خواطر
وكتابات عامة
السياسة والنفاق، شراكة مشبوهة!
لويس اقليمس
20
تموز 2017
ليسَ أسوأ من أن تتحول مجتمعاتٌ تقليدية معروفة بتاريخها المتعايش الزاخر بالأخلاق والمبادئ، إلى كتلة من الرذيلة والآفة القاتلة في زمن القتل والنهب والسرقة والفساد، لتسقط بالتالي في جُبّ النفاق الذي يتسيّد المشهد السياسيّ العراقي في هذه الأوقات، منسحبًا بالتالي على المجتمع ككلّ.
كما ليسَ بالعجب العجاب أن تسمع وتشهد المتلوّنين في مشهد متكرّر أو مناسبة، ممّن يستمتعون ويتلذذون بالإيغال في منهجية هذا النوع من آفة العصر وممارسته عبر وسائل متنوعة، سمعية وبصرية وخطابية. وحينما تأخذ مثل هذه الآفة وطرَها في أي مجتمع وتتحول إلى شكل ممنهج في ممارسة أشكال النفاق، السياسيّ والاجتماعي، فإنها تصبح ظاهرة.
وأية ظاهرة، تعني تطبّع المجتمع أو الجماعة، على شيء يصبحُ جزءًا من الحياة اليومية المعاشة، وإن يكن مثل هذا التوجّه في غاية الرفض والابتذال. أي بمعنى آخر، تضحي هذه الظاهرة شكلاً من أشكال الحياة اليومية المبتذلة التي تتلازم مع هذا الصنف من البشر الذي سمح لنفسه بلبس هذا البرقع.
هذا السلوك من فئة هذه الرذيلة كانت دومًا حاضرة. ولكنها في العراق ما بعد 2003، طفت إلى السطح وأضحت ظاهرة. بل أصبح منظرُ النفاق أمرًا اعتياديًا في سلوك الحياة اليومية لمعظم السياسيين والعاملين في مؤسسات حكومية أو حتى تلك التابعة لمنظمات مجتمع مدني تدّعي هي الأخرى الحرصَ على إصلاح أحوال المواطن التعبان، المصدِّق كلَّ شيء وأيَّ شيء أحيانًا، ومن دون أن يتحقّقَ من كلّ هذه، أو من دون أنْ يسعى بجهده للتمييز بين الغثّ والسمين لدى محاوريه من سياسيّي آخر زمان ممّن نخر الفسادُ ضمائَرَهم وقلبَ وجوههم وسوّدّ قلوبَهم.
لذا لا عجبَ أن تسمع أو تتطّلع أو تشهد بأمّ عينيك، نماذجَ حية وصاخبة من متشحي هذا النوع من الرذيلة التي تسيّدت المشهد.
بل إنّ بعضًا من هؤلاء قد أتقنوا الصنعة وأجادوا ترويجها والتعاملَ بها وإقناع الغير بما يعرضونه من أشكال السلوكيات والأفعال، التي تخفى حقيقُتها على البسطاء، فيصدّق هؤلاء بهم ويرضخون لمجاملاتهم الساحرة في سرد ما يحلو لهم من روايات مضللّة ومن إجادة بتتابع الأحداث وصناعة الإقناع عبر طروحاتهم. وما أكثر ما نشهد من مثل هذه السلوكيات.
في إحدى المناسبات، كنتُ مشاركًا في استقبال مهنّئين في مركز دينيّ أصبحت له خصوصية عند أهالي بغداد، خاصة بعد تعرّض كنيسته المتميّزة لجريمة إرهابية بشعة في 31 تشرين أول 2010، وطالما قصده ومازال يقصده السياسيون وأصحاب الجاه والفكر، لأهداف متنوعة.
سمعتُ كلامًا معسولاً، ضحكتُ له في سريرتي، ولعنتُ ذلك اليوم الأسود الذي أوصلَنا إلى هذه المساحات من الكذب والنفاق والرياء. كلّ الزوّار أشادوا، بل تفنّنوا بالمديح بالدور الحضاري والريادي للجماعة المسيحية في العراق ونصارى العراق، مؤكدين أصالة هذا المكوّن وتميّزهم في كل المجالات، ولاسيّما في أخلاقهم وأمانتهم وإخلاصهم ومثابرتهم وانتمائهم للوطن والأرض وحبّهم للآخر المختلف عنهم في الدين والمذهب والعرق والفكر والتعبير. وهذه من أسمى سمات الإنسان المتحضّر، بل أفضلُ ما يتمناه المرء العاقل والإنسان المعتدل الباحثُ عن الأمان والسلام والاستقرار في مثل هذا الزمن الصعب الذي اختفت فيه محبة الغير وإكرام الجار، كما توصي به الشرائع والعادات والتقاليد، ومثل هذا الحديث ما زال يتكرّر في كلّ مناسبة.
وبالعودة إلى مطابقة القول مع الفعل، نرى العجب العجاب. فأكثر القرارات والقوانين التي يشارك في وضعها هؤلاء السياسيون وممثلو أحزابهم وكتلهم بالضدّ من حقوق المكوّنات الصغيرة اليوم، تناقض أقوالَهم وتكذّبُ تصريحاتهم. وحين المحاجة بشأن مثل هذه الازدواجية في التعامل وفي اقتراح التشريعات وسنّها وتطبيقها لغير صالح هذا المكوّن وغيره من المكوّنات المظلومة والمهمّشة الأخرى، يخرجون إلينا بذرائع وحجج واهية.
ولعلّ آخرها، ما كشف عنه بصراحة، زعيمُ التحالف الوطني حين تقديمه ورقة التسوية وعرضها على نخبة من رؤساء هذا المكوّن وبعضٍ من ممثلي الشعب والمثقفين من العلمانيين والمدنيين في أيار 2017. فقد ردّ على سؤالٍ محرج من قبل أحد الحضور، فيما إذا كان التحالف وشركاؤُه في العملية السياسية يعدّون الأقليات ومنهم المكوّن المسيحي شركاء حقيقيين لهم".
وعند إجابته بالإيجاب، وهذا جانبٌ إيجابيّ، أعقبه السائل بسؤال أكثر حراجة، عن الغاية من إعادة البعض بين فترة وأخرى لنصّ قرآني، "يخيّر النصرانيّ بين ثلاث" لا غيرها، وكأنّه تذكيرٌ أو تحذير أو تفعيل لقانون أو دستور قائم مدى الأزمان والدهور.
فكان الردّ صاعقًا: "لن نستطيع تغيير كتاب الله وسنّته... هذا شرع الله"، بالرغم من قناعة الكثير من المتنورين والمثقفين بأنّ ما ورد وما جرى وما طُبّق في سالف الأيام الغوابر، لا ينسجم مع مقتضيات العصر وتطوّر الزمان والفكر والأداة، وعليه ينبغي تجديد الفكر والتأويل والتفسير بحسب العصر والحداثة وتطور الزمن لذا، عبثًا يسعى مَن يسعى لجبر الخواطر وتطييب النفوس وتهدئة القلوب.
فما كُتب قد كُتب، ولن يفلح زيدٌ ولا عمرٌ في تغييره أو تحييده أو إلغائه. بل إنّ ما نسمعه في هذا الخصوص من كلام معسول، لن يكون إلاّ ضمن دارة الرياء والنفاق السياسيّ القائم على قدم وساق، ولن يزيغ عن الهدف المرصود أساسًا، بالرغم من تخفيف مفعوله وترطيب لهجته وتعويم غرضه وعدّه "تراثًا" من الماضي غير قابل التطبيق في أيامنا هذه، كما صرّح قياديّ من التحالف الوطني كان حاضرًا، فأجاد وصدق بقوله "مثل هذا القول أصبح من التراث"، وعليه أن يفي بما قال.
على شاكلة هذه الرواية، يتكرّر المشهد عند طغمة سائر الساسة والزعماء والمسؤولين من مختلف الكتل والاتجاهات والتيارات في الدولة العراقية المنهارة. وكلّ ما نشهده لا يعدو سوى ممارسةٍ منافِقة ومراوَغةٍ ذكية و"شطارةٍ أستاذية" ضمن أداة الاستهلاك السياسي الجارية، ونوعٍ من أدوات اللعب بمشاعر العامة بعد كسب ودّ شرائح خاصة رضيت بيعَ ضميرها على حساب العامة ومصلحة الوطن العليا.
وهذا ينطلق بطبيعة الحال على حال مَن ركب قطار السياسة حديثًا من أتباع المكوّن المسيحي ومثلهم من سائر الأقليات المهمّشة الأخرى، التي ترفع شعار المدافعة عن حقوق شعويها في العلن، في حين لا يشكّ المتبصّر والعاقل والعارف بارتمائها في أحضان أصحاب النعمة وأولياء الأمر، سواء في الإقليم أو المركز.
وهذا جانبٌ خفيٌّ من ممارستها أساليب النفاق والتخبّط. وخير دليل على ما ذهبنا إليه، المشاركة أو المقاطعة لسيل المؤتمرات واللقاءات والندوات العديدة، المحلية منها والإقليمية والدولية التي عُقدت وما تزال تُعقد، حيث تتسابق الأحزاب والشخصيات والمنظمات للمدافعة أو التنديد بها وبمنظميها وبالواقفين خلفها والداعمين والممولين لها، كلّ بحسب الانتماء والولاء ونوع المنفعة التي يرتجيها منها.
ما يمكن التحقق منه اليوم من دون صعوبة، بروز مفهوم سارٍ بين السياسيين، قائمٍ بذاته يتخذ من المواربة والنفاق والكذب على زملائهم وأترابهم كما على بسطاء الناس، منطلقًا في عالم التنافس الذي يشتدّ ويحتدّ لاسيّما إبّان فترة الانتخابات ومع اقترابها، ونحن نقترب من أجوائها. أمثال هؤلاء الساسة لا يمكنهم الاّدعاء ما ليسوا عليه من حملهم للفكر الإقصائيّ لأية جهة منافسة في هذا السلوك الشائن، حتى في صفوف أتباعهم أو أحزابهم أو طوائفهم، كما هي عليه الحال في أحداث العراق.
فالتنافس بين شخصيات السياسيين، سواءً المشاركين في الحكم منهم أو المتنفذين في السلطة، واضحة المعالم في الذي يُلاحظ من شعور بالغيرة والتخوين والتسقيط عمومًا، وهذا الشعور أو المفهوم المبنيّ على إرادة داخلية وذاتية نابعة من روح الأنانية وشيء من غطرسة الأنا المتحكمة في ضمير أمثال هؤلاء، يبقى عنصرًا ذاتيًّا معشعشا في ثنايا الصدور المنغلقة التي لا تقبل بالآخر ندّا في ميزان العدل والمساواة والحياة.
ومن ثمّ لم ولن يكون
ممكنًا لمثل هذا
التطبّع بهذا الشعور
القاصر أن يخلي
الصدور المريضة لساسة
يرفضون التعلّم من
دروس الشعوب وأحداث
البلدان وكوارث
الزمان والمكان ونصح
الأديان. في حياتنا
العراقية، شهدنا وما
زلنا نقارع ونتصدّى
لهذا النوع من الآفة
المتغلغلة في كلّ
خطوة وكلّ مسار في
الحياة الصاخبة التي
أدخلتنا فيها الفوضى
الخلاّقة قبل وما بعد
الغزو الغربي الخبيث
للبلاد.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة