خواطر
وكتابات عامة
مسيحيّون أمْ
نصارى؟؟ (جـ 1-3)
لويس اقليمس
25
كانون الثاني 2017
الجزء الأول 1/ 3
مسيحيون أم نصارى؟ لفظتان تثيران لغطًا كبيرًا وإرباكًا واضحًا في صفوف أتباع الديانة المسيحية وسواهم على السواء. فالنصارى المذكورون في القرآن والمقصود بهم في آياتٍ عديدة، ليسوا البتة من المسيحيين الحقيقيين. بل يُقصد بهم أتباع إحدى البدع التي استفادت من بعض مبادئ المسيحية آنذاك واستغلّت هذه الصفة في تعاملِها مع المحيط الذي ظهرت فيه الرسالة المحمدية، مستفيدة من خلافات إدارية كنسية وديرية لنفرٍ من الرهبان خرجوا عن طاعة تعاليم كنائسهم وأديرتهم ليشكلوا أمثال هذه البدعة في أرضية كانت مهيّأة لتسهيل خروجهم عن عصا الطاعة. ومن ثمّ فالتسمية الشائعة عن المسيحيين بكونهم نصارى، خاطئة. وقد جلبت لهم هذه، مآسي كثيرة وسوء فهمٍ من لدن إخوتِهم المسلمين، حين تفسير الأغلبية للنصوص التي يأتي القرآن على ذكرهم فيها في كيفية التعامل معهم، ولاسيّما في الآيات المدنية الناسخة لسابقاتِها المكّية للأسباب التي سنأتي على ذكرها.
فالحقيقة المخفية، هي في الجهل القائم في التفريق بين نصرانية الأمس أيام نشأة الإسلام وبين المسيحية الرسولية على حقيقتِها المطلقة، كما وردت في الأناجيل الأربعة الرسمية وكما نقلها التقليد وقصص التلاميذ الحواريين والرسل مع بدء انتشار المسيحية. وهذا يقابلُه جهلٌ آخر في الإسلام الذي أتى به الرسول محمد وبين إسلام اليوم، ولاسيما في التطبيق، دون الأخذ بنظر الاعتبار أوضاعَ وطبيعةَ أهلِ الأمس وسيرتَهم وأحوالَهم والظروف التي أحلّت نشأة الإسلام ومصدر الوحي (ونقصد به القس ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصي، عمّ السيدة خديجة، زوجة الرسول محمد الأولى والوحيدة على أيام عمّها القس)، الذي بانتهائه وموته انقطع الوحي فترةً، وتغير بعده شكلُ نزول الآيات، وغاياتها ومقاصدها. فالإسلام، كما يرى المؤرخون قد نشأ ونما على أنقاض النصرانية التي كانت معروفة في مكّة والجزيرة آنذاك. وهذه كانت ديانة مشوّهة عن المسيحية الحقيقية، أراد بها القس ورقة، وبسبب قرابته من السيدة خديجة، أنْ يجمع شتاتَ أهل مكّة الموزَّعين بين بدع وأحزاب ونحل كثيرة في دين واحد وتحت راية زعيم واحد، هو الرسول محمد، الذي حثَّ وجاهدَ من أجل تهيئتِه لهذه المهمة الصعبة. وهذه حقيقة تاريخية لمن يرغب في البحث عنها في بطون الكتب والمؤلفات التقاة.
في هذا السرد التوضيحي البسيط، سنحاول أن نكتشف مَنْ همْ المسيحيون، وعلى مَن أُطلقت تسمية النصارى؟ وذلك تفسيرًا للفظتين وتوضيحًا لما قد يفيد في هذا الشأن، تحاشيًا لكلّ سوء فهمٍ وغموض معنى.
من هم المسيحيون؟
ألمسيحيون، ومن دلالة التسمية ذاتها، هم أتباع المسيح، يسوع الناصري (ناصرة الجليل بفلسطين)، التي ينتسب إليها بسبب عيشِه فيها سنوات عديدة. ومن هذه الأخيرة، جاءت تسمية يسوع ب "الناصري" أيضًا، لكونها كانت كورتَه وبلدتًه. وقد كانت هذه التسمية تحمل شيئًا من الاحتقار والدونية في ذلك الوقت، بسبب انتماء الناصرة إلى منطقة الجليل. والمعروف عن الجليليين، أنهم كانوا شعبًا خشنَ المعشر وغير لطفاء. والمسيح الذي عُرف لدى اليهود ب "ماشيحا"، كما تسمّيه الآرامية القديمة و "مشيحا أو مشيحو" بالسريانية، كان يهوديًا، وقد عاش ديانتَه اليهودية بحسب الشريعة وطبّقها كسائر أبناء جلدتِه لحين بلوغِه سنَّ الرسالة في الثلاثين من عمرِه. والمسيح لم يأتي ليحلَّ الناموس والأنبياء، بل ليتمّمَهم (متى5: 17). وكلمة "المسيح" تعني الشخص الممسوح للرب بالدهن المقدّس، والمقتصر على الملوك والكهنة والأنبياء حصرًا، وهي صفاتٌ ثلاث اتسمَ بها المسيح، كما تنبأ بذلك، الأنبياءُ قبلَه وأعلنوا عن قدومِه في ملء الزمان. ومازال اليهود في ضلالتِهم بحسب تلمودِهم، في انتظار هذا "الماشيحا" مخلّصًا لهم، لعدم إيمانهم به حين وافاهم مولودًا في مغارة، بسبب نفاقهم وقساوة قلوبِهم وعماوة عقولِهم وسخافةِ أفكارِهم، ذلك لأنّهم كانوا يريدونه مسيحًا ملكًا دنيويًا يتولى تقويض أركان الإمبراطورية الرومانية ويخلّص الشعب اليهودي من جبروتها وقسوتها وظلمها آنذاك. ومن ثمَّ لم يستوعبوا ما ذُكرَ في كتبهم على أيدي الأنبياء.
المسيحية، ديانة تاريخية، أسسها المسيح. ومن ثمّ فليست أيديولوجيا أو بنية فكرية أو فلسفة دخلت المجتمع من باب التبجّح أو الزوغان عن الطريق الصحيح أو لتحريف دين. بل وُلدت مع ولادة المسيح مؤسِّسها، الذي شاء التجسّد بشخص إنسان لينقذ هذا الإنسان ويصالحَ البشر مع اللّه بهذا التجسد، ومن ثمّ الموت، شرَّ ميتة، مصلوبًا بسبب حبّه الكبير لبني البشر، وفقًا للمشروع الخلاصيّ، وتمامًا كما تنبّأ به الأنبياء في العهد القديم من أجل تأسيس ملكوت سماويّ.
كانت ولادة المسيح، في بيت لحم أفراطَ باليهودية في مذودٍ وضيع، حينما لم يجد والداهُ، يوسف النجار ومريم العذراء، وهما في طريقهما للاكتتاب العام، مكانًا لتلدَ فيه ابنَها البكر يسوع. وجاءَ في بشارة الولادة أنّ ملوكًا من الشرق رأوا نجمَ وليدٍ عجيبٍ وملكٍ عظيمٍ، فجاؤوا للسجود له في موقع المذود حيث وُلد. وقد شاهدوا وعاينوا بساطة الربّ الإله، "ملك إسرائيل" وليدًا بين حيوانين، ليتمّ ما قيل في الكتاب المقدّس، " الثور والحمارُ عرفا ربَّهما، وأمّا إسرائيل، فلمْ تعرفْهُ"، دليلاً مادّيًا على جحود شعب إسرائيل لربّه الذي رافقه في خروجِه من مصر وأنقذَه من سلطان فرعون وأعانَه في سبيِه في بابل.
عاشَ المسيحُ رسالتَه في فلسطين لثلاث سنوات، أمضاها في التبشير والتعليم. واختارَ اثني عشرَ تلميذًا لمرافقتِه، أغلبُهم من بسطاء الناس، وعلى رأسهم الصيّاد "بطرس"، الذي بشّره المسيحُ أنّه سيصيرُ صيّادًا للناس، وهامةَ الرسل. ولكي يتمّ الكتاب وتتحقّق أقوالُ الأنبياء التي تنبأت به وبالمشروع الخلاصيّ، وكي تكتمل إرادةُ الآب السماويّ أبيه، اتهمَهُ اليهود بنقض شريعتِهم وبالتجديف بكونِه إلهًا، ممّا كان يستوجبُ الموت. فالمسيح، لم يتحمّل أن يتحوّل هيكلُ الله (الهيكل الذي بناه سليمان الملك) المخصَّص لعبادة اليهود لإلههم، إلى مغارة للتجارة واللصوصية في وضح النار.
فما كان منه إلاّ أن أعملَ السوط وطردَ الباعة من الهيكل، ما أغاض اليهود ورؤساءَهم.
وبسبب الفوضى هذه التي أتى بها المسيح لتنظيف بيت الّله، والأعاجيب الكبيرة التي اجترحَها في صفوف الشعب اليهوديّ في سنيّ رسالتِه الثلاث، ولما شكّله ذلك من غيضٍ في صفوف الطبقة الحاكمة المتمثلة برؤساء الكهنة والفريسيين والمشايخ الذين رفضوا ما أتى به من شريعة جديدة مكمّلة لسابقتِها، شريعة تنتقد وترفضُ وتكشف أعمالَهم الخبيثة وابتعادَهم عن الوعد والعهد الذي قطعهُ الله، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، لذا اتجهوا لاتهامِه بالتجديف والخروج عن المألوف وبمنافسة القيصر الرومانيّ آنذاك. فوشوا به لدى الحاكم الروماني بيلاطس الذي قضى بموتِه، بالرغم من عدم اقتناعِه بالأسباب التي قدّمها رؤساء اليهود ضدَّه.
لم يقتلْهُ بنفسِه، بل سلّمَه إياهُم، غاسلاً أيديَه أمام الشعب اليهوديّ في دار الولاية، دلالةً على براءة المتّهم من ذنبٍ لم يقترفه وتبرئةً لشخصِه من الحكم الذي اضطرّ للنطق به لترضية اليهود. وبعد صلبِه يوم الجمعة العظيمة، اظلمّت السماء وكسفت الشمس، لأنّ ملكًا عظيمًا، هو يسوع المسيح، "إبنُ اللّه" (الأقنوم الثاني)، قد مات! وقد دُفن في قبرٍ جديد، تبرّعَ به أحدُ سادة اليهود من الأشراف. وبعد ثلاثة ايامٍ قامَ من القبر بإرادة الّله أبيه، وظهر للمريمات وللرسل مرارًا، حتى صعودِه إلى السماء في يوم الأربعين. وهنا ظلَّ التلاميذ والرسل في حيرة منكمشين على ذواتِهم ومختفين خائفين، لحين انقضاء اليوم الخمسينيّ الذي فيه نزل الفارقليط (المعزّي)، أي الروح القدس عليهم، كما كانَ وعدَهم المسيح، ليقوّي من إيمانهم ويثبّتَ من عزمهم ويشجّعهم على إكمال رسالتِه على الأرض من بعده. وهكذا، بعد امتلائِهم من الروح القدس والنار التي حلّتْ عليهم، أخذوا يبشرون بالإنجيل وبيسوع المسيح مخلّصًا للبشر.
فطافوا في أرجاء فلسطين، حيث مسقط رأسهم وموطن سيدهم، ثمّ تبلبلوا وانتشروا في أرجاء المسكونة كلّها. فنمت المسيحية وانتشرت، بفضلهم، وهم كانوا من أبسط الناس. لكّن الروح القدس حوّلهم إلى دعاة شجعان للإنجيل وأصحابِ حجّة قوية، لهم قضيّة وهي نشر بشارة المحبة والسلام والمسرّة وسط الناس. وكان لاهتداء شاول الطرسوسيّ (بولس الرسول)، ذلك الفرّيسي العنيد، الذي حاربَ المسيح في بداية التبشير الرسوليّ، الأثر الكبير في سرعة انتشار المسيحية خارج المناطق اليهودية، وفي عموم أرجاء الإمبراطورية الرومانية، لأنّه كان مواطنًا رومانيًا ايضًا.
بعد سنواتٍ من التبشير بالدّين الجديد، بدأت تسمية المسيحية (ويقالُ إنّ أول تسمية للمسيحية صدرت من كنيسة أنطاكية)، حيث عُرف أتباعَ المسيح بها وليسَ بغيرِها، تحقيرًا لهم في البداية ونكايةً بمَن كان يهتدي إلى الديانة الجديدة المحظورة آنذاك من الإمبراطورية الرومانية التي ناصبتها العداء في بداية انطلاقِها.
ولمْ يكن المسيحيون الأوائل يهابون السلطات ولا الموت، بل عاشوا متآزرين ومتعاضدين لبعضهم البعض. بل إنّهم طبقوا نوعًا من النظام الاشتراكي في حياتِهم المشتركة اليومية على عهد الرسل والتلاميذ الأوائل، كما يشير كتاب أعمال الرسل. ولم يأنفوا أو يخجلوا من هذه التسمية التي كانوا يُنعتون بها بغرض التهكّم والتحقير أحيانًا كثيرة، حيث اعتبروا صليبَ المسيح فخرًا ووسامًا، بحسب قول رسول الأمم بولس الرسول: "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ." (غلاطية 5،14) وكانت السمكة رمزًا لوجودِهم وبقائِهم ورسالتِهم.
واليوم، تُعدّ المسيحية من أكثر الديانات انتشارًا في العالم، ويفتخرُ أتباعُها بكونِهم من المؤمنين بالّله وابنِه الوحيد الذي سُرَّ به، ذبيحةً حيةً من أجل خلاص العالم، ومن حاملي بشرى السلام والمحبة التي هي من أهمّ وصايا ربّهم المسيح التي أوصاهُم بها. فهي تُعدّ أكثر من ملياري ونصف نسمة منتشرة في عموم القارات وبلدانها المترامية.
مشتركات للديانات التوحيدية الثلاث
لم تخرج المسيحية عن الاعتقاد اليهودي بإله واحد، كما تشير إليه نصوص الكتب المعترف بها في العهد القديم، أي التوراة. جاء في سفر تثنية الاشتراع مثلاً "الرب هو الله، وليس إله سواه" (تثنية 4: 35 ). وهذا ما أكدته تعاليم المسيحية التي تُختصر بقانون الإيمان الواحد "نؤمن بإله واحد، آبٍ ضابط الكلّ، خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى).
وهذا ما يؤكّده القديس بولس في رسالتِه إلى أفسس "للجميع رب واحد، ومعمودية واحدة، وإله واحد، وآب واحد هو فوق الجميع ومع الجميع وفي الجميع" (أفسس 4:5-6). وجاء في القرآن في سورة الإخلاص أيضًا، ما يؤكد وحدانية الله " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد" (112: 1-4).
في الديانات الثلاث، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، مشتركات إيمانية عميقة توحي بل تؤكد نفيًا قاطعًا لأية علامات للشرك بالإله الواحد، خالق الكون وما فيه من عناصر. كما تتجسد سمات الحب والرحمة والغفران والقوة والعظمة في سلوك الإله الذي يؤمن به أتباع هذه الثلاث من دون اختلاف، إذا عدنا في الأساس إلى الإيمان الأولي من دون تشويه. فالله "هو الحكم والحاكم، وهو العدل المقسط، يحب البر والعدل"، كما يقول المزمّر داود النبي (سفر المزامير 32:5). هناك إذن إجماع، على عدل الله وحكمه في يوم الدّين، ومن وجودٍ للثواب والعقاب والجنّة والنار، مع اختلاف الرؤية والتصوّر، ربما. وأيًا كان الاختلاف، فالموصى به عدمُ الخروج عن مشيئة الله وعبادته وإطاعة إرادته، لكونه خالق البشر جميعًا أحرارًا ومتساوين في حق الفكر والرأي والحركة.
ولاريبَ في المسيحية، أن وصلت الطاعة للمسيح وفي اتّباع تعاليمه حدَّ الاستشهاد، أيامَ الاضطهادات منذ بدء تاريخ المسيحية ولغاية اليوم.
الأديان الثلاثة تتحدث عن مسألة الثواب والعقاب للأعمال التي يستحقها كلّ إنسان في حياته الفانية القصيرة على الأرض، ومنها إيمانُه بالحياة الأبدية وبوجودٍ للآخرة حيث الحاكم الديّان، إله البشر، ينطقُ حكمَه على الأبرار والأشرار. فيذهبُ الأبرار إلى الملكوت والجنة (باختلاف شكلِها لدى أتباع الديانات)، فيما الأشرار يُدفعون إلى النار حيث الهاوية واصطلاؤهم بنيران جهنّم، جزاءَ أعمالِهم.
اليوم، ومن حيث المبدأ، هناك شبه اتفاق بين المتنورين في الديانات الثلاث وخارجها، على ضرورة احترام الآخر وعدم الازراء بالمفاهيم التي أتى بها كلّ دين، من الناحية الإنسانية والاجتماعية، انطلاقًا من حقيقة كون جميع البشر مخلوقين على صورة الله ومثالِه من أجل تمجيد اسمِه القدوس.
كما يدعو العقلاء فيها إلى نشر مفاهيم التقارب والتآلف والمحبة والسلام والتعاون بين جميع الأديان وبين جميع البشر، مع الاحتفاظ، كلّ بخصوصياته ومبادئه وعقائدِه وقيمه وطريقة سلوكه باحترام المختلف وعدم التحريض، بل بجعل الحوار والتفاهم قاعدةً للعيش المشترك. فاللهُ واحدٌ للجميع!
-يتبع ج2 و3.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة