خواطر
وكتابات عامة
مانديلا عادل بمواصفات عراقية
لويس اقليمس
2
كانون الثاني 2017
لا أحد ينكر ما حققه الحراك النخبوي في الشارع العراقي من تأثير في نفس المواطن على المستوى الوطني منذ انطلاقته الصحيحة بفضل حرص التيار المدني الديمقراطي وأتباعه، ومَن لحقه تباعًا. كان ذلك، انطلاقةً صادقة بانتظار أن تتبعه خطوات أكثر حراجةً للفئة السلطوية التي تأبى مغادرة معاقلها الطائفية والمصلحية الضيقة. فهذه الأخيرة، ولاسيّما القريبة منها من المسوّغ الدينيّ والطائفيّ، كلّما اشتدت نقمة العامّة على أدائها واختراق صفوفها وفضح مفاسدها ومحاجة مآخذها ومبرّراتها الانتهازية، ازدادت تمسكًا وتعلّقًا بمنهجها وسلوكها السلطوي على رقاب البسطاء من الذين يستسلمون من دون وعيِ لتشريع المقدّس في وعظ سلاطين الدين والطائفة والمذهب ضمن الحلقات المشبوهة التي يقيمونها لكسب صوت الناخب وتوجيه يقينه وتصوراته وفق ما تقتضي مصلحة أصحاب الشرع والحلال والحرام. إلاّ أنّ هذا الحراك، بالرغم من أهميته وتاثيره، ما يزال دون المستوى المطلوب، كي يأتي بثمار أكثر وأكبر. فهو بحاجة إلى تطعيمٍ متواصل من وسائل التواصل الاجتماعي وسائر الفعّاليات المجتمعية والمنظماتية، إلى جانب نخبة الأكاديميين والمثقفين والكتاب وأصحاب الغيرة الوطنية التي تقتضي تلاحمًا أوسع في صفوفها، تخطيطًا وتنسيقًا ومنهجًا برؤية قصيرة ومتوسطة وبعيدة على السواء. وهذا هو عمل التنسيقيات النشطة بتنوّعها، من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
من شأن تواصل هذا الحراك الوطنيّ، تقييم المسيرة السابقة وتحديد مكامن القوة التي ما يزال السلاطين في قمة الهرم السياسيّ ووعّاظُهم يستقوون بها ويتخذون منها منهجًا واستكمالاً لمشاريعهم الطائفية التي أسسوا لها منذ الغزو الأمريكي الذي أتاح لهم مثل هذه السلطة عن غير وجه حق، حينما جعل الكثير من أمثال هؤلاء يتربعون على عرشها من غير استحقاق وطنيّ ولا جدارة، إلاّ لكونهم أسيادًا في دين وطائفة وحزب وكتلة سكتوا ومازالوا يسكتون عن الضيم الذي لحق بالشعب المقهور وعن الحيف القائم لغاية الساعة بنهب ثروات البلاد وفي التغافل عن المصلحة العليا للوطن، حفاظًا على مكاسبهم ومصالحهم وخوفًا من زوالها ونقصانها وخسارتها.
بعد بلوغ العملية السياسية مرحلة من الكساد والعجز في كلّ خطواتها، اتجهت الأنظار نحو ترقيعات في إصلاح ما تمزّق وتعثر وفشلَ، دون التنبه إلى جذور المشكلة ومن دون الإقرار بالخطيئة الكبيرة التي لم ولن تستطيع أجيالٌ قادمة ولاحقة من محوها والصفح عن مرتكبيها، من جانب ذوي قساة الرقاب وغلاظ الطباع ومتشحي النفاق، في السياسة والدّين والمذهب. حتى حزمة الإصلاحات المفترَض تصريفُها وإخراجُها بالطريقة التي وُعد بها إتيانُ رئيس الحكومة الحالية، لم تأتي بثمارها إلاّ جزئيًا وضمن نطاق محدود، ذرًا للرماد في العيون! فقد تراجعت هذه، هي الأخرى، وهمدت بحجة الانشغال في مقارعة معاقل الإرهاب ودحرِه وإنهاء وجوده على الأرض التي كان للشركاء في حكومته فضلٌ ومساهمة مباشرة أو غير مباشرة في استقدام هذا التنظيم المتوحّش وفي تعزيز قدراته وإطالة وجوده لأكثر من عامين.
ومن حق السائل أن يستنفر ويستحثّ ضمائر الساسة التي ضعفت بفعل انهماك الكثير منهم في نيل المبتغى وفق شريعته ومنهاجه وبرنامج مرجعيته. فأين كان حماة الوطن بكل فصائلهم، من الذين صرفت الحكومات المتعاقبة على تعيينهم وتدريبهم وتسليحهم ما فاق صرفيات جيوش العديد من الدول لسنوات عديدة؟ جملة استفسارات وتساؤلات غيرها، ترتكض في مخيلة الشرفاء وحتى البسطاء من أبناء الشعب من أجل معرفة الأسرار الكامنة وراء الإخفاقات طيلة السنوات المنصرمة من بناء قدرات الجيش العراقي المتهاوي الذي أنهى الغازي الأمريكي صفحاتِه المشرقة بإشارة وقبول بل بتحريض من مراهقي السياسة القادمين بعد السقوط المأساوي للشرف العراقي، وطنًا وجيشًا وشعبًا وتاريخًا وتقليدًا!
أمام هذه التصورات الوطنية المحقة، كان الأجدر بمن تلطخت أياديهم بفساد المال العام منذ السقوط وبتدمير البنية المجتمعية للشعب، أن يخشوا خيفة الله ويحفظوا ماء الوجه بتغيير السلوك الماكر ومغادرة نهج التشبث الأعمى بالمنهج الذي جلب الوبال والدمار على البشر والحجر في البلاد. فالنوايا ما تزال خبيثة، والإرادة ما تزال قوية للمضي في الطريق الشائك الذي يرسّخ للهوية الطائفية ويحاول إطالة ما أمكن في مشروع المحاصصة في الطروحات الجديدة لبعض القوى، التي اعتقدت مخطئة أنها بهذه الطروحات الحديثة- القديمة لمشروع التسوية مثار الجدال، ستتمكن من إزاحة جدار الغضب من أمام مشاريعها الانتهازية بالإبقاء على المغانم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإلى ما شاء القدر وارتضت يد الفساد ومَن يقف في الصفوف الخلفية الداعمة والساندة بغية شرعنته وتعزيز بقائِه.
إزاء كلّ هذا الكمّ من الفساد المتفاقم الذي تسعى قوى سياسية ودينية وطائفية للإبقاء عليه لدورة قادمة من حكم العراق، بهذه الطريقة المخجلة من توليفة التسوية غير الناجعة المطروحة، لا بدّ من سعي مواطنيّ وشعبيّ ونخبوي على كافة الأصعدة، فيه يتمّ تصعيد المطالب بالإصلاح الجذريّ الحقيقي وليس الترقيعيّ الذي لا فائدة مرجوة منه على المدى المتوسط والبعيد. فموضوعة الاستحقاق الانتخابي التي يعلّق على شمّاعتها بعض الساسة المستفيدين بإبقاء منهج المحاصصة ساريًا، لم تعد مشروعة ولا بدّ من إنهاء أسطورتها في شكل القانون الجديد للانتخابات الذي ينبغي أن يضع حدًا لمثل هذا الطغيان والتسلّط بسبب الوضع السابق الذي تبنته هذه القوى الفاشلة وفق مقاسات مصالحها والطريقة التي تحفظ مكاسبَها لأطول فترة ممكنة من خلال القانون الانتخابي المتحيّز لجانب الكتل الدينية والطائفية صاحبة المشاريع الإسلاموية التي لا تقرّ بمطالب الشارع بإرساء سياسة منفتحة لدولة مدنية متحضّرة تحترم الجميع وفق مبدأ المساواة والعدالة والحقوق المواطنية الكاملة وغير المنقوصة للجميع. وكفى سماعنا لأصوات نشاز تدّعي ما لم يعد يتحملُه الشارع العراقي الثائر المترَع بالمشاكل والمظلّل بضلالات تستقوي شرعًا بطاعة المحكوم للحاكم الظالم في ظلّ يافطات دينية وأخرى طائفية وغيرها عرقية أو تحت رايات استعلائية تتخذ من حاجة الناس وعوزهم عذرًا لفرض أسلوب للحياة وفق مقاسات الأسياد ومصالح مَن في بطانتهم من المستفيدين الفاسدين. لقد أضحت هذه الفئة التي تكاثرت ونمت كالأميبا تحت خيمة شخصيات متنفذة في الحكومة وفي الأحزاب المهيمنة على الحياة السياسية، ظاهرة مقلقة يصعب الخلاص منها في اقتفاء أثر أصحاب الأموال والعقارات وأرباب الشركات بملاحقتهم بغاية الابتزاز والسطو وفرض الإرادة من دون أن تبدر من الجهات الأمنية ردود صارمة ومن الدوائر العدلية إجراءات رادعة.
لا شكّ أنّ إدارة البلاد تتطلب من جميع ذوي الإرادة الطيبة أن يتكاتفوا مع جهود الدولة بجميع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والرقابية على بطء فهمها ونهجها الوطني، للسير بالبلاد نحو برّ الأمان والاستقرار والطمأنينة. فالسفينة العراقية الكبيرة، تتقاذفها أمواج عاتية داخلية وخارجية تستدعي وقفة مواطنية واحدة موحدة بعيدة عن رؤى ضيقة الأفق، قد تخدم نفرًا أو شريحة على المدى الحاضر، لكنها تضرّ بمصالح شعب وجدارة أمة وحضارة مكوّنات مجتمعية أصيلة تشكّل أعمدة الهيكل الساند للبلاد على مدى الأجيال. وهذا ما يستنفر ويحث الجهات التي ابتدأت بالحراك النخبوي في الشارع العراقي ومَن التحق به لاحقًا، أن يواصلوا المسيرة حتى تحقيق الرؤية الوطنية الصحيحة في بناء دولة المواطنة، الدولة المدنية التي تحترم الجميع باختلاف أطيافهم وتوجهاتهم ومللهم ونحلهم، وتعدّ الجميع مواطنين على قدم المساواة في مقياس التساوي والعدل والإنصاف من دون تمييز في أيّ شيء وفي كلّ شيء.
إنّ الحاجة والضرورة إلى اجراء تغيير فعلي وجوهري في بنيان الدولة العراقية، بات حتميًا غير قابلٍ للطعن أو الرفض، مهما حاولت جهات متنفذة وضع العراقيل امام صحوة كاسحة للفساد والفاسدين، عبر ترقيعات هنا وهناك، لا تغني ولا تسمن. فهذه أضحت من هموم الشارع الثائر، يجري استحثاثُها بمناسبة ومن دونها بالدعوة لفكر جديد في الرؤية البنائية للقدرات الوطنية الصادقة وفي استبعاد مَن وما لا يتوافق مع مطالب التغيير الجذري المطلوب. وهذه الاسترتيجية المطلوبة في إيجاد منهجية متكاملة تسعى لبناء مثل هذه الدولة المدنية، ينبغي مناقشتُها وتداولها من دون خجل ولا تردّد ولا تشكيك. وما يجري الحديث عنه عن استحقاقات دينية وطائفية وحزبية فرضتها ظروف الغزو الأمريكي للبلاد ، كلّما شغرت حقائب وزارية، ليست سوى معوقات على طريق بناء هذه الدولة المدنية المنشودة. فالحديث عن مثل هذه الاستحقاقات المشبوهة وغير المجدية بعد الفشل الذريع في إدارة أصحاب الاستحقاق لشؤون البلاد بكلّ المقاييس، لم يعد مقبولاً في الشارع المنتفض ولدى الشعب المظلوم وكذا في صفوف المتعلمين والمثقفين والأكاديميين بالرغم من تناقص فورة هؤلاء لأسباب معروفة أمنيًا وأخرى مجهولة ضمنيًا.
إنّ ما بات أكيدًا، أنّ الشارع العراقي بمعظمه، رافضٌ لسلوك مبدأ المحاصصة في إدارة الدولة، إلاّ من قبل السياسيين وأصحاب النفوذ في الكتل السياسية، التي تنافِقُ لأجل منافع ومكاسب حصدتها وما تزال تنالُها من جرّاء التشبث بهذا المبدأ الذي دمّر البلاد وفرّق العباد وسوّس العقول وأثقلها جرمًا وغيلة وجرمًا. وما زلنا نتطلّع لجهد وطنيّ مخلص وجامع لأفكار الجميع على اختلافها من أجل تكوين مثل هذه الرؤية الصحيحة الضامنة لمستقبل الوطن وطمأنينة أبنائه وسعادة أجياله بعد زوال الغمّة السوداء. وهذا قد يتوق لبروز شخصية كارزماتية تحمل صفة المدبّر والراعي والرائد في التصورات والإداريات وفي تحقيق العدل وسيادة القانون وإنصاف المقهورين ومحاسبة الفاسدين والمقصّرين. أي أننا، بحاجة إلى "مانديلا عراقي" قويّ وصارم وعادل، بمواصفات وطنية عراقية حضارية، يأمر بنيل كلّ مواطن ما يستحقّه، وينهى عن اية انتهاكات ضدّ أفراد وجماعات وشرائح تشارك في المواطنية وفي الاستحقاق. عراقُنا وأهلُنا ينتظرون زعيمًا وطنيًا مخلصًا للوطن والشعب، لا تأخذه في الحكم سنّة ولا نومٌ، ولا ينجرف وراء الفساد أو يغطّي على الفاسدين ومَن يستقوي بجنسية مزدوجة أو بأسياد من خارج الحدود، ولا يتعالى على القوم أو يستخفّ بقدرات مواطنين ومثقفين وكادحين على السواء.
وإلى أن يأتي هذا الرجل، القائد العادل، السياسيّ المنصف، الإنسان المنفتح في الفكر والرؤية والمنهج، الوسطي المقبول من الشارع البسيط ومن دهاليز السياسة الماكرة، يبقى عزاؤنا الآنيّ في دحر وانتهاء صفحة الإرهاب وفكرِه المدمّر، الذي ضرب أطنابَه في أرض السواد منذ تهيئة ساسة العملية السياسية لتكوينه وتشكيله بفعل سياساتهم الخاطئة، والمساهمة بتسهيل قدومه بفعل سلوكياتهم الطائفية، وفي استفحاله وتأخير دحره بفعل انقساماتهم وعدم وجود الرغبة الصادقة لتسوية خلافاتهم، وكذا بسبب غياب الإرادة الصارمة لمغادرة أسلوب المحاصصة.
فالشعب يترقب بصبر كبير في الأيام القوادم، بروز هذه الشخصية الكاريزماتية مع قرب الدورة الانتخابية القادمة، كي يكون خادمًا للشعب وليس العكس، قائدًا قديرًا يدير مشروع المصالحة المعطَّل ويهيّءُ الطريق للسلم الأهلي الدائم في ربوع البلاد. لكننا، نريده شخصية عراقية أصيلة تزرع الراحة والطمأنينة في القلب والنفس والفكر، وتضع نهاية أكيدة للفساد، وتحاسب الفاسدين والمتلاعبين بثروات البلاد والمتاجرين بمستقبل العباد. وهذا ما يستلزم تعديلات أساسية في القانون الانتخابي الذي ما زال تحت رحمة نفوذ الكتل السياسية المتنفذة والسلطات الحاكمة التي روّضت وتروّض هذا القانون ليتماشى مع طموحاتها واستمرار هيمنتها على صناديق الاقتراع بالصيغة التي أقرّ بها لغاية الساعة.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة