خواطر
وكتابات عامة
في العراق، عطلة
عيد الميلاد من رسائل الاطمئنان للمسيحيين
لويس اقليمس
31
تشرين الاول 2018
تلقى العراقيون والمسيحيون منهم بصورة خاصة بمزيد من الارتياح، إعلان الحكومة العرقية ليوم 25 من شهر كانون أول من كلّ عام عطلة رسمية لكلّ العراقيين لمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح بموجب قانون يجري سنّه. وفيما عدّها الكثيرون من ضمن رسائل الاطمئنان الموجهة لأتباع المكوّن المسيحي، رأى فيها غيرُهم تعبيرًا عمّا يتحدث به الساسة والمسؤولون في الدولة العراقية بكون المسيحيين مكونًا أصيلاً وفاعلاً في بناء تاريخ العراق ورفد حضارته في الماضي والحاضر بعصارة حبهم لوطنهم وبشدة انتمائهم إليه ومن ثمّ بتمسكهم بالأرض وجذورها الطيبة.
في الحقيقة، يأتي هذا الإعلان المفرح تتويجًا لجهود رأس كنيسة العراق، المتمثلة بغبطة البطريرك - الكاردينال لويس ساكو الذي ما انفكّ يجاهد في سبيل إعلاء شأن الوطن والدفاع عن جميع أبنائه من دون تمييز ولا اختلاف إلاّ في الرؤية الوطنية الحقيقية وفي معيار الجدارة وحب الانتماء للوطن التي يسعى غبطتُه مع كلّ الطيبين والوطنيين لزرعها ونشرها في صفوف جميع الأطياف والمكوّنات. وهناك إجماعٌ مجتمعي ونخبويّ وشعبيّ باعتماد المواطنة معيارًا صحيحًا في تقييم المواطن وأدائه وفي عيشها بضمير وطنيّ حيّ خدمة للوطن والشعب.
فالوطن يبقى القاسم المشترك الذي يأوي الجميع تحت أفيائه ويحمي كلّ أبنائه من دون تمييز مهما كان الاختلاف في الرأي والمنهج والدين والمذهب، تمامًا كما الدجاجة تحمي صغارها تحت جناحيها ولا تفرّق في لون ريشها. هكذا هي أجنحة الوطن شامخة شموخ النخيل، واسعة سعة المحيطات، وارفة الظلال، مريحة، جميلة، دافئة شتاءً ومنعشة صيفًا.
قد تكون أجواء أعياد الميلاد مختلفة بعض الشيء هذا العام.
فالكثير من الشوارع والأزقة والمحلات التجارية وواجهات الساحات العامة والمباني والمنتديات والمطاعم وحتى العديد من دوائر الدولة الرسمية قد شهدت مظاهر الفرح والبهجة بهذه المناسبة الجميلة التي أصبحت رمزًا للتآخي والتآلف والاجتماع. والأهمّ في احتفالات هذا العام، تلك المشاركة الوجدانية من فئات كثيرة من العائلات العراقية التي جالت الأسواق لتتبضّع ما يضفي مزيدًا من البهجة احتفاء بالعيد ولاسيّما رموز الميلاد "بابا نويل" الأسطوري وأشجار الميلاد وزينتها التي تنوعت شكلاً ولونًا وحجمًا عبر منافسات لم تشهدها الأسواق العراقية من قبلُ. وهذا ما أضفى بهجة وسعادة على العيد والمحتفلين به من داخل المكوّن المسيحي ومن مواطنيهم وجيرانهم وأحبائهم من المكوّنات الأخرى ولاسيّما المسلمين بصورة خاصة، ممّن تمنّوها مناسبة لإعادة لمّ اللحمة المجتمعية التي خفتت في السنوات الأخيرة بسبب تصاعد موجات التطرّف وبروز النعرات الطائفية وأشكال التمييز والإقصاء. عبارات جميلة سمعتُها شخصيًا من مواطنين ومن مثقفين، وأخرى تلقيتُها من أصدقاء وجيران أو قرأتها عبر صفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي المختفة. وكلُها تدعو للتفاؤل بمستقبل واعد للعراق، وفيها ما يشير حتمًا لصحوة وطنية في صفوف المواطنين الذين أخذوا يتفاعلون مع الأحداث وينشدون خروج البلاد من النفق المظلم الذي ضاعوا فيه بسبب ظلامية المحاصصة وفساد الساسة وتمهّل القضاء بأخذ دوره كما يجب.
هكذا بدا الشعور الوطني عبر المشاركة الوجدانية للمواطنين عامة، المعبّرة عن المحبة القائمة منذ الأزل في وسط النسيج الاجتماعي المتآلف عبر التاريخ. هذا النسيج الطيبُ الجذور الذي جرحه الدخلاء المتطرفون وأهانه الأغراب المفسدون في الأرض عندما زرعوا فيه أشواكًا وحسكًا وأذاقوا مَن فيه مِن أبناء الأقليات الدينية الأخرى مرارة الهجر والنزوح والتهديد والقتل والتهميش والإقصاء والتمييز.
والأجمل في المشاركة الوجدانية والاجتماعية البارزة في هذا العام، الشعور المتبادل بين أتراب الوطن الواحد في الرؤية الوطنية والمجتمعية بضرورة مشاركة الآخر فرحته ومقاسمته حزنه على السواء في المواسم والشعائر والأعياد والمناسبات التقليدية الشعبية. كيف لا، وقد خصّ القرآن الكريم السيد المسيح له المجد، بالكثير من الآيات التي تمجّد اسمَه وترفع من مرتبته النبوية والرسولية وسط سائر الأنبياء والمرسلين.
زيارة البابا بادرة أمل ورسالة اطمئنان إضافية
أما الحدث الأهم الذي يتطلع إليه الجميع، حكومة وشعبًا في هذه الأيام المباركة، وبات في حكم التهيئة اللوجستية والبروتوكولية، فهو الزيارة المرتقبة لبابا روما، الحبر الأعظم فرنسيس إلى العراق في العام القادم.
فقد تزامنت فرحة الأعياد مع زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين الذي هو بمثابة رئيس وزراء لأصغر دولة في العالم، للبلاد ولقائه بالسيدين رئيس جمهورية ودولة رئيس الوزراء العراق، وتأكيد الأخيرين لعرى الصداقة والمحبة والتآلف التي تجمع العراقيين والنظرة الرسمية تجاه المسيحيين بكونهم المكوّن الأصيل ضمن مكوّنات الشعب العراقي.
قد تكون هذه الإلتفاتة المهمة من لدن بابا الفاتيكان، علامة رجاء جديدة لمسيحيّي العراق والشرق ورسالة إضافية للاطمئنان بضرورة التشبث بأرض الآباء والأجداد بالرغم ممّا جرى لهم من ويلات ومصاعب ومتاعب عبر حروب عبثية طيلة الحِقَب المتتالية من حكم البلاد ونتيجة لنزاعات طائفية مقيتة بعد الاحتلال في 2003 وأخيرًا بسبب عمليات التهجير والنزوح التي وقعت على أيدي تنظيم داعش الإرهابي الذي اقترف أبشع الجرائم بحق أبناء هذا المكوّن وغيره من الأقليات الدينية الأخرى، ما أفرغ البلاد من الكثير منهم.
ففي الوقت الذي كان عديدُهم في الثمانينات من القرن الماضي أكثر من مليون وربع مواطن، باتوا يعدّون اليوم بين ثلاثمائة إلى أربعمائة ألف مؤمن بحسب ترجيحات غير رسمية.
فقد اضطر الكثير من هؤلاء الذين فقدوا ممتلكاتهم وطُردوا من مساكنهم وهُجّروا بين ليلة وضحاها للجوء إلى بلدان الاغتراب ومغادرة البلاد بسبب الفوضى الخلاّقة التي زرعها الاحتلال الأمريكي منذ 2003 وقدوم دخلاء على الوطن ليديروا دفته بعيدًا عن الحرص الوطني وخروجًا عن أخلاقيات الضمير الإنساني وإيغالاً في سرقة وهدر المال العام.
في ذات السياق، تأتي كلمات اللطف والمشاعر الطيبة والتمنيات التي صدرت من لدن السيدين رئيسي الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي خلال استقبالهم لأمين سرّ دولة الفاتيكان وترحيبهما بزيارة البابا، بمثابة تداوي للجراح التي ألمّت بأبناء هذا المكوّن من خلال سعي جهات دخيلة لاقتلاعه من جذوره أو بواسطة أغراب لا يمتّون بصلة للنسيج المجتمعي التقليدي المتآلف في أرض العراق الطيبة.
فمن حيث السلطة الكنسية والروحية، يجمع بابا الفاتيكان تحت سلطته الكنسية أكثر من مليار وربع من الكاثوليك متوزعين في جميع أصقاع الأرض وفي جميع بلدان العالم. ومن هنا تأتي أهمية هذه الزيارة لكونه رمزًا دينيًا وإنسانيًا وروحيًا ودوليًا له كلمتُه التي يمكن أن تهزّ عروش الزعماء والبشر على السواء. فيما يمكن أن تسهم هذه الزيارة الميمونة برفع معنويات المسيحيين خاصةً والعراقيين عامة باتجاه ضرورة التجذّر بأرض الآباء والأجداد، وفي جدوى الالتفاف حول الوطن، وفي التوجه نحو بنائه بروح وطنية وعلى أسسٍ إنسانية بعيدة عن روح التعصّب والتطرّف والأنانية.
في رأيي المتواضع، أنّ هذه الرسائل جميعًا بحاجة لتعزيزها برسائل أخرى أكثر اطمئنانًا، ليس لصالح أبناء المكوّن المسيحي فحسب، بل كي تشمل جميع شرائح وأطياف الشعب العراقي المنكوب وبخاصة منهم الأقليات التي تعرّضت لنكبات في نسيجها وتركيبتها وممتلكاتها وكرامتها.
ومن رسائل الاطمئنان المنتظرة بالأفعال وليس بالأقوال:
- تعويض الدولة للمتضررين من النازحين والمهجّرين في الدور والممتلكات والمصالح سواء بسبب جرائم داعش أو نتيجة للعمليات العسكرية.
- إعادة النظر بالمناهج الدراسية التي تحرّض على الفتنة وتميّز بين فئات الشعب بسبب الدين والمذهب والعرق وفيها نبرة تطرّف توحي بفكر مريض وأزمة في تقبّل الآخر.
- إنصاف أتباع المكوّنات الدينية غير المسلمة التي تناقصت أعدادُها ومنهم المسيحيين والإيزيديين والصابئة وغيرهم للأسباب التي لا تخفى على أحد في مسألة تولّي المناصب في الدولة بعيدًا عن أساليب المحاصصة المتبعة في الحكومات المتعاقبة منذ السقوط في 2003.
- احترام التعددية الدينية والمذهبية والإتنية والفكرية وعدّها جميعًا مصدر قوّة وغنى للبلاد وليس ضعفًا، وإشاعة ثقافة الحوار والتفاهم وتطبيق مبادئ السلم والمحبة والعدالة والمساواة واحترام كرامة الغير المختلف وصولاً إلى العيش المشترك الكريم للجميع.
تلكم من رسائل الاطمئنان التي ينتظرها الشعب عندما يتخلّى الساسة وأصحاب النفوذ وزعماء الأحزاب عن نواياهم الخبيثة اللاوطنية التي تشقّ صفوف الشعب، فيتجهوا عوض الركض وراء مصالحهم الضيقة الشخصية والمذهبية والحزبية نحو بناء دولة مؤسسات فيها يُحترم الجميع على أساس المساواة والعدالة بلا تمييز ولا إقصاء بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والطائفة، إلاّ في مقياس الجدارة والكفاءة والانتماء للوطن.
هذا ما ينبغي أن نسعى إليه جميعًا مع كلّ ذوي الإرادات الصالحة وأصحاب النوايا الحسنة وصولاً لتعزيز عرى التعايش السلمي المشترك الذي افتقده العراقيون.
عسى أن تتحقق أمنية رئيس البلاد برهم صالح ودعوته بالترتيب لعقد مؤتمر للحوار بين الأديان والطوائف في مدينة أور لمناسبة الزيارة المرتقبة لبابا الفاتيكان للعراق في العام المقبل، فتكون أرض النبي إبراهيم منطلقًا لاستئصال الفكر المتطرّف الأعمى ولتعزيز وحدة الصف وبناء السلم الأهلي وعودة اللحمة الوطنية والمجتمعية بين المكونات العراقية لمجابهة الدخلاء ووضع حدود لسارقي ثروات البلاد والمفسدين وسارقي قوت الشعب والمتاجرين بقضاياه ومآسيه.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة