خواطر
وكتابات عامة
هواجس الوجود المسيحي في العراق: سيُقال
كان في هذه الأرض مسيحيون!ج2
لويس اقليمس
7
ايلول 2017
- الجزء الثاني -
تناولنا في القسم الأول، ما يثير قلق أتباع الأقليات، ومنهم المسيحيين بصورة خاصة، من منغصات ومخاوف حول مستقبل وجودهم وما يرسمه القدر وأرباب السياسات من مصير مجهول يقضّ مضاجعهم ويضعهم هذا المصير على المحك. كما تطرقنا إلى الرسالة المسيحية وتجذّرها في المنطقة وفي المجتمع العراقي بصورة خاصة، والتي من مبادئها زرع بذور المحبة والرحمة من حيث انفتاحها على البشر جميعًا. في الجزء الثاني والأخير، نتناول دور الرعاة الكنسيين عبر التاريخ والتحديات التي تواجه هذا المكوّن الأصيل وهو اليوم في مفترق طرق صعب. ونختم المقال برؤية وطنية، هي أمنية كلّ مواطن نزيه يحب بلده ويضع مصلحتَه فوق أية مصلحة فئوية أو شخصية ضيقة.
دور الراعي في رعيته
كما نعلم، أنه في بدايات المسيحية الأولى وفي أيام انتشارها الرسولي وحتى مطلع القرن السابع عشر، ظلّت العقيدة النسطورية مهيمنة على جزء كبير من مدن العراق وبلداته، إلى جانب المذهب اليعقوبي (الأرثوذكسي) في بعض أجزائه، مع التزام الجماعتين باللغة السريانية التي ألهمت القائمين على كلتا الكنيستين بالسهر الدائم والحرص الرعوي على الرعايا وجماعاتهم. فكان الرئيس الأعلى للكنيسة من كلا الشقين، قائدًا روحيًا وراعيًا إيمانيًا وأبًا ساهرًا على حياة أتباعه وباحثًا عن حلولٍ لمشاكلهم ومدافعًا عنيدًا عن حقوقهم ومؤازِرًا متضامنًا معه في حياتهم اليومية مع بعضهم البعض ومع جيرانهم. أي أنّ الرأس في موقع المسؤولية الكبيرة، كان متهيّبًا من عظم المسؤولية الملقاة في أعناقه. بل كادَ أن يخشى عدم قدرته على مجابهة الصعوبات والتحديات التي يتوقع مواجهتَها بسبب ظاهرة الاضطهادات التي كانت تطال أتباع هذه الديانة على مرّ تاريخها، ليسَ خوفًا على روحه ونفسه وشخصه، بل من هاجس عدم القدرة على تأدية واجب المسؤولية التي تفرض عليه أن يكون خادمًا للجميع في ارتقائه لمسؤولية الجماعة ومستعدًّا للشهادة عن خرافه. فمسؤولية الجماعة كانت تعني، من جملة ما تعنيه، استعداد الراعي للتضحية بنفسه في سبيل الرعية، والقبول بتحمّل الشهادة عوضًا عنها، في أيّ وقت وأي زمنٍ قد يقلب الحاكم أو الملك ظهر المجنّ وينكّل بالأتباع لأيّ سبب كان. والشواهد في التاريخ كثيرة.
لذا لا عجبَ أن نقرأَ مثلاً، تهيّبَ الكثيرين ممّن وقع عليهم الاختيار كي يسوسوا الرعية، وتوجسَهم من تحمّل المسؤولية، بسبب عظم هذه الأخيرة التي كانوا يستشعرون بها، وكذا بسبب ضخامة العمل الذي كان في انتظارهم، الأدبي منه والروحي والأخلاقي والمادّي والجسديّ، على السواء. وهذا ما كان مطلوبًا من الرئيس الكنسيّ في مواجهة الصعاب مع الشارع والدولة والحاكم، بل حتى مع زملائه ومقرّبيه في مواقع الكهنوت المختلفة لأسباب عديدة.
بالمقابل، لا يمكن نكران حصول صراعات واحتدام نزاعات بسبب رغبة البعض بتقلّد مواقع الزعامة لأسباب شخصية وأخرى عائلية أو تحزبّية ضيقة. فقد كان لمثل هذه التصرفات والسلوكيات والنوازع، آثارٌ سلبية على حياة الرعية والجماعة، وعلى سير يوميات الإيمان في الكنائس والأديرة والمراكز الروحية والتثقيفية والعلمية واللاهوتية والأدبية. ولنا من هذه الأمثلة والنماذج، الكثيرُ في تاريخ كنيسة المشرق السريانية بفرعيها، وحتى بعد تحوّل جماعات من أتباعهما إلى الكثلكة بفعل تدخّل الإرساليات التبشيرية المتعددة التي لم تتورّع في إقامة الدسائس ونشر الفتن مع المختلفين والمقاومين لمعتقدهم، من الكاثوليك أو الانكليكان على السواء. ومازال هناك مَن يمنّي النفس ببلوغ السلطة الأسقفية ويسعى إليها بشتى الوسائل والطرق، حبَّا بالظهور وسعيًا للجاه والسلطة وما بين حنايا الأخيرة. وشتّانَ بين اشتهاء الرئاسة من الرعاة الصالحين والخدام الحقيقيين للرعية بالأمس، وما بين نفرٍ ممّن زادت شهوتُهم حدود المقبولية في هذه الأيام المنقلبة!
كنيسة العراق في مفترق طرق صعبة
اليوم، وبعد المآسي الكثيرة التي خبرتها الجماعات المسيحية ورئاستُها غير المتوافقة مع بعضها في العديد من الرؤى والهموم المشتركة في العراق، على تنوع هذه الكنائس، وعلى اختلاف الرؤى التي تتبناها هذه الرئاسات في تسيير دفة الأتباع وفي التفاهم مع الكنائس الشقيقة، يمكننا القول أنَّ كنيسة العراق أمام مفترق طرق يصعب التكهّن بمستقبلها ومصيرها. لقد دقّ الجميع نواقيس الخطر، بعد أن أنذر الكثيرون منذ زمنٍ، بشؤمٍ قادمٍ غير محسوب النتائج. فتراجعُ الوجود المسيحي في هذا البلد لأعداد كارثية، جديرٌ أن يُؤخذ بعين الحساب وبكثيرٍ من جوانب الخطر الذي يكتنف هذا الوجود الذي حافظت عليه أجيالٌ وأبطالٌ وهاماتٌ لغاية اليوم. فالوضعُ يُنذر بمصيرٍ مجهول، بل الوجود ذاتُه متوجه نحو الاختفاء والانقراض، بحسب الأحداث والبيانات أمام الأنظار وعلى أرض الواقع. وهذا ما نخشاه، لا سمح الله. فحقبة ما بعد داعش وما هو مخطَّطٌ له دوليًا في كواليس السياسة وفي مطابخ الساسة وكارتلات الاقتصاد، لا يمكن التنبّؤُ به. فقد تلد الأحداث ما لا تُحمدُ عقباهُ!
من جملة ما يعنيه التراجع القائم في الأعداد، التنصّل بطريقة أو بأخرى، بعدم حفظ الوديعة التي أوكلها الآباء والأجداد لأجيالهم عبر رئاساتهم الكنسية، أوّلًا ومَن يدّعي الدفاع عن الأتباع في دكاكين الأحزاب الفئوية، شأنُها شأن أحزاب الإسلام السياسيّ القائمة وغيرها من الأحزاب الطائفية التي تُحكم قبضتَها على مقاليد السلطة وبوّابات الجاه والمال والاقتصاد. ومن شأن هذا إن حصل، إسدالُ الستار عن أمانةٍ تقع على عاتق أعناق الجميع وضمائرهم، من رئاساتٍ كنسية أولاً، ومن أحزاب "مسيحية" أو "قومية متعصّبة تدّعي المسيحية" وتسعى لاستغلال الكنيسة لمصالحها ثانيًا، ومن مؤمنين ونشطاء مدنيين ومثقفين على السواء ثالثًا، ورابعًا وليسَ آخرًا الدول والكنائس الأخرى والجمعيات والمنظمات المسيحية وغير المسيحية التي تتفرجّ على النتائج الكارثية التي حلّت بواحدٍ من أهمّ البلدان في المنطقة التي دخلت فيها المسيحية ونمت وترعرت عبر كنائس وديارات ومزارات ومراكز ومدارس حملت معها عطورًا طيبة ومناهلَ صافية من ثقافة وتراث وحضارة وأخلاق تميّز بها المؤمنون عن سائر الجماعات في حياتهم الخاصة والعامّة.
خوفي وخوفُ العديدين، أن يُسدلَ التاريخُ والأحداث الأخيرة، الستارَ عن الهوية المسيحية، مرة أخرى، تمامًا كما حصل لها في مناطق ومواقع عراقية كانت بالأمس غنية بوجودهم، عنيدة بمقدرتهم، زاخرة بعطائهم الكبير. واليوم أضحت تلك، آثارًا وبقايا أبنية وخرائب في مناطق مترامية من أرض السواد العراقي. فيما يعمل الآثاريون والمتهمّون على جعلها مواقعَ سياحية جذبًا للأنظار واستدرارًا للحنين للأيام الخوالي، وكأنّي بهم يؤكدون توثيق حقبة تاريخية، كما فعل غيرُهم بتهيئة متاحف تشهد لذلك التاريخ المنقرض. أختام الشمع الأحمر المستقبلية التي يعدُّها التاريخ واللاّعبون الكبار فيه، إعلانًا بانتهاء الدور المسيحي وتاريخ المسيحية في العراق في قوادمِ السنين، ستكون خسارة كبيرة لما تبقى من آثار الهوية المسيحية المشرقية الرسولية وإنهاء دورها الريادي على مدى الأزمان والقرون والأجيال في بناء الأوطان، ومنها العراق.
فنحنُ أمام أطرافٍ عديدة:
منها من هي قاسية القلب وغير مكترثة دوليًا، ومنها من أثبتت أنها سلطوية ومتعصّبة العمل كنسيًا، وأخرى أنانية بفعلها وممارساتها، وغيرُها محبَطة وخائبة مسيحيًا.
ختامًا:
إننا ندرك تمامًا ما في الأفق وخلف الكواليس، وما يجري في مطابخ السياسة الكبيرة. فالأسياد يعدّون لطبخة صاخبة وقاسية لسيناريوهات جديدة بشأن ما تبقى أو سيتبقى من أتباع المسيحية وسائر الجماعات الدينية والعرقية، التي غدرَ بها الزمن وأحالَها إلى مكوّنات قليلة العدد اصطبغت بتسمية "الأقليات"، كما أرادها الأسياد، للمزيد من الإهانة وبهدف الاستخفاف بحقوقها والمتاجرة بمصيرها ومستقبلها، في الداخل وفي بلدان الشتات. فموجات الهجرة المخيفة التي نشهدها كلّ يوم، نتيجةً للضغوط الكثيرة وخيبات الأمل المتلاحقة والإرهاصات الكثيرة في التعامل مع هذه الجماعات المسالمة جميعًا، والمكوّن المسيحي بالذات على تنوع طقوس أتباعهم ومللهم ورئاساتهم، كلُّها إشارات سلبية لا تبشّر بخير، مهما ثابرَ وصبرَ ودعا الخيّرون والطيبون إلى وقف هذه المنغّصات ووضع حدود لمثيريها ومسبّبيها. فالمشكلة أعظم ممّا يتصوّرُه العديدون، حتى كاتبُ هذه السطور. فالمسألة هي مسألة حياة إنسانية حرّة كريمة وآمنة، أو موت بطيء لا يُعرف شكلُه وأوانُه وطريقتُه، أو انتظار معجزة، وعصر المعجزات ولّى ولن يعود!
لذا، ومن أجل إعطاء قدرٍ وافٍ من بصيص الأمل لما تبقى من هذه الجماعات المتناقصة التي آثرت سلك طريق الهجرة لشديد ما عانت منه من مآسٍ طالت جوهرَها ووجودَه وهويتَها، بالرغم من وطنيتها المشهودة، لا بدّ من بذل المزيد من الجهود لتبيان هذا الأمل حفاضًا على جذورها وأصالتها وتراثها وهويتها المتميّزة. فالعراقيون أمام امتحان عسير: إمّا أن يكونوا أوفياء لمواطنيتهم التي امتازوا بها طيلة تاريخهم المعهود في العيش المشترك الذي تناغم مع تعدديتهم الدينية والمذهبية والعرقية التي شكّلت خارطة البلاد وجغرافيتها وتراثها وهويتها العراقية، أو قراءة الفاتحة على ذلك الجبل الأشمّ الذي أُريد له أن يسقط، تمامًا كما يسقط الفارس من صهوة جواده، فينكسر ويخسر السباق بدل إكمال مسيرة الحياة الحضارية التي عرفه بها التاريخ، وما تزال بعضُ شواخصها قائمة بالرغم من إعمال يد الخراب والدمار بها على أيدي كواسر العصر من خوارج التطرّف المتشدّد الذي شوّه المقدّسات وحطَّ من قدر العفيفات وأراد العودة بالإنسان والبشرية إلى سوداوية عصور القبلية ووأد البنات وإلغاء الآخر المختلف عن ايديولوجيته العفنة والمتخلّفة.
لكنّ الشرفاء سيختارون الأصلح وسوف يعملون قريبًا على إعادة البيت الذي جرى تخريبه من جديد إلى عهد جبروته السابق، زاخرًا بالمجد والأنفة والمواطنة التي تقدّس العيش المشترك وتحترم خيار جميع المكوّنات وأديانها وأعراقها ومذاهبها، في إطار دولة مدنية متحضّرة مبنية على أساس المساواة والعدل والمحبة والاحترام. فالحلّ لن يأتي به الغريب ولا الأسياد الطامعون به ولا الغشاشون ولا اللصوص القادمون من خارج الأسوار الذين نهبوا الخيرات وحطّموا اللحمة المجتمعية وكسروا عصا العزّة الإنسانية وأهانوا هيبة الدولة، بل أبناءُ الوطن الأوفياء من الصابرين النزهاء. فمتى ينفذ الصبر، وقد آن أوانُه في الهجعة التالية من الانتخابات القادمة، سيكون للشعب المظلوم صولةُ وجولة إزاء سرّاق قوته وناهبي ثرواته وكاسري وطنيته. فالحكومة القادمة ينبغي أن تكون حكومةَ مواطنةٍ وليس جزءًا من دولةِ مكوّنات تتخذ من المحاصصة مشروعًا للثراء وتقسيم الثروات بين الحرامية وإلغاء الآخر وإقصاء أتباع الأديان والقوميات الأصيلة القليلة العدد ودفعهم للهجرة إلى المجهول. فالعراق وطن الجميع وسيبقى كذلك.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة