خواطر
وكتابات عامة
بابا السلام في مصر السلام
لويس اقليمس
28
ايار 2017
رحلة بابا الفاتيكان، فرنسيس الأول، للفترة من 28-29 نيسان 2017، إلى "مصر أمّ الدنيا"، كما أسماها في خطابه الرسمّي ونطقها بلغة الضادّ، مع تحيته للحضور في مؤتمر الأزهر للسلام العالمي بعبارة " السلامُ عليكُم"، ذات معاني روحية غزيرة، وأبعاد إنسانية وسياسية كثيرة، إلى جانب ما تحملُه من تصوّرات وآمال وبشائر رجاء راعوية ومستقبلية لخير المسيحية فيها وفي المنطقة، ولصالح الكنيسة القبطية وشقيقاتها. فهي، إضافة لكونها تأتي بُعَيد أيامٍ لحادثتي الكنيستين القبطتيتين المأساويتين في طنطا والاسكندرية، وما تستحقه من تعاطف أخوي وإنسانيّ وكنسيّ، فهي تحمل أيضًا تباشير خلاص وسلام وانفتاح ورؤية ثاقبة لرأس الكنيسة الكاثوليكية، وهو اليسوعيّ المنهج في الفكر والعطاء، والمسكونيّ التوجُّه في اللقاء والحوار، والإبراهيميّ الطريقة في التقرّب من الخالق ومن خليقتِه، والإنسانيّ في التعاطف مع الفقراء وأصحاب الحاجات الخاصة والمهمَّشين والمحتاجين إلى الرحمة، رحمة الله والبشر معًا.
زيارة البابا لمصر الثقافة والحضارة، لها دلالاتُها أيضًا، في زمن الفوضى الخلاّقة وعمل المفاهيم المتطرّفة والمتعصّبة، المنغلقة والبعيدة عن روح الله ومحبته الكبيرة لخليقته التي تعاني من سكرات الحبّ الإلهي الجَمّ الذي تنكرت له في أوجه قاسية وأحداث عنف دموية غير سارّة تحزّ النفس وتقطع القلب وتصمّ الأذن. لم يعبأ بالهواجس المثارة ولا بهمسات التهديد المتصاعدة. فهو ليسَ بأقلَّ من الشهداء التسعة والعشرين الذين سقطوا يوم الجمعة العظيمة، ولا بغيرهم ممّن سبقوهم على مذبح الشهادة وأضحوا بذارًا للمسيحية ورووا بدمائهم الأرضَ لتزهر في زمن الحقد والكراهية وتنمي ورودًا وزهورًا في الأخوّة والإنسانية وفي التواضع والتنازل عبر الحوار والنقاش، لا عوسجًا وحسكًا من الغلّ والحقد والكراهية والتعصّب الأعمى الذي لا يعرف غير ثقافة الموت والقتل والهمجية والبربرية وإلغاء الآخر.
هذه الزيارة، أضفت أشعة من نور على مصر الصعايدة "والجدعان"، وحاضرة المعادي والسويس والاسكندرية، وبالذات على الكنيسة المرقسية الرائدة ومعها برّية النسك والترهّب المسيحي في سيناء والعريش. انحنى له أصحابُ القلسنوات و"القلّوزات" والعمائم والطرابيش والهامات الكبيرة على السواء. صفّق له كلُّ مَن أسعدَهُ لقاؤُه، لتكتحل عيونُه بعنفوان رَجُلِ العصر، الكبيرِ بين الإخوة مسكونيًا، والمتميّزِ بين الحشود روحيًا، والعظيم بين الأحبار كنسيًا، والبسيط المتواضع المتنازلِ بشريًا. وكلّ هذا كي ينشرَ عطرَ السلام وسط عواصف العنف الهوجاء التي ضربت مصر الكنانة، "أمّ الدنيا"، تمامًا كما آذتْ وجرحتْ بلدانًا غيرها في المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين بسبب الغلّ الأعمى والكراهية الفاشية في نفوس كارهي الحياة من المعتقدين بزنى المحارم ونكاح الحوريات والحكم باسمِه وهو الرحمن الرحيم، محبّ البشر الذي يُروَّجُ نفرٌ ضالٌّ لعبادته والتكبير باسمِه عبر القتل وحزّ الرقاب ونحر الرؤوس البريئة من دون وجه حقّ.
صوتُ صارخ في البرّية
على خطى العائلة المقدسة، حجّ البابا فرنسيس إلى مصر أبي الهول، لتتقدس أرضُها ثانية، كما تقدّست قبل أكثر من ألفي عام، عندما حلّت فيها العائلة المقدسة، يوسف ومريم ومعهما الطفل يسوع، لجوءً وهرَبًا من ظلم وقساوة وعنف هيرودس، الذي تتمثل به اليوم، الأيادي القذرة لجماعات التيار السلفيّ الإخوانيّ، بتكفيرِها كلَّ مختلف عنها، وبعدائها لكلّ مَن لا يسيرُ على هدى أفكارها الخبيثة المنغلقة على الذات وعلى الروح وعلى الإنسان وحقه في الحرية والعيش الآمن ضمن الحدود الإنسانية التي حباه بها الخالق.
في عالم اليوم، حيث اختلطت أوراق العولمة مع تأثيرات التيارات الإسلامية في المصالح القومية لأسياد العالم، لتتلاقى في الكثير من هذه الأخيرة مع سياسات غارقة في الفساد والكراهية وحبّ الثروة، حتى لو كانت خارج الأطر المقبولة في مجمعات سوية. ضمن هذه الأجواء، جاءت مشاركة البابا في مؤتمر الأزهر للسلام، ليعلنَ صرختُه المدويّة بوجه الظلم وبضرورة الحوار بين أتباع الأديان والمذاهب والثقافات والحضارات لتلافي الاصطدام بينها. فالتحديات كثيرة وكبيرة، كما أشار إلى اثنين منها البطريرك لويس ساكو الذي ترأس الجلسة الأولى للمؤتمر. "أول التحديين يتمثل بالسياسة التي تبحث عن المنافع الاقتصادية من دون النظر الى الانسان، فهي غاشمة تحتاج الى أنسنة، والتحدي الثاني وهو أكثر ضراوة على مستوى الفكر الارهابي ويحتاج الى تجفيف منابع التمويل المالي والعسكري وتقديم فكر معتدل ومنفتح يقبل الاخر من خلال المنبر الديني ووسائل الاعلام وإصلاح البرامج التعليمية."
مثل هذا التوجه المنفتح الجديد، لو صدقت نوايا المؤتمرين، سيأخذ بالمنطقة وبشعوبها نحو برّ الأمان والعيش المشترك خارج السياقات العنفية ووصمات الكراهية والحقد وأعمال القتل والتهجير على الهوية والدّين التي تجري في هذه السنوات العجاف. منطقة الشرق الأوسط تحتاج إلى مثل هذه الثورة الحقيقية ضدّ مفاهيم الكراهية التي ضربت مجتمعاتنا الشرقية، وقد ضاقت ذرعًا بحمامات الدمّ الناجمة عن ثقافة إلغاء الآخر، بسبب خروج نفرٍ ضالّ عن التعليم القويم للدين الإسلاميّ الحنيف الذي تأسّس على كلمة "السلام"، حالُه حال الأديان التوحيدية "السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه". فالدّينُ سلامٌ ورحمة وبركة! وأيُّ دين يخرج عن هذه، فهو ليس بدين، ولن يبقى دينًا، بلْ سمِّهِ ما شئتَ من ألقاب الكفر والعنف والقتل ومفرداتٍ كثيرة شاعت عنه كالنكاح وطلب الحوريات عبر تقديس الموت وكراهية الحياة حبًا بهذه الترّهات التي لا وجودَ لها البتّة، إنّما هي من خيلاء مشايخ الحقد والتحريض والكراهية! أيّةُ أيديولوجية فاسدة هذه التي يروّجُ لها هؤلاء؟ ونحن نقول مع أصحاب الفكر المعتدل: لا يمكن الجمع بين الإيمان والسلام وبين الحقد والكراهية، كما لا يمكن تصوّر ما يجري من أعمال قتل وتكفير جارية بسبب الاختلاف في الدّين وفي الرؤية وفي المذهب. فإلهُنا الواحد الأحد، ليس إلهَ موت وقتل ولّذة، بل إله محبة وسلام وفرح. ونحنُ مع إله المحبة هذا، نسير في طريق بناء الإنسان وسعادته من أجل بلوغ الملكوت الأبدي الذي في انتظار الأخيار من البشر. والإنسان القويم هو الذي يبني بيتَه السماوي من على الأرض، بأشكال الخير والمحبة والرحمة وليسَ بالقتل والحقد والكراهية.
كلمات البابا، نداءٌ صارخ "صوتُ صارخٍ في البريّة، أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سبلَه قويمة". لا يمكن تقديس الموت بقتل الآخر الذي لا ذنبَ له، إنّما فقط لاختلافه في المنهج والدّين والمعتقد. هذه شريعة الغاب، وليست شريعة دينٍ توحيديّ يدّعي الإيمان بإله واحد رحمن رحيم وجبارّ خالق السماء والأرض والعناصر وما عليهما وما بينهما. إنها أزمة أيديولوجيا بحاجة إلى مراجعة وتقويم وتشذيب الدخيل على ما اعترى الدّين الإسلاميّ من أحاديث وإضافات غير موفقة في أزمنة لاحقة للدعوة الإسلامية، لأغراض دنيوية ومن أجل تثبيت سلطات طارئة. مثل هذه الأعمال وهذه الأفكار الهدّامة، هي لعبٌ بالنار، عندما يتمرّدُ الإنسان ويوغل في قتل أخيه في الإنسانية وينوي إلغاءَه بشتى الوسائل. كيف لمدّعي الدين أن يقيم العدالة، وهو نفسُه ظالمٌ لنفسِه وللغير؟ أليسَ هذا اغتصابًا باسم الدّين؟
بكرٌ بين الإخوة
ضربَ الباب فرنسيس مثالاً آخر في التواضع والغيرة على وحدة كنسية المسيح، عبر التفاهم المسكونيّ مع باب الاسكندرية والكرازة المرقسية، تواضروس الثاني، بابا النسك والترهّب المعاصر. وقمّة هذا التفاهم تصاعدت في الصلاة المسكونية بصحبة أحبار الأرثوذكسية، العنيدين المعاندين تاريخيًا. لكنّ البابا عبر دوائره وإرشاداته كأخٍ "بكرٍ" بين الإخوة، كسرَ حاجزَ الصمت والعجرفة والزعامة كي يثبت وحدة الإخوة في المسيح "نحن مع الرب واحد". ومن هنا كان حرصُه على تلافي أخطاء الماضي والتأكيد على مقررات المجامع الثلاثة الأولى للكنيسة الجامعة التي جمعت المسيحية على مبادئ ثابتة غير متزعزعة بمحاربة السفسطات والبدع التي أرادت تمزيق وحدة الكنيسة في مجامع لاحقة مغرضة متأثرة بمصالح سلطوية دنيوية لنفرٍ من المغترّين المارقين على طريق الرسالة المسيحية الرسولية الأولى.
في هذه الزيارة التاريخية التي تعيد إلى الأذهان زيارة البابا الطوباوي بولس السادس في 10 أيار 1973 ولقائه البابا الراحل شنودة، يعيد البابا فرنسيس النهج المسكوني المتنامي بين الإخوة الذين تجمعُهم شركة واحدة في المسيح في عقيدة اتفقوا عليها وآمنوا بها وساروا على ضوئها في القرون الأولى لانتشار المسيحية، ولم يتفرّقوا إلاّ بُعَيد المجمع الثالث. فأوجهُ الاختلاف في الرأي وفي النهج وفي أسلوب العلاج والعيش، من دون أن يقوّض أساسَ البناء، أمورٌ طبيعية، تمامًا كما حصل من اختلاف بين بطرس هامة الرسل واالرسول بولس في معالجة شؤون المسيحيين الأوائل. قد تتلاقى الأفكار وقد تختلف من دون أن تصل إلى حدّ الخلاف. وهذه ظاهرة إيجابية في التعبير وفي إبداء الرأي والمعالجة. فلقاء "بطرس" الجديد مع أخيه "مرقس"، أضفى على الزيارة بعدًا مسيحيًا ومسكونيًا تاريخيًا، نأمل قطف ثماره من أجل خير الكنيسة وسعادة مصر وسلام المنطقة.
ولعلّ من نتائج تواصل الانفتاح المسكونيّ بين الكنيستين، ما صدر من وثيقة أو بيان وقّع عليه بابا الفاتيكان وبابا الكنيسة المرقسية ب"السعي" للاعتراف بسرّ العماد بين الطرفين. وقد كان هذا من أدبيات الجهود الرسولية الأولى التي شهدتها المنطقة منذ القرن الأول الميلادي عندما دخلت المسيحية بسواعد الرسل وتلاميذهم الذين جابوا القفار والبراري وتجشموا عناء السفر والتعب والجوع، لحدّ الاستشهاد حبًا بنشر تعاليم المسيحية وإنشاء كنائس وأديرة طغت على المنطقة ونمت وترعرت في ظلّ حراسة الرب ورسلِه وتلاميذهم من بعدهم.
رسولان للسلام
من حق الدموع أن ترسم سيولاً على وجنات المحبين للسلام والمحبة والوفاق. ما أجلَّ وأهيبَ المنظر، حينما تعانق الجبلان، المسيحي والمسلم، ليرسما تباشير فرح وسلام وتفاهم وتوافق بحق الإنسان كي يعيشَ حرًا بمعايير إنسانية تلزمُه احترام الآخر مهما اختلف معه. عناقهما الساخن والمتكرّر وسط ترحيب وتصفيق الحضور، أضفى على اللقاء شعلةً مستديمة من الأمل والرجاء ببدء صفحات جديدة بين مختلف الأديان التي مثَّلَ أكبر دينين منها الرجُلان المبتسمان الطافحان فرَحًا وبهجةً ونيةً صافية لطيّ صفحة الماضي الأسود وإدانة كلّ أشكال العنف والقتل الناجمة عن إساءة البعض للتأويلات غير الموفقة لنصوص دينية.
من هنا كان مؤتمر الأزهر للسلام العالمي، مناسبة للدعوة للانتقال من فكرة تهديم الحضارة وقتل النفس البريئة إلى مفهومٍ آخر للرقيّ بالإنسان وأهدافه في الحياة البشرية القصيرة على الأرض، استعدادًا لرسم مصيرٍ أبديّ يدوم في السماء. قالها" لنكن صانعي سلام" وليسَ رافضين للعنف قط، أو مقاومين لأشكال العنف والقتل والظلم. تلك الصراحة في طرح فكرة رسالة نبذ العنف وتقاسم تباشير الحياة الإنسانية والعيش المشترك على أساس المواطنة المتساوية واحترام الآخر المختلف والقبول به أخًا في الإنسانية وفي الوطن وفي المصلحة المشتركة، كان لها صداها الواسع في أوساط المعتدلين ودعاة السلام والمحبة والتآخي. "طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناء الله يدعون".
وإنْ كانت هذه الصرخة قد أغاضت "صفّ الشيوخ والفرّيسيين المعاصرين"، من حاملي الأفكار الهدّامة للإسلام والبشرية ومن دعاة التحريض والكراهية، تمامًا كما اغتاظُ صفُ الشيوخ والفرّيسسن عندما دخل يسوع إلى أورشليم وطردَ الباعة من هيكل الله الذي حوّلوه إلى مغارة لصوص، إلاّ أنها قد لاقت صداها الواسع والعميق وسط الحضور وكذا في الأوساط الإعلامية. فالبابا فرنسيس دخلَ مصر حاملاً غصن الزيتون علامةَ السلام، وشاهرًا سوط الغضب إزاء أعمال القتل والعنف التي تُرتكبُ باسم الدّين، والدينُ كما أشار المؤتمرون، براء من كلّ ما يجري.
لا حضارة وسط العنف
بهذه الكلمات القوية، خاطب البابا جمعًا من السلطات المدنية والمنظمات والسلك الدبلوماسي في فندق الماسة، بحضور رئيس أكبر دولة عربية تشهدُ تحولاً في مفهوم المواطنة وتعزيز الديمقراطية والمساواة. فلا حضارة وسط العنف!
كيف يمكن بناء حضارة في وسط تعشعشُ فيه أيديولوجية منحرفة تدعو للتطرّف أو في وسط بشرٍ يمارسون شتّى أعمال العنف والقتل الممنهج ضدّ إخوتهم في الوطن وفي الإنسانية؟ تمامًا، كما لا يمكن الجمع بين الإيمان الحقيقي والعنف المستشري كواجب الوجوب بحسب شرع نفرٍ من المتطرّفين الذين يقيمون الحدّ باسم ما يُسمّونه شرع الله، والله بريء من أفعالهم النجسة، براءة الذئب من دم يوسف. إنّه واجب البشر المعتدلين المؤمنين بإله واحد خالق السماء والأرض وما عليهما وما فوقهما وما تحتهما. فهوّ الديّان وحده لاغيرَ سواه. فهو لمْ يُنَصِّبْ حثالةَ البشر كي تنطق باسمه القدّوس. لأنه إله جبار عظيم، وهو أيضًا سلام ومحبة وليس إله قتل وضغينة.
وأخيرًا، السلام الذي تحدث به البابا، هو سلام النفس والإنسانية المتعذبة بسبب أعمال العنف وأدوات القتل والإرهاب التي انتشرت بسبب أيديولوجيات منحرفة زاغت عن السبيل القويم الذي أتت به الأديان السمحة في بادئ الرسالة. وهو هبة من الله للبشر، جميع البشر، كي ينعموا بقوة القانون العادل وليس بقانون القوّة الذي يريد نفرٌ ضالٌّ فرضَه على الغير من دون وجه حق.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة