اتصلوا بنا

أرشيف الأخبار

مجلة آفاق مندائية

مجلة صدى النهرين

رئاسة الديوان

من نحن

الرئيسيـة

                                                                  خواطر وكتابات عامة                                                  

 

ألدّين والمسؤوليات التاريخية والأخلاقية

لويس اقليمس

 

   11 ايار 2017

   شهدت العقود المتوسطة من القرن العشرين، والأخيرة منه على وجه الظاهرة، موجة من التأسلم والتجلبب بأطراف الدّين وشرعه ، متأثرة بأفكار نفرٍ من المنظّرين السلفيين الذين اتخذوا من تطبيقات الدّين وتفاسيره القديمة الضيقة، كتابًا وأحاديث ونقلاً، منهجًا وتوكيلاً في تطبيق ما بدا لهم شرعَ الله على الأرض. وهذا ممّا كان له أثرٌ بسبب إساءة التأويل أو التفسير المنقوص غير مكتمل الأطر في النصوص الدينية على حياة الإنسان والدول والشعوب. وإنْ كان هذا النهج السلفيّ المائل إلى التشدّد والانغلاق والتعصّب في الفكر والتطبيق والتفسير، لدى أتباع كلا المذهبين السنّي والشيعي على السواء، في أدواته ومناهجه وطرائقه وشخوصه، من السمات التي انساق لها هؤلاء المنظِرون من دون التمحيص بالنتائج المترتبة على أفكارهم المتطرفة في معظمها، إلاّ أنّ إيغالَهم في مسألة تكفير الغير المختلف عنهم منهجًا، أيًا كان دينُه أو مذهبُه أو عرقُه أو مرتبتُه، والدعوة إلى رفض ما لا يتطابق مع أفكارهم وسلوكياتهم وتوجهاتهم، واستخدامَهم شتى أنواع التصدّي لكلّ مَن يرفض هذه كلّها، قد وضعهم في زاوية حرجة، لاسيّما حين خروج الأتباع مؤخرًا عن السيطرة، سيطرة الدين والدولة والحياة الطبيعية الإنسانية كباقي البشر على وجه الأرض. "فمَن شبَّ على الشيء شابَ عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء حُشِر عليه". هكذا أمثالُ مَن يغالون ليس في تفسير ما كُتب، بل في عيش ما قيل وفي ما يقرأون وما يسمعون وما ينسجون في أخيلة مريضة تحتاج إلى العلاج الاجتماعي والفكري والعقائدي المنفتح على الآخر والمستفيد من تجليات العصرنة وفوائدها ومن دروس الحياة عبر التاريخ. فاللهُ حبا بني البشر بعقل لإدراك ما يشعرون، وبروية للتبصّر بما يفعلون، وبعيون لتقييم ما يشهدون.

   الشريعة، أية شريعة، لا يمكنها أن تخرج عن أدبيات الحياة الدنيا المتشكلة من جسد وعقل وروح، وأيضًا من رؤية معاصرة تساير تطور الزمن وتسمو بالإنسان وبالبشرية نحو سلّم السلام والرفاه والتقدّم. كما لم يعد مقبولاً الاستغلال الفاحش لما حلّله الخالق للبشر بحق، ولا التجاوز على قوانين الحياة بحجة إكمال وتطبيق شريعة خاصة بشريحة على حساب الغير من البشر، وإنْ كانوا أغلبية والآخرين أقلية. فلا دينَ لنفرٍ يعلو على دين غيرهم مهما كانت الأسباب، ولا شريعة تسمو على غيرها من الشرائع والقوانين التي تتعاطى بها مختلف الشعوب والأمم، ولا شعوبَ مخلوقة بأمر الخالق بأفضلَ من غيرها. فتلك كذبة أطلقها ويحشّدُ عليها ضعافُ النفوس، ويسعى المندسّون كما سعى غيرُهم من قبل، في هذا الدّين أو ذاك، أو في هذا المذهب، أو هذا المعتقد أو ذاك، كي يحصدوا ما في ذواتهم من طمع وخبث واستغلال، ويحققوا من غايات وأهدافٍ ما لم يحلّلُه الخالق الذي خلق الشعوب والأمم والبشر، ذكورًا وإناثًا، متساوين، إلاّ في المودة والرحمة ومحبة الله وحب الغير وإكرام الغريب واحترام الجار والتمنّي للغير أيِّ كانَ، كلَّ خير وفرح وسلام وطمأنينة وراحة بال. ثمّ إن الدّين الذي تخلو مفرداتُه من سمة المحبة الإلهية، لا يمكن أن يندرج ضمن الأديان التوحيدية ولا الإلهية، ذلك أنَّ "الله كلُّه محبة"، ولا يبغي للبشر من مخلوقاته غيرَ المحبة! وهذه الأخيرة إلزامية وليست اختيارية في العُرف الإلهي!

   من هنا، يبقى الدين، بل ينبغي أن يكون بالتالي ضمن دارة العلاقة الشخصية بين الله وبني البشر، بين الخالق والمخلوق، بين المعبود والعابد الذي وحده يحقُّ له تقرير مصير البشر وإحلال الحكم السماوي العادل، وهو مسيِّرُ الأكوان والأجرام، والمتحكّمُ بأسماء البشر وأشكالهم، وبالأرض والعناصر بحكمته وقدرته وطيبته ومحبته. فليس الدّين إذن، مجرّد كتاب للحفظ والختم والمهر، بقدر ما هو حياة ونصح وأخلاق، وتطبيق لمبدأ محبة الله لبني البشر، من أي عرق أو جنس أو لون، أم دين او معتقد أو فكر، ومن ثمّ التعبير عن هذه المحبة التي هي من سمات الأديان التوحيدية "السماوية" للغير من البشر مهما كانت الاختلافات البشرية والعرقية والشكلية والفكرية والدينية والمذهبية. حتى أصحابُ الأفكار الملحدة والّلاأدريون والّلادينيون، ليس من حق البشر الحكمَ عليهم أو إدانتَهم. فهذا الخيارُ إنْ هو إلاّ حقٌ لكلّ بشرٍ بعيش نهج الدّين او المعتقد أو المبدأ الذي يختارُه لنفسه ليعيشُه على هواه من دون إكراه "لا إكراهَ في الدّين"، طالما كان ملتزمًا بقوانين الطبيعة في احترام الآخر بكلّ ما في الأديان من إيجابيات أو وصمات وفق الفكرٍ أو المنهج وما سوى ذلك ممّا يختارُه الإنسان بحريته. وليسَ بعيدًا، أن تكون روحانيّة هذا الّلاأدري أو الّلادينيّ أكثر توفيقًا وتطويعًا للنفس إزاء الخالق والبشر معًا من حافظ الكتاب أو من الذي لا ينقطع عن الصلاة ومَن لا تغادر السبحة أناملَه ولا يفوّت ركعة أو شعيرة، فيما قلبُه مليء حقدًا وغلاًّ وخبثًا، وفكرُه متعطّش للسفح والشرّ والقتل والفساد والإفساد وسط خلق الله والوطن والأرض. هذه هي حرية البشر المعقولة، فهي "تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين". وفي نهاية المطاف، يبقى الدّينُ، أيُّ دين، مسؤوليةً اجتماعية وإنسانية وروحانية وتربوية، بل منهجًا للنصح والإيثار والخُلق الحميد، وليسَ أداة للترهيب والتأديب والغصب والسَّوق للصلاة بالسوط وبالجَلد والتهديد.

   لقاء بابا الفاتيكان الحار والعناق الأخوي والإنسانيّ معًا مع شيخ الأزهر أحمد الطيّب، ومواجهتَه الحضارية والإنسانية مع المؤتمرين في المؤتمر العالمي للسلام يوم 28 نيسان 2017، من شأنه أن يُحدث ثورة في المفاهيم وفي الحوار وقبول الآخر، للسير معًا في بناء السلام وتحاشي الظلامية وأشكال التخلّف وأدران التعصّب والانغلاق وإدانة ورفض كلّ ما لا ينسجم مع حق الكائن البشري في العيش بسلام في المكان والزمان الذي يبغيهما. كما أنَّ ما طرحه البابا فرنسيس، الذي حيّا مصر ب "أمّ الدنيا" وتحيتُه لشعب مصر بكلمات عربية فصحى "السلامُ عليكم"، له مدلولاته على صعيد الهوية الدينية والمجتمعية لكلّ مجتمع من دون إهمالٍ لصدق النوايا لدى كلّ الأطراف المطلوب منها أن تتحلّى بشجاعة الاعتراف بواقعية الاختلاف وبكون الأخير غنى وليسَ خلافًا أو خروجًا عن المنطق والواقع، وكذا بروحية الإنسان المخلوق متساويًا عند الشعوب، على صورة الخالق ومثاله الحسن. فكلّ ما خلقه الله حسنٌ وينشد باسمه كما يخضع تمامًا لجبروته وليسَ لغيره وفق مقاساتٍ شاذّة دينيًا ومجتمعيًا وروحيًا. كما أنّ هذا الخالق الطيّب، الرحمن الرحيم، لم يوكل أحدًا للحكم بدَلَه أو عوضًا عنه، إلاّ بحسب ما تشرّعُه قوانين الأمم المتحضّرة وفق لائحة حقوق الإنسان، التي اعتمدت وصايا الكتب المقدسة، وعل سبيل الخصوصية ما تضمنه العهد الجديد من الأخلاق المسيحية السمحة التي أتى بها عيسى، المسيح الحيّ.

   تلكم هي التربية الأساسية للبشر العاديين، أحباب الله على الأرض بانفتاحهم على سمة احترام الآخر المختلف، مهما كان دينُه أو لونُه أو مذهبُه أو عرقُه. ومن شأن هذه الثقافة أن تزيد من فرص خلق عالم نظيف في كلّ شيء، في السياسة والبيئة والاقتصاد والإنسانية، تمامًا كما في تحقيق الرفاهة للجميع وفي استغلال الثروات لصالح الإنسان والبشرية والأرض قبل أن تجدبَ وتجفّ ثرواتُها بسبب قساوة نفرٍ مغترٍّ أعمتهم الغيرة والغلّ والكبرياء وحبّ الجاه والثروة وإيذاء الآخر من دون مبرّر. فاللهُ قادرٌ أن يقيم لإبراهيم نسلاً جديدًا عتيدًا معجونًا بأطايب المزايا الإلهية الصادقة عوضًا عن آفات غلاظ الرقاب المهووسين بقتل الأبرياء وحزّ الرقاب ونحر الأجساد. فالدّين، كما أشار بابا الفاتيكان فرنسيس، ليس بمشكلة، بل هو جزءٌ أساسيٌّ من الحل، يساعد البشر في بناء مدينتهم الأرضية وفق أسس المساواة والعدالة والاحترام. كما أن الله الخالق، يحب البشر، وقد أعلن هذا الحب مرارًا، عبر أنبيائِه وخدمِه وعمّاله وأئمّته على الأرض، ومنهم مَن يُفترض به من رجال الدين، أن يوجّه الناسَ نحو الخير وبناء الإنسان والمصالحة والحوار، وليس في تهديم ثقافة الحوار وضرب شرعة حقوق الإنسان والتحريض ضدّ الآخر المختلف. وهذا هو طريق الإنسان الحقيقي الناضج والمنطقي في وضع حدّ للصراعات الثقافية والحضارية والدينية واستبداله بمعايير منفتحة من أجل الخير العام وبناء كرامة الإنسان وبيته الأرضيّ، تمامًا كما يريده الخالق. فالبيت السماوي الذي يرنو إليه البشر، ينبغي ألاّ يختلف عن مثيله الأرضي، لأنّ المثوى السماوي يبتدأ من الأرض.

   من هنا، لو عدنا عودة لسِيَر المتصوّفة والنسّاك، أحبابِ الله من كلّ الأديان والألوان، تعيدُ إلى اذهاننا ذلك النموذج الناصع لعيش نمط الحياة الزهدية والروحية الصريحة بين الله ومخلوقاته الضعيفة، ليس في شكل التزهد والنسك أو الانقطاع عن المأكل والملبس فحسب، بل في حفظ وصايا الخالق في أمر مخلوقاته وفي إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وفي تجنّب المعصية وإيذاء الغير وبالتفكير في المصير بعد سحابة السنوات الضئيلة فوق الفانية التي لا تدوم، وفي إدامة ذلك النهج الصحيح والمضيّ في سبيله بكلّ إصرار وعناد كونَه طريق الصواب الذي لا يخالف أمرَ الله. فالصوفيّة في الإسلام كما في المسيحية واليهودية والبوذية والفارسية وما سواها إن وُجدت ولو بأشكالٍ مغايرة، هي الصورة الفضلى لحياة البشر على الأرض وفي تعامل بعضهم مع البعض من دون تحسّسات ولا إيغالاتٍ ولا مراءاة في تبادل العيش المفترض. وهي بحدّ ذاتها نوعٌ من الحكمة التي عرفها قدماء اليونان في تواصلهم وفي غاياتهم في فهم الله وخليقته وفي التعامل وفق هذا المنظور، ضمن إطار تربوي وأخلاقيّ محمود. وكانت هذه الطريقة هي كذلك في بدايات الإسلام، علمًا وعملاً وموهبةً، بل دلالةً على علامة رضى الخالق عن معبوديه في تقويم النفس من الاعوجاج والتقرّب منه بأعمال البرّ والخير والإحسان، وفي مواجهة فساد الحكّام والولاة والملوك بسبب نوازع هؤلاء، الشخصية والفئوية والطائفية. ولنا في التاريخ عبرٌ وأمثلة كثيرة، راح ضحية تلك الفوضى في الحكم، العديدُ من الأئمة الكرام ممّن ذاقوا الأمرّين والعذابات في غياهب سجون أمثال أولئك الحكّام القساة الغلاظ الذين مرقوا وحادوا عن أخلاق الدّين وأركانه الواضحة وأوغلوا في تأنيب الآخر المختلف عنهم وفي تكفيره ونعته بالمروق، وفقًا لمقاساتهم المنحرفة.

   الحياة لم تدم لأحد، كي تدوم للأشرار والفاسدين والمراءين في الدين والمذهب وفي التنظير باتجاه المغالاة والمناهج التي أضحت في زمن كان، ولم تعد صائبة ولا مقبولة ولا محبّذة في عصر العولمة الذي أحالَ العالم إلى قرية صغيرة. كما أنّ "ما زاد عن حدِّه انقلبَ ضدّه"، بالتالي. هكذا في ميزان المزايدات الدينية والتأويلية والتفسيرية، وكذا الشعائرية المذهبية التي نشهد فصولَها اليوم في بلادنا في جميع المناسبات، وما أكثرَها، والتي صارت تخرج عن المعقول وتستغلُّ القائم الموجود لصالح شريحة متسيّدة دون غيرها، مضيفة أشكالاً من لوعة الاستفزاز، الذي بقصدٍ أو بدونه، ينعكس على مجموع البشر المحيطين بمثل هذه المسالك والشعائر والممارسات التي تحوّل مناسباتٍ عديدة في السنة ولأيامٍ طوالٍ، إلى ساحة لجمع القمامة ومناظر بشعة للنفايات التي تفترش الطرقات والشوارع والأزقة وتقطع الكثير منها، وتتلف الحدائق العامة وتوقف مصالح الدولة وتؤخر معاملات وحاجات المواطنين وتتوقف فيها عجلة البناء والصناعة والاقتصاد، مضيفة أعطالاً جمّة على المتراكم منها في الحياة اليومية الرتيبة.

    هناك طريقة حسنة مرغوب فيها وأخرى سيّئة مرغوب عنها، للتعبير عن حبّ الناس للخالق وعباده الأولياء من أصحاب الكرامات والقداسة والبرّ. وحبّذا لو يُعاد النظر في وسائل أكثر عصرنة في طرق التعبير عن حبّ الإنسان لمَن يجلّه ويقدّرُه ويسمو بنفسه لبلوغ الأرَب في أسلوب التربية المُجدي الذي ينفع في الزمان والمكان وحسب تطوّر المجتمعات وبما يتوافق مع السلوك اليومي المعاصر والأخلاق الثابتة التي لا تتبدّل، لكنّها ترتبط دومًا بنهج الذوق والتربية المجتمعية التي تأخذ بالعلوم وتتأثر بها مع تقدّم الزمن وتطوّر أدواته.

   من هنا، لا يمكن لمجتمع فيه حضارة ولديه مثقفون وأسياد وأصحاب شهادات عليا وخبرات حقيقية أن يقبل بمثل ما يجري في بلدٍ أتعبتهُ عوادي الزمن وأمضى سنيّ عمره في حروب ومعارك ونزاعات داخلية محلية وخارجية، بحيث أضحت ثرواتُه لغير أهلِه، إلاّ مَن ساورَه الطمع والجشع وامتهن الفساد سبيلاً في سلوكه لبلوغ مآربه التقويضية للبلاد والأرض، حجرًا وبشرًا. فمثل هذه الصنو من البشر، ليسَ له وطن، كما أنه لا يتشح بثوب المواطنة التي تفرض فيما تفرضُه، نظافةَ الذيل في الحكم ونزاهةً في العيش مع الغير ومراعاة في احترام الخصوصيات والمشاعر والمصالح العامة. إنّ ما يجري اليوم من ممارسات ومن مزايدات في مناسك الشعائر للإخوة الشيعة في العراق، قد شابه المزيد من المغالاة والمزايدات في استعراض ما يسعى القائمون على المواكب من تقديمه للزائرين.

   وأنا في اعتقادي، أنّ مثل هذه المزايدات المتفاقمة سنة بعد أخرى، قد تفقد القائم والزائر معًا من أجرهما السماوي أو "الإلهي" أو "الإمامي" الذي يصبو إليه الطرفان، أو ما يعتقد به هذان الطرفان الحصولَ عليه من خلال هذه الشعيرة التي هي في حدّ ذاتها من دواعي الفخر والطيبة والجودة، إذا ما سارت بعفويّة وبِحُريّة وبدون قطع للطرقات وإيقافٍ للحياة العامة وإجبار مواطنين من إخوتهم في الوطن على تحمّل ما يُرغمون عليه غصبًا وإكراهًا وقسرًا، رغمًا عنهم. ليست هذه من أساسيات الحريات والكرامات والمقدّسات التي لو عاد أصحابُها اليوم، لما رضوا بما يجري وما يُقام من إفراط في كلِّ شيء، في البذخ بالصرف بميزانية مفتوحة على حساب حق سائر المواطنين، وفي إيذاء أصحاب المصالح الذين يضطرون لإيقاف عجلة الحياة اليومية المساهمة في بناء بلدٍ عانى ومازال من آثار التخلّف ومن أزمات متلاحقة ومن حروب خارجية ونزاعات داخلية بين المتصارعين على الجاه والثروة والسلطة.

    هذه دعوة للمعنيين والقائمين على تنظيم هذه المناسبات، لمراجعة ذاتية لما اعتادت البلاد أن تشهده في كلّ مناسبة تفرضها قوةٌ مهيمنة على مقدّرات البلاد كي تجعله أسيرًا لمثل هذه السلوكيات التي ليسَ لها مثيلٌ في البلدان المجاورة، ومنها الجارة إيران التي تستغلّ هذه المناسبات للترويج لشتى أنواع الدعايات والعروض واستهلاك المنشورات والصور التي تدرُّ عليها أموالاً طائلة من جرّاء هذه الاستخدامات غير المقيَّدة والمفتوحة من دون تبصّر ولا تحكيم للعقل والرويّة. وعلى مَن يتصوّر أو يخال نفسَه الولاية على الغير بهذه الأساليب التي خرجت عن إطارها التقويّ المتديّن باتجاه المتاجرة وحصد المغانم والمنافع التي تسرف فيها الدولة بلاد رقيب، عليه أن يدرك بالمقابل أنه عاجلاً أم آجلاً، سيصطدم بواقعٍ يرغمُه على التفكير بمصلحة الوطن العليا قبل أن يفوت الأوان وتسقط الصورة الطيبة التي يكنّها سائر أفراد الشعب، ومنهم المثقفون وأصحابُ الفكر المستنير وأتباعُ الحريّة والمؤمنون بالاعتدال في كلّ شيء من أجل البلوغ بالبلاد إلى مرافئ الأمان وبناء الذات وفي إعمار المتهالك والمدمَّر، أرضًا وبشرًا وفكرًا ومؤسسات.

   هذه هي الرؤية الوطنية التي ينبغي أن نتصارح بها جميعًا، بالرغم ممّا قد تنطوي عليه من ضربٍ وأذى لمصالح فئة أو شرائح تستغلّ هذه المناسبات، وما أكثرها، لتحقيق منافع ذاتية أو حزبية أو شخصية. وهي تبدأ من مثل هذه الخطوات التي تنكر الذات وتضعُ مصلحة الأمّة والشعب والوطن وبناءَه ورفاهَه وراحة أهلِه في مقدمة كلّ خطوة قبل الإقدام عليها. فالأولى بنا جميعًا أن نحثّ الخطى بإصلاح المنابع التربوية التي تنطلق من مناهج دراسية معتدلة تتحدث عن المواطنة ومحبة القريب واحترام الآخر المختلف بدل الإيغال في شروحات الأزمنة الغابرة التي عفا عليها الزمن ولم تعد تنفع في زمن العولمة والتكنلوجيا المعاصرة والأفكار المستنيرة.

    ولكن قبل أيّ شيء، لنبدأ العمل من البيت الأسري كي يكون مفتاحًا لثقافة تربوية منهجية في مدارس ومؤسسات الدولة التي نتوقع تغيير مناهجها كي تتعامل مع هذه المبادرة الحضارية. فالعودة إلى الوراء في عيش الماضي بكلّ ترسباته المتخلّفة والانكفائية، من شأنها التراجع في القيم وفي الفكر وفي التطور وفي البناء وفي كلّ شيء. وبعكسها يكون التطلّع نحو تقييم أرفه وأسمى ومتحضّر في فهم ذلك الماضي وما احتواه من فكرٍ كان نافعًا وممكنًا بالأمس في أوانه ومكانه، ولم يعد كذلك وفق حياة اليوم ومتطلباتها وتطورها وتقدمها في العلم والمعرفة والرؤية الشاملة للأشياء والأحداث. أمّا بعدُ، وقد نضجت الفكرة وتوضحت الصورة وبانَ ما يعكّرُ صفو الأجواء وسط البشر في الوطن الواحد، فلا بدّ من شجاعة ومقدرة حكيمة في أصحاب الشأن، كي يعيدوا التفكير بتغيير المفاهيم العتيقة في التأويل والتفسير والعيش المشترك.

   كما على الإكليروس الشيعيّ أن يعيد النظر في أسلوب الشعائر الجاري، والتي نأمل بقاءَها وطنية وليسَ مذهبية أو فئوية أو طائفية كي يشارك في إحيائِها مجموع الشعب، ولكن ليسَ بهذه الأساليب وهذ الصيغ "المتخلّفة" وغير الحضارية، وعذرًا على الصراحة في الطرح. فإننا شعبٌ متديّنٌ نحب الله والبشر، وتلكم بركةٌ من السماء أن يكون لنا نصيبٌ في حبّ الله والأئمة والقديسين، ولكن بأسلوبٍ حضاريّ مقبول لا يعيق أحدًا ولا يغيرُ أحدًا ولا يمتعض منه أحدٌ. فالشعب الذي لا متديّنون فيه لا يستحقّ أن يكون وريثًا لأرض الله! والوطن الذي لا يؤمن بحريّة الغير المختلف واحترام خصوصياته وخياراته لا يستحقّ أن يُكنّى بالبيت الجامع لمختلف الأطياف والمكوّنات! والدّينُ والمذهبُ اللذان لا يحترمان حرمة الغير من الأديان والمذاهب لا يستحقّان أن يُسمّيا بالدّين أو المذهب، طالما أنّهما مفترَضٌ بهما أن يسيرا وفق شرع الخالق من دون المساس بحرية الغير المختلف ولا استغلال الظروف لصالح منهجه وفكره ومنفعته! فرقابة الخالق هنا على أداء البشر وسلوكهم، أشدُّ من المخلوق الذي يناطح السحاب للتباهي والمزايدة فيما فعله في هذه المناسبة أو تلك.

   فلو عاد اليوم أصحابُ الكرامة والقدسية ووجدوا ما يجري بحجتهم، لما صبروا على الكثير من الممارسات التقليدية غير المؤتلفة مع روح العصر والمخالفة لبنود الشرع وأصحاب المنهج، كما كانت في البدايات. إنّ السلوك الدّيني وحريّة التعبير في تطبيقاته وممارساته، أمرٌ يتطلّبُ قدرًا واسعًا من المسؤولية، الفكرية والروحية والمنهجية والتربوية إلى جانب ما يليق لأصحاب الكرامات والقداسة من أفعال تقويّة في صميم الروح والنفس، وليس في المظهر والتبذير والبذخ غير المسؤول وغير المقبول أو في إعاقة حياة الغير وإيقاف عجلة الحياة العامة بحجة حماية زائر الكرامة. فتلك ينبغي أن تبقى في إطار العلاقة الخاصة والفردية بين الخالق والمخلوق. ومثلها ينبغي على الدولة أن تكون خيمة الجميع ولا تفرّق في تطبيق الدستور والقانون، وكذا في حصّة الثروات العامة كما في ممارسات الحياة اليومية، وترك شؤون العباد الدينية والروحية لأهلها من دون تدخل في النهج والتطبيق والتسيير. ف"ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، لمْ تُلقى على عواهنها ولم تكن مجرّد أقوالٍ، بل ينبغي أن تُعاش في الواقع اليوميّ، كي تبقى سلوكًا لثقافة مجتمعية راسخة جامعة وليسَ غاية للتضليل والاستفزاز وفرض واقع الحال. وهذا جزءٌ من ضرورات العودة الى الأفعال الحضارية التي يفرضُها تطور الزمن المتقدم، تمامًا كما حصل مع سلوكيات التجديد والتطوّر في الأفعال والممارسات الروحية والجهادية في المسيحية عندما انحسر دور الكنيسة ورجالاتُها في التدخل في الأمور الزمنية حينما حان وقتها.

   وليكن مؤتمر الأزهر للسلام في العالم، بداية المبادرة التي تكفل العيش المشترك وتتصدى للأفكار الهدّامة والتكفيرية الخاطئة من أجل بناء الإنسان والأوطان وتقريب الشعوب وتحضّرها وقبول بعضها البعض بالاستفادة من أشكال الاختلاف بينها، تمامًا كما في تنوّع أزهار الحدائق وأشجارها وورودها ورياحينها العطرة.

-------------------------------------

---------------------------

 

أعلى الصفحة

العودة للصفحة السابقة