقاييس تكفي لأخذ الدروس والعبر والاستجابة لجميع المطالب ولتحقيق أملها بضرورة رحيل أحزاب السلطة ومَن خاب ظنُّ الشعب بهم بعد الوقوع في فخّ إعادة انتخاب ذات الشلّة من زعامات الأحزاب وأزلامهم وأتباعهم من الذين تغوّلوا وتنمروا واستخفوا بالشعب وبحقوقه وبثروات بلاده بلا وازع ولا ضمير ولا حدود. ولا أعتقد بعودة الأوضاع بعدُ إلى حالة التهدئة والركون للوعود الرنانة ولأبواق الإصلاحات الترميمية التي لن تجدي نفعًا بعد اتساع مساحات الاحتجاج ورفع سقف المطالب التي لن تتنازل بأقلّ من استقالة الحكومة الهزيلة، التي عُرفت بحكومة بيع المناصب وتعزيز المحاصصة وتوزيع الإقطاعيات الربحية والنفعية على فصائل مسلحة وميليشياوية تمرّست واستأسدت وتغلغلت في عمق الدولة بدعم واضح من جهة مهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد.
من هنا، فقد أيقن الجميع وفي مقدمتهم النخب الواعية منذ سنوات بأنّ الخلل يكمن في النظام السياسي القائم على المحاصصة وتقاسم السلطة والثروة والمناصب بين أحزابٍ جلّ همّها وكلّ غايتها السطو على مقدرات البلاد بحجة الدستور القاصر وغير الوطني الذي يعلم الجميع تضمينه فخاخًا قاتلة وقنابل موقوتة قابلة الانفجار في أية لحظة أرادها المحتل الأمريكي أن تكون أدوات قاتلة لعدم استقرار العراق والمنطقة بمكر الحاكم بريمر سيّء الصيت وأدوات الأحزاب والكتل التي راهنت على هذا الدستور لتحقيق مكاسبها والإبقاء على مغانمها ما شاء القدر. إنها أزمة نظام سياسيّ فاسد لم يعد للشعب قدرة على تحمّل المزيد من مفاسده وآن الأوان كي يقدّم أركان العملية السياسية اعتذارهم جماعيًا من الشعب ولخيانتهم لأمانة الوطن عبر احتقار شعب بكامله والاستخفاف بعقله بحجة حماية الدين والطائفة والقومية والمذهب. والأجدر بهؤلاء الركون لتلبية المطالب والتنحي بعيدًا عن الأنظار وللأبد والتمتع بالشجاعة الكافية لقول كلمة الحق بوجه الظلم وإزالة الغشاوة من العيون وقهر الخوف من قلوبهم والوقوف بوجه ميلشيات السلطة والفصائل المسلحة والجماعات المنفلتة التي تشكل الدولة العميقة في سلوكياتها وهي التي تقود عمليات القتل والقنص والترهيب والتهديد بحق المتظاهرين والناشطين والكتاب ووسائل الإعلام ومراسليهم بحجة اتهامها بالتحريض فيما هي تنشر الحقيقة وتطلع المواطنين والعالم على حقيقة ما يجري خلف الكواليس وفي الدهاليز المظلمة للجهات التي تريد قمع المتظاهرين بأي ثمن وبأية وسيلة بالرغم من تفاعل الشعب والعالم والأمم المتحدة مع الحق الشرعي لإبداء الرأي وفي التعبير وكشف الحقائق.
لقد قال الشعب كلمته وهو مصدر السلطة بعد أن فقد الثقة والمصداقية بساسته وممثليه ممّن لعبوا بمقدراته وبعقله واستباحوا حقوقه المشروعة بوطن يتفيؤون تحت ظلاله الوارفة بأمن وسلام وطمأنينة. وإذْ خذلت الشجاعةُ مّن ائتمنوا على السهر على حقوق شعب العراق الطيب بطينته العروبية المجبولة بحضاراته العريقة من عهد بابل وسومر وآشور، ومرورًا بعهد إبراهيم أبي الأنبياء، فقد آن الأوان لكسر الأغلال واكتساح جحور الفساد والفاسدين والاقتصاص من كلّ مَن خرج عن طيبة عباد الرحمن وأثرى على حساب الشعب من دون وجه حق واستعادة أموال البلاد المسلوبة التي تقاسمتها أحزاب السلطة في دستور المحاصصة، ومن ثمّ استرداد الدولة لعقاراتها التي بيعت لهؤلاء بأبخس الأثمان أو سطت عليها حيتان الأحزاب والكتل السياسية وأتباعُها وأذياُلها من دون وجه حقّ. فالكلّ مثل الكلّ، عملوا في هذا الاتجاه الخاطئ وباعتراف صريح وواضح من العديد ممّن تولوا مسؤوليات في الدولة العراقية ما بعد الغزو الأميركي المقيت. فالفساد من دون شك، أصبح اليوم حديث الشارع وهمّ المواطن الأكبر الذي يتطلّع لصحوة حقيقية لأجهزة القضاء وأدواته في تشخيص الفاسدين ومحاسبة كلّ مَن تثبت إدانتُه بالأدلّة الدامغة في ضوء المتيسر والسائد والبادي للعيان من ملفات ووقائع وثراء فاحش غير مبرّر للكثيرين ممّن شاركوا أو كانوا جزءًا من العملية السياسية الفاسدة والفاشلة في عراق ما بعد 2003 وعبر تعاقب الحكومات الشيعية الطائفية المتعاقبة.
صوت الحق
إنّ صوت الحق لن يخفت بعد اليوم ولا يمكن ان يخفت البتة، طالما بقي نفر كبير من الفاسدين والمفسدين في البلاد أحرارًا من دون محاسبة ولا عقاب. أمّا محاسبة صغار الفاسدين، فلن يحلّ المشكلة ما لم تطال يدُ القضاء المستقلّ كبار الفاسدين وحيتانهم الذين يخشى البعضُ من رجاله التطرق لفسادهم وتشخيصهم والاكتفاء بتلميحات غامضة وكأنهم أشباح قادمون من الفضاء. فلو عاد حمورابي اليوم بمسلّته وقوانينه الوضعية الصارمة حفاظًا على حقوق مواطنيه، لأعاد للعراق هيبتَه وللشعب كرامته وللحكومة مصداقيتها وللمحرومين حقوقهم وللعلماء والمثقفين استحقاقاتهم المشروعة. وهذا ما نطمح إليه جميعُنا.
قصارى القول، تحتاج البلاد إلى إعادة هندسة من أجل بناء دولة مدنية جديدة متطورة وفق المعايير الدولية وعلى أسس حديثة لمواجهة التحديات بالاعتماد على مهندسين أكفاء قادرين على تحمّل مسؤولية إعادة البناء الشامل، في الفكر والعقلية والتربية والعلوم، وما أكثرهم لو تمّ التعويل على كفاءاتهم الوطنية والعلمية والأكاديمية والبحث عنهم في بلدان الاغتراب وفي أسواق البلاد والساحات العامة.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة