خواطر
وكتابات عامة
مسيحيّون أمْ
نصارى؟؟ (جـ 2-3)
لويس اقليمس
1
شباط 2017
تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة، إلى المقصود بلفظتي المسيحيين والنصارى وما شكلته هذه التسمية من إشكاليات في الفهم والموقف بسبب التصور الخاطئ لعقيدة أتباع المسيحية وتمسك المقابل بقصور فهمه واستيعابه للمسيحية الحقيقية، وقبول عقيدة البدعة النصرانية التي كانت سارية أيام انتشار الدين الجديد المتمثل بالاسلام.
كما تطرقنا إلى المشتركات بين الديانات التوحيدية، وما اقتبسه الإسلام من البدعة النصرانية بما تيسر لصاحب الدبن الجديد من تلقين على يد مصدر الوحي، ورقة بن نوفل، الذي كان بين يديه نصّ الإنجيل العبراني المنقوص.
في الجزء الثاني نأتي على ما كان سائدًا في الجزيرة العربية من بدع في عهد الإسلام، وتأثير ذلك على الحياة الاجتماعية ومجتمع البداوة فيها قراءة ممتعة.
شيوع البدع في عهد الإسلام
كانت المنطقة العربية (شبه جزيرة العرب) خاضعة للإمبراطورية الرومانية، وفيها عاش اليهود والمسيحيون والوثنيون من الرومان واليونانيين والعرب قبل الإسلام، وما سواهم من قبائل، معًا ضمن ذات الأجواء الصاخبة. بل إنّ عددًا غير يسير من القبائل العربية كانت قد تنصّرت، مثل تنوخ وحمير وتغلب وغسان وكلب وأياد وبكر وشيبان وطي وتميم وكندة والحارث وغيرها كثيرٌ، إذا ما رجعنا إلى التاريخ المجهول لنا.
وقد "تلاقت المسيحية لأول مرّة بالإسلام في جزيرة العرب، لكنها كانت مسيحية غير صحيحة ومشوّهة، كان يمثلها تقليد شفهيّ منطبع انطباعًا قويًا بالأناجيل المنحولة"، بحسب الأب جورج شحاتة قنواتي (أنظر كتابه: المسيحية والحضارة العربية ص 96)، وهو من المؤرخين والباحثين التقاة. ويضيف الكاتب في ذات السياق: " كان للبيئة التي نشأ فيها الإسلام في بداية الدعوة بعض الاطلاع على الكتاب المقدس. لكنَّ هذا الاطلاع تناولَ كتبًا منحولة فقط"، مثل إنجيل متى العبرانيّ المنحول، الذي اعتمده القرآن بحسب إيحاء ورقة بن نوفل.
كانت الأرضية في جزيرة العرب والمنطقة، مرتعًا للعديد من الفلسفات والشيع والبدع والفرق والهرطقات التي كثرت آنذاك. من هنا يمكن عدّ النصرانية مثلاً، بمثابة فلسفة فكرية قائمة إلى جانب غيرها من البدع أو الفلسفات السائدة آنذاك، كالغنّوصية والمرقيونية والآريوسية والمانوية والمريمية والكسائية والأبيونية (وتعني الفقراء-المساكين)، وشهود يهوه والأحناف والداوودية (ذكرها الأب أنستاس ماري الكرملي في إحدى مقالاته في الشرق، ويعودون بها إلى يهودية داود الملك مع اقتباسات عن المسيحية) وغيرِها.
فقد تأثر القس ورقة بن نوفل نفسُه مثلاً، ببدعة الأبيونية، كما يبدو، والتي كانت ترى في المسيح نبيًّا عظيمًا كسائر الأنبياء، جاء ليكمل ناموس موسى، لا أكثر. ومعروف عن ورقة، تبحّرُه في العلم وتتبعُه للكتب وتفسيرها مستفيدًا من خلفيته الغنوصية الكسائية التي كانَ متأثرًا بها أيضًا، بحسب البعض.
ومنهم مَن يقول إنَّ فرع عبد العزّى بن قصي، ألجدّ الرابع لرسول الإسلام وآخرون أحناف من قريش، كانوا من أتباع هذه الفرقة المؤمنة بالنصرانية، أي المسيحية المنحرفة (أنظر أبو موسى الحريري، قس ونبي).
لذا، جاء فهمُ أتباع هذه الجماعات وإيمانُهم بالمسيح من منطلق بشري ناقص لا يرى في رسالتِه، قدرتَه الإلهية ومشروعَه الخلاصيّ كابنٍ لله، وُلد وعاشَ وتألمَ وصُلب وقام وصعد إلى السماء.
وربّما هذا ما حتّمَ على القرآن أن يتعاملّ مع أتباع هذه البدعة فقط التي كانت سائدة آنذاك في المنطقة أكثرَ من غيرِها، من منطلق بشريّ ومادي لا يتعدّى القبول الحرفيّ بماهيّة المسيح وتشبيهه البشري.
وعدَّ كلَ ما جاءَ خلافًا لتعاليمِها بمثابة التحريف والكفر والإشراك، تمامًا كما كان فعَلَ اليهود المتنصرون بقبولِهم للمسيح من وجهة نظر ناقصة وعلى مقاس أفكارهم اليهودية المنحرفة.
والقرآن نفسُه يشيرُ إلى تكاثر الأحزاب والشيع والفرق والبدع في مكة والحجاز على أيام الرسول محمد في مواضع عديدة (القرآن 19/37 و43/65، و2/136 و3/84). وقد ظلّ اليهود يناصبون المسيحية العداء ويكيدون الدسائس ضدّهم، تارة مع العرب وتارة مع الفرس وأخرى مع الرومان، ولم يعملوا بالتسمية المسيحية، بل ظلّت التسمية النصرانية على ألسنتِهم، وشايةً بهم وانتقاصًا من سيدهم الذي عاشَ في مدينة الناصرة، ومنها أتت التسمية (ناصري ونصراني).
وعلى ذكر الأبيونية على وجه التحديد، لا الحصر، كانت قد ظهرت في القرن الأول الميلادي، مع اليهود المتنصرين الجدد وخلقت إرباكًا في الرسالة الإنجيلية، ما اقتضى ردعَها وإدانتَها من قبل الرسل وتلاميذهم من بعدهم.
ويقول أبيفانوس أسقف قبرص من أواخر القرن الرابع (310-403م) بحقهم، أنهم" ليسوا مسيحيين ولا يهود ولا وثنيين، بل هم يقفون في منتصف الطريق، فليسوا هم شيئًا".
ويضيف المؤرخ يوسابيوس القيصري: "لقد دُعوا أبيونيين، لأنهم اعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضعية، فهم اعتبروه إنسانًا بسيطًا عاديًا قد تبرّرَ فقط بسبب فضيلتِه السامية، وكان ثمرةً لاجتماعٍ رجلٍ معيّن مع مريم. وفي اعتقادهم أنّ الاحتفاظ بالناموس الطقسيّ ضرورة جدًّا، على أساس أنهم لا يستطيعون أن يخلصوا بالإيمان بالمسيح فقط وبحياة مماثلة".
والقديس إيرونيموس يقول مخاطبًا القديس أغسطينوس في إحدى رسائلِه: " ماذا أقول عن الأبيونيين الذين يدّعون أنهم مسيحيون؟ أرادوا أن يكونوا يهودًا ومسيحيين في وقت واحد، وما استطاعوا لأن يكونوا يهودًا أو مسيحيين".
وهذا كلامٌ واضحٌ على ضحالة إيمان أتباع هذه البدعة التي كان عليها القس ورقة بن نوفل وأتباعُه في الجزيرة العربية أيام رسول الإسلامح وقد انقرضت تمامًا.
مّا لا شكَّ فيه، أن أحد زعماء هذه البدعة كان القس ورقة بن نوفل الذي لعبَ دورًا رائدًا في ظهور الدين الجديد المتمثل بالإسلام.
فهذه البدعة التي لم تكن تعترف سوى بإنجيل متى العبرانيّ، كانت تدين هي الأخرى ب "النصرانية" بدعةً وليس عقيدة مسيحية رسولية.
أي أنَّ عقيدتُها كانت ناقصة، من حيث خروجها عن تعاليم المسيح والرسل من بعده، كما وردت في الأناجيل الأربعة الصحيحة التي حافظت على مصداقيتها وصحتها من تأثيرات جماعات منتفعة وخارجة عن التعاليم الرسولية الصحيحة. ف"النصرانية"، التي أتت بها الأناجيل المنحولة، هي التي يقصدها ويتحدث عنها القرآن حتمًا، وليس المسيحية الأصيلة في تعاليمها الأولية.
وهذا ما يشيرُ إليه أبيفانوس أيضًا في موقع آخر، الذي "يعدّ النصارى في ذلك الزمن، بأنهم هراطقة ينحدرون من أصل يهوديّ، بعد تنصّرهم، مع التأكيد على تمسكهم بعيش الشريعة اليهودية وتطبيقها، معتبرين أن الإيمان ليس كافيًا للخلاص وأنّ المسيح ليس الله!".
وهذا ما يؤكده آباء الكنيسة من أنَّ الكثير من نصارى الجزيرة العربية، لم يكونوا مستقيمي العقيدة، وإنّ إيمانَهم كان ناقصًا لعدم اعترافهم بآلوهية المسيح وبكونِه ابنّه الوحيد، إلهًا وإنسانًا في ذات الوقت، ومساوٍ للآب في الجوهر، كما تقول العقيدة المسيحية المستقيمة.
ويرى ذات المعنى فيما ذهبنا إليه، الحسنُ البصري، بقوله: "أنهم (أي النصارى) ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، ولم يكونوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين".
ومع قدوم الفاتح الجديد المتمثل بالإسلام، حاول المسيحيون التأقلم مع الوضع الجديد، ودخلوا فيما بعد، في دواوين الخلفاء وفي الخدمات العامة، وارتقوا مناصب مهمة، ونقلوا حضارة اليونان والفرس والهنود عبر تآليفهم وتراجمهم الكثيرة وعبر التطبيب والعلوم والفلسفة والحكمة التي مارسوها من دون منازع.
فكانوا أهل ثقة الخلفاء والولاة والأشراف في العمل والعبادة والأمانة والمحبة، أينما حلّوا وارتحلوا. كما حافظوا على كنائسهم وعباداتهم ومواسمهم في المناسبات والأعياد. بل إنّ الكثير من الخلفاء والوزراء وأتباع الإسلام، كانوا يشاركون في مثل هذه المناسبات، بل صاروا يتقنون السلام بالسريانية، ويقولون (بارخمور، أي بارك يا سيّد)، كما يشير إلى هذا ابن العبري، بل واصبحوا يدركون معاني الديانة المسيحية وأسرارها.
كما قامت مناظرات جدلية صريحة بين الطرفين، مثل المناظرة المشهورة للخليفة المهدي مع البطريرك طيماثاوس الأول الشهيرو. وهذا ما يفسّر التلاقح بين الديانتين المسيحية والإسلام في بطون القرنين الأول والثاني لقدوم الفاتح الجديد للمنطقة. إلاّ أن الحالة الطيبة لعموم المسيحيين، لم تسرْ دومًا ضمن هذا السياق الهادئ المتسامح.
بل شهدت اعتراضات وكبوات كثيرة قائمة على تطبيق حرفيّ لما أوردته آياتٌ قرآنية مدنية ناسخة تقلّل من شأن المسيحيين (النصارى بالتعميم) ومن ديانتهم، وترفض توليتهم في مواقع الدولة. بل شهدت المسيحية وماتزال ونحن في الألفية الثالثة، اضطهادات عديدة وتصفياتٍ بحدّ السيف أو أداء الجزية المهينة أو إنكار الدّين والتحول للإسلام، استنادًا لما كان أورده القرآن بحقهم في حقبة غابرة معينة من الزمان، تختلف تمامًا عمّا تعيشه الإنسانية اليوم من تحوّلات ورقيّ وتطور علمي وتكنلوجي، لا يمكن أن يعود بها الزمن إلى أيام الجهل والظلامية والقتل والسيف والفوضى.
وليسَ هناكَ من قادرٍ أو شجاعٍ أو مجازف لتبيان أنّ طبيعة الحياة قبل أكثر من خمسة عشر قرنًا وكذا طبيعة الشعوب والوضع الاجتماعي تختلف تمامًا عن أيامنا، بسبب تطور العصر وزيادة القدرات البشرية والعلمية والفكرية هذه، بل وفي نوعيّة البشر.
- يتبع الجزء الثالث والأخير.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة