خواطر
وكتابات عامة
ما بعد "بريكسيت"، هل ستبقى أوربا قلب العالم؟
لويس اقليمس
14
اب 2017
تتشابك الأحداث وتتداخل المصالح وتتعقّد العلاقات يومًا بعد آخر، وكأنّ العالم ليس له شغلٌ شاغل سوى تصاعد غليانه على صفيح ساخن، وزيادة في توتر العلاقات. حتى الدول والأقطار والشعوب التي كانت حتى الأمس القريب بعيدة عن مسمّيات الإرهاب وتقلبات السياسة والاقتصاد، وتفاعلات هذه الأخيرة مجتمعة وانعكاساتها، قد جاءها الدور لتدخل المعمعة الدولية وتصير جزءًا من المشكلة وليس الحل. فالعالم مقبل بلا شكّ، على تحالفات جديدة وتجمعات اقتصادية وتشكيلات سياسية لضمان مصالحها. وما خروج بريطانيا من خيمة الاتحاد الأوربي سوى واحد من هذه التفاعلات والتشعبات والتوفيقات، بعد أن كانت القارة العجوز قلب العالم وتحتل الصدارة في كلّ شيء.
أميركا، أكبر قوة عالمية وأكثرها تأثيرًا في السياسة والاقتصاد وفي تقرير مصير الشعوب، تقرّرُ اليوم في العهد الجديد الذي بدأه الرئيس اللغز "دونالد ترامب"، أن تلتزم البيت العائلي وتعيد بناءَه السياسي والاقتصادي على أسس قومية وطنية أمريكية بحتة أكثر من صرفها اهتمامات جانبية وأخرى ترفيهية وغيرها ترقيعية في مناطق ساخنة لا تدرّ على اقتصادها القومي فائدة بل تبقيها أسيرة الفكر الاستعماري الغربيّ (البريطانيّ الأصل)، الذي زاد من قرف الناس وامتعاضهم واستهجانهم من هذه الوسائل التي تقيّد حركة الشعوب المستضعفة وتزيد من بؤسها وشقائها وعوزها وتأخرها. والإدارة الجديدة ضمن استراتيجيتها متوسطة وبعيدة المدى، تنوي خلق معادلة متوازنة بين الفرقاء في منطقة الشرق الأوسط بالذات، وبالتحديد بين حليفتها التقليدية السنّية وحلفائها الخليجيين من جهة، وبين القطب المنافس لها في المنطقة إيران الشيعية، التي تسعى من جانبها لزيادة الاستقطاب والتمدّد خارج الهلال القائم حاليًا، بفضل تهديدها بما تتغنّى به من تسليح متطوّر وقوات عرمرم قادرة على الصمود والإغارة والدفاع. كما أنّ إدارة ترامب كما يبدو، مصرّة أيضًا، على إيقاف المدّ التشيّعي الإيراني في عدد من دول المنطقة والحدّ من نفوذه المتعاظم الذي أرخى حبله رئيس الإدارة السابق، والذي بسببه يجري ما يجري في منطقة الشرق أوسطية الساخنة. وهناك مّن لا يستبعد صدامًا من أيّ نوع، بين إدارة ترامب وخطط الساسة الإيرانيين التوسعية على حساب العنصر العربي.
ومهما يكن من أمرِ القرارات التي اتخذها والتي سيتخذها رئيس أعظم قوّة عالمية مهيمنة لغاية الساعة، فإنها أقلُّ ما يمكن القول فيها أنها وليدة خبرة اقتصادية وفكر رأسمالي وعقل إداري، تمكن "ترامب" من بناء إمبراطوريته المالية على أساسها. وهو وإن يكنْ قد أغاض الكثيرين، ومنهم حكومة الديمقراطيين الذين ساسوا العالم على مدى ولايتي راعي التسامح مع الإرهاب الدولي وعصابات التشدّد، "أوباما"، لأيّ من الأسباب التي يعلمها الكثيرون وغيرها من التي يجهلها غيرُهم، فإنه بحسب الكثير من العقلانيين وأصحاب الفكر النيّر والمتابعين لمسيرة الشعوب وأحوالها وأهوالها، قد وضع ليسَ أمريكا وحدها، بل العالم كلّه على سكّة جديدة تقضي باهتمام كلّ دولة بمستقبل شعوبها وبوضع أولويات مكوّناتها ومصالحها قبل غيرها وبرسم مستقبل أبنائها وبناتها وفق نمط جديد من الحياة التي تحترم الآخر وتقدّر خياراته وطموحاته من دون الانتقاص ممّا للغير من حق امتلاك ناصية هذه جميعًا على أساسٍ وطنيّ خاصٍّ بها دون غيرها. هكذا قال: أمريكا أولاً! ولِما لا؟
روسيا، هي الأخرى، أثبتت جدارَتها وقدرتَها على تحريك المياه بوجه الطاغوت الأمريكي الذي تسيّد المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي في فترة ولاية الديمقراطيين، باختزاله قرار العالم عبر دَور المنظمة الدولية بما كان يقرّرُه هو لها ولمسيرتها الدولية، ومعَ مَن كان يسير في سلكِه وفي خطه الاستعماري، ونعني به أوربا على وجه التحديد، المتمثل بنظامها الاتحادي الذي لم يستطع الحفاظ على تماسكه. فقد تمكن القطب العالمي الثاني من إعادة توازنه وحساباته وفرض أجندته وتصوّراته هو الآخر من خلال إصراره على رأيه ورؤيته للأحداث والأشياء والوقائع، فيما يخصّ الأزمة السورية بصورة خاصة، قافلاً الباب الأوحد الذي صنعته السياسة الأمريكية بعد تفرّدها بقيادة العالم على نمط اللّوبيات المهيمنة على اقتصاد البلاد وتقرير مصيرها.
وبهذه العودة القوية إلى المشهد السياسي العالمي، تكون روسيا قد أعادت مجدها، ولكن على طريقة "دائرة المنطق" التي اتبعها زعيمُها القوي المحترف، وصاحب الخبرة المخابراتية "السوفياتية" السابقة وجهازها الأمنيّ الضليع، "فلاديمير بوتين"، في سياسته، نِدّاً سياسيًّا قادرًا على فرض الرأي ونوعية السياسة التي تستجيب للمنطق والواقع والحق في تسيير دورة الأرض السياسية.
لكن، من المؤسف بالمقابل، أنَّ أوربا لم تقوى على تماسك وحدتها التي ظلّت هشة بعض الشيء، كما لم تستطع أن تفرض رؤيتها المستقلّة وتحتفظ بهيبتها المنقوصة أو تقوى على تعزيز عملتها الموحدة التي واصلَ وضعُ قيمتها بالتدهور أمام غيرها من السلّات العالمية، مقارنة مع بدء سريان تداولها الرسمي في 2002 غداة دخولها نظام النقد الدوليّ. ولعلَّ الهيمنة الأمريكية الواضحة أو الباطنة في بعض تفاصيلها، كانت من بين أسباب هذا الضعف، أو هيحالت دون استقلاليتها في الرأي وفي اتخاذ القرار المناسب في قضايا دولية تطلّبت شجاعة ورأيًا سياسيًا مستقلّا عن الراعي الأمريكي.
وهذا ما وضعها في خانة التابع لهذا الراعي لغاية اليوم.
حين كان الرئيس الفرنسي الأسبق "جاك شيراك"، يقف بالمرصاد في بداية الألفية الثالثة بوجه أية محاولة لفرض الرأي والتبعية للسلوك الغربيّ عبر تصدير مبادئ الديمقراطية التي تتقاطع مع قيم منطقة الشرق الأوسط وبلدانها الغنيّة بالثروات، والفقيرة في مجال التنمية والتطوّر والحرية، كانت بريطانيا تتفاوض مع راعي الديمقراطية الأمريكي لفرض نهجهما في إعادة تشكيل خارطة المنطقة على عادة الهيمنة الاستعمارية المعروفة التي اتصفت بها. فكان الربيعُ العربي الذي انقلب خريفًا قاحلاً بل شتاءً قارسًا أغلق أبوابَ الاقتصاد والسلام والعيش الهادئ بثلوج تراكمت مع مرّ السنين لتغلق هذه الأبواب بانتظار ذوبانها، ولتنقشع الصورة النهائية للأرض والبشر والحجر في الزمن الموعود. ولكن، مَن حدّد هذا الزمن، وكيف وإلى متى؟ فذلك هو السؤال اللغز! ومثلُه الرئيس الاشتراكي "فرنسوا ميتران"، الذي ظلّ عنيدًا في انتقاده للخطط والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بخاصة، وفي النظام الدوليّ عمومًا، بدعمها أنظمة دكتاتورية حمايةً لمصالحها القومية، ممّا لم يأتي ذلك منسجمًا مع ادّعاءاتها بالدفاع عن حقوق الإنسان وحماية المستضعفين وما إلى ذلك من سياسات خاطئة.
وقد أتت الأيام على صدق هذه التوقعات والآراء.
ألمْ تعترف السيدة الأمريكية الأولى السابقة حين تولّيها حقيبة الدبلوماسية لبلادها على عهد أوباما، أنها سعت لعقد صفقات مع منتمين لتنظيمات إرهابية، وتعيين بعضهم في مراكز وظيفية مهمة في إدارة أوباما، من بينهم أفراد من القاعدةوالإخوان المسلمين المعروفين بتوجهاتهم الإرهابية المتطرفة والمغالين في التشدّد الذي برز في فترة رئاسة أوباما على وجه التحديد، وبالسكوت عن مشاريعهم لإنشاء ولاية الخلافة في دول شرق أوسطية، ومنها مصر؟ وإلاّ ما كان سرّ ذلك التزواج المريب بين الإدارة الأمريكية وأتباع هذه التنظيمات الإرهابية، في ذات الوقت الذي كانت تدّعي فيه هي وزوجها ومن بعدهم أوباما، محاربة بلادهم لهذه التنظيمات في وسائل الإعلام ذرًا للرماد في العيون؟ ألمْ تقلْ أيضًا أن ثورة 25 يناير/ كانون ثاني شكّلت لها صدمة، وأيةَ صدمة، مع حليفها الإخوانيّ الذي كان وضعَ بلاده على سكّة دولة الخلافة بقراراته المريبة التي تنافت مع الدستور المصري والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان وبالتعاون مع تركيا التي كانت وتزال تحلم بعودة الخلافة العثمانية تحت جناحيها وبدعم من دول تحريضية أخرى؟ كان ذلك مقابل دعمها في حملتها الانتخابية التي فشلت بها فشلاً ذريعًا، ليبدأ عهد جديد لإدارة تضع حدّا "للإرهاب الإسلاميّ"، بحسب وصف الرئيس الأمريكي الجديد "ترامب".
ومَن يعرف المستشار الألماني "هيلموت كول"أو يقرأ عنه، وكذلك خلفه " غيرهارد شرودر" يدرك سعي بلادهما ضمن الغرب الأوربي المتكامل آنذاك، لتحقيق الوحدة والاستقلالية الأوربية في السياسة الخارجية وتقوية دورها العالميّ بوجه الهيمنة الأمريكية. لكنّ تلك الخطوات التي رصّنت من موقف القارة العجوز طيلة حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية بدايات الألفية الثالثة، لم تستطع الصمود. لذا لا عجب أن تعرب ألمانيا اليوم على عهد المستشارة "ميركل"، عن صدمتها للخروج المفاجئ لبريطانيا عن منظومة الاتحاد.
فهذه بحسب البعض، بدايات انفراط عقد الاتحاد الذي أُريد له أن يوازن بل أو يوازي اقتصاد الكارتلات الاقتصادية التقليدية الكبرى التي هيمنت على الساحة على مدى السنين الغوابر. وميركل في سياستها، كما يبدو، لم تحسب جيدًا ما ستؤول إليه قراراتها الارتجالية بخصوص فتح أبواب بلدها على مصاريعها، ليس لأفراد ومجتمعات من دول أوربية شرقية بل من خارجها أيضًا.كما أنها لم تدرك أيضًا، ما ستخلّفُه هذه السياسة المفتوحة من مشكلات اقتصادية وسياسية ومجتمعية لاحقة. وفي حين تسعى لتبديد مخاوف شركائها في الاتحاد، من خلال اتخاذ ما تعتقد اتخاذه عقوبات على بريطانيا بسبب هذا الخيار الداخلي المفاجئ الذي ينذر بانهيار الاتحاد بين حدث وآخر، فإنّ اليمين البارز على الساحة الأوربية ومعه الشعبويون والقوميون الجدد يقفون لها بالمرصاد، في كلّ خطوة تُقدِم إليها. وبالرغم من حصول المستشارة الألمانية على ما يشبه الموافقة من الإدارة الأمريكية السابقة على ما اتخذته من إجراءات تحصينية ووقائية لمنع مثل هذا الانهيار ومنع إقدام دول أخرى لحذو ما قامت به بريطانيا، حفاظًا على حليف دوليّ خاضع للسياسة الأمريكية التقليدية وتنفيذ ترتيباتها ومخططاتها السياسية منذ سنوات، إلاّ أنّ واقع الحال لا يبشّر بخير.
فالأحداث المتلاحقة، تشير إلى صعوبات اقتصادية بدأت تعاني منها ألمانيا نتيجة للتراكمات المتضعضة والمهتزّة في السوق الأوربية المشتركة التي كاد المنتَج الألماني يهيمن علىسوقها أكثر من غيرها، لما تشكله المانيا من قوة اقتصادية ضاغطة على دول الاتحاد. وبهذا، فهي من حقها أن تخشى فقدانها سرّ الهيمنة الاقتصادية التي طبعتها طيلة السنوات التي تلت تأسيس الاتحاد والسوق المشتركة.
والسؤال الذي يطرح ذاته، هل ستتمكن أوربا من الاحتفاظ بدورها الريادي، كي تبقى قلب العالم، كما يتصوّر ساستُها وما تبقى من الأحزاب اليسارية الحاكمة؟ هنالك مّن يرى أنّ خروج بريطانيا لن يكون له تأثير كبير، بسبب كون الأخيرة خارج محيط منطقة اليورو كعملة موحدة واحتفاظها بعملتها الخاصة. وقد يكون هذا ضمن المنطق الاقتصادي أكثر منه دخولُه ضمن نطاق السياسة والحراك الدولي لمصالح الكبار. فيما يرى الأوربيون أنّ هذا الطلاق لن تكون له تأثيرات قوية بالرغم ممّا كانت تمثله بريطانيا من قوّة اقتصادية وسياسية لا يُستهانُ بها على الصعيد الدولي.
والأيام القادمة هي الكفيلة بالإجابة على هذا التساؤل. فجزء من الردّ قادم مع سلّة الانتخابات التي ستشهدها فرنسا هذا العام ومعها ألمانيا لاحقًا، باعتبارهما أكثر الأعضاء متانة في الاقتصاد والسياسة والإنتاج على السواء.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة