خواطر
وكتابات عامة
مرة أخرى،هل من حديث بعدُ عن مرجعية سياسية مسيحية مستقلة؟
لويس اقليمس
19
تموز 2016
في صيف 2015، عندما أقدم غبطة البطريرك لويس ساكو لطرح مبادرته حول فكرة تشكيل مرجعية سياسية مسيحية، لم يتردّد الحريصون على مصير ما تبقى من الجماعة المسيحية بالعراق بالالتفاف حول المبادرة. تعاون الكثيرون معه، ومنهم كاتب السطور، كي تخرج المبادرة إلى حيّز الوجود. والمتابعون للمشروع، يعلمون جيدًا بفحوى اللقاءين اللذين جمعا رجال دين ونواب ومسؤولين مسيحيين بالدولة ومثقفين نخبويين وناشطين مدنيين وعلمانيين. كما دأبت اللجنة الخماسية التي تشكلت بإجماع آراء المجتمعين على مثابرتها، من أجل إكمال الشوط الملقى على عاتقها بمتابعة التطورات والأمور التنظيمية بهدف تقريب وجهات النظر وتحقيق التنسيق والانسجام في الطروحات التي سادت اللقاءين وإكمال المشوار لاحقًا. وبالرغم من خروج بعض طروحات بعض المشاركين الذين تمت إضافتُهم في اللقاء الثاني بطريقة غير مدروسة، إلاّ أنّ اللجنة الخماسية قد تابعت موضوع التنسيق مع جميع الجهات الكنسية بهدف الحفاظ على نوعٍ مقبول من الانسجام، خدمةً لهدف المبادرة.
وللحقيقة أقول، أنّ اللجنة التنظيمية، بمثابرتها التطوعية، قد أكملت ما عليها من مسؤولية ومن عمل تنظيمي بدفع الأمور إلى الأمام.فقد كانت لقاءاتُها متواصلة طيلة الفترة بين آب وكانون أول 2015، حيث التقت صاحب المبادرة لمرات عديدة وناقشت معه أفكارًا متجددة مرفقة بتوصيات وخبرات من الذي يُسمع أم يُقال.
والغاية من ذلك كله، كان باتجاه دفع المبادرة إلى الأمام وتحقيق الإجماع في اتخاذ القرار الذي ترقبه المجتمع المسيحي بجميع طوائفه وكنائسه. إلاّ أنّ انشغال السادة رؤساء الكنائس وسفرهم المتكرّر في فترة الصيف وارتباط آخرين بالتزامات خارج بغداد والعراق لاحقًا، قد أعاق عمل اللجنة التنظيمية. وبسبب ذلك، لم يكن من المتيسر والسهل تحقيق لقاء ثالث، كنّا تمنيناه حاسمًا لوضع النقاط على الحروف وتحقيق وحدة الصف والخطاب السياسي عبر إقرار تشكيل نواة لمرجعية سياسية مسيحية علمانية مستقلّة، تتولى مسؤولية الدفاع عن حقوق عموم المسيحيين ومتابعة همومهم الكثيرة، وتقف سندًا لمطالبهم، من حيث تمثيلهم في المنابر السياسية الوطنية، المحلية منها والدولية، وفي المؤتمرات والندوات وأية محافل دولية ذات العلاقة. أي بمعنى آخر، أنّ هذه المرجعية المرتقبة أُريد لها أن تكون ناطقَة بحال الجماعة المسيحية وممثلةً سياسية لهم في الدولة العراقية وخارجَ اسوارِها، على السواء.
مع بدء العام الجديد 2016، عاودت اللجنة الخماسية نشاطَها، وحققت لقاءً تشاوريًا مع صاحب المبادرة الذي أبدى كلّ تفهّمٍ للنقاط التي أثارَها أعضاؤُها، ومنها المرونة المطلوبة في طرح الأفكار والابتعاد عن التشنّج ورفض مبدأ التفرّد بالقرار المسيحي ونبذ فكرة الأكثرية والأقلية التي أوقعت البلاد والعباد في العراق في أزمات متلاحقة بسبب ما تحمله هي الأخرى من مفهوم طائفيّ. وعقد الأعضاء الخمسة للجنة التنظيمية، العزم على إكمال المهمة التطوعية بروح العمل الجماعي وبفكر الفريق الواحد. وبعد سلسلة زيارات لأصحاب الشأن، رؤساء الطوائف الكنسية، أصحاب الغبطة البطاركة، مار أدي وما لويس ساكو (واتفاق لقائي مصادفةً بصورة شخصية مع غبطة البطريرك كوركيس صليوا في مطار بغداد الدولي)، وأصحاب النيافة الأساقفة، مار سيويريوس حاوا (للسريان الأرثوذكس) ومار أفرام يوسف عبا (للسريان الكاثوليك) ومار عمانويل دباغيان (للأرمن الكاثوليك) ومار آفاك أسادوريان (للأرمن الأرثوذكس) ومار شليمون وردوني (للكلدان) وجان سليمان (لللاتين)، والقمص مينا الأورشليمي (للأقباط)، تحقق لدينا قيام نية سليمة وتأكدت رغبة كاملة لجميع مَن تمّ اللقاء معهم لمتابعة مشوار المبادرة وإمكانية تحقيق الهدف من دون تردّد.
بعد هذا كلّه، وغبةَ أنجاز المطلوب، توجب على أعضاء اللجنة الخماسية المكلفة بمتابعة هذا الملف للتنسيق بين جميع المعنيين، أن يضمّوا أصواتهم إلى أصوات الشعب المسيحي الذي ينتظر اللحظات الحاسمة، للقاء التوافق والموافقة العملية والفعلية بعد التصريح بمنح الموافقة الشفهية التي تمّ الحصول عليها، موثقةً بالصورة والكلمة. من هنا، كانت خطوتُنا التالية تكمن بتوجيه دعوات لأصحاب الشأن بتحقيق لقاء مرتقب يجمع رؤساء الكنائس حصرًا، مع أعضاء اللجنة الخماسية، كخطوة أولية، من أجل إقرار إجماع بإمكانية المضي قدمًا بالمبادرة أو بالتوقف، على أن يعقب تلك الخطوة تحقيق لقاء لاحق يجمع رؤساء الكنائس والنخب من السياسيين وممثلي الأحزاب والمسؤولين والفعاليات المدنية والمثقفين، الذين سبق أن شاركوا في اللقاءين الأخيرين، ويمكن إضافة عناصر وطنية رصينة وغيورة غيرها.
في هذه المرحلة الحرجة، لا ننكر بروز خلافات في الفترة الأخيرة، في صفوف مجلس رؤساء الطوائف المسيحية الذي سمعنا بحلّه وانتهاء أعماله، ما يُؤسف عليه. لكننا نعتقد، أن الخلافات التي أُثيرت لا يمكنها أن تقف عائقًا أمام رغبة الجماعة المسيحية وأملها بتحقيق هذا الإجماع السياسي الذي هو أمل جميع المسيحيين والعلمانيين منهم بصورة خاصة، كي تبقى المؤسسة الكنسية بعيدة عن تعاطي السياسة ودهاليزها وترك الشأن المدني والسياسي للعلمانيين، مع إبقاء رعاية الكنيسة ومباركتها لمثل هذا التجمّع الضرورة. ولا شكّ أنَّ مثل هذا الإجماع يتطلّب شيئًا من الإيثار والتواضع والتنازل المجبولة بالغيرة الرسولية والمحبة المسيحية والشعور بالمسؤولية الراعوية إزاء القطيع الصغير الذي ينشد الوحدة الحقيقية، فيما رؤساؤُه يتنازعون على الزعامة، تمامًا كحال العراقيين اليوم!
لذا، ودفعًا لإتمام مشروع المبادرة الرامي لتشكيل مرجعية مسيحية مستقلّة نابعة من القيم المسيحية المتوارثة، وانطلاقًا من الغيرة الوطنية على حقوق الجماعة المسيحية المتبقية، وعملاً بالحرص على بقاء الصف الأسقفي بالعراق موحد التوجه ومرصوصَ الجانب ورائدَ الكلمة وسط جميع الكنائس، أقترح الأخذ بما معمول به في كلّ من الجماعات المسيحية في لبنان ومصر والأردن. أي أن يبادر مجلس الأساقفة المنحلّ لإعادة هيكلتِه بطريقة أصولية وقانونية ويكتسب صفة رسمية في الدولة العراقية. وهذا يتطلب انتخاب رئيس له ونائب للرئيس وسكرتير وأمين مالي وناطق رسميّ، وما إلى ذلك بحسب المقترحات التي يرونها مقبولة وضرورية في هذه المرحلة، على أن يحصل ذلك من دون تشنّج في المواقف وإصرار على الرأي المنفرد من قبل المراجع الكنسية التي نأمل أن تبدي حرصًا أوفر على رغبة أبنائها.
لستُ أفرضُ رأيًا مغايرًا، لما هو معمول به وما هو مطلوب في ضوء الحاجة والظرف والمرحلة. فقوتنا لن تأتي بفرقتنا على معسكرين، كلّ منهما يسعى للظهور بأحقية تمثيل المجتمع المسيحي أو التقليل من شأن الآخر، في مناسبة وفي غيرها. فالمطالبات الرسمية والآنية والمجتمعية من أركان الدولة، برئاساتها الثلاث واللقاءات مع المسؤولين في الوزارات والمؤسسات، كلّما كانت بروح الفريق الواحد، الموحد، المجتمع على كلمة الإجماع، كانت أكثر قوة وأكبر وقعًا وأوسع صدى. وهناك حقيقة، تتمثل بكاريزما يمكن أن تتصف بها شخصية دينية دون غيرها. فهناك مراجع مسيحية لا تمتلك القدرة الكافية ولا الشجاعة الكاملة ولا تلك الكاريزما المطلوبة ولا القدرة على الكلام والإفصاح والتحدّث في طَرق أبواب الساسة والدول والمحافل.
فهذه مسألة إمكانيات فردية لا ينبغي أن تقف حائلاً أمام مَن لا يمتلك مثل هذه القدرات وهذه الكاريزما. ولكن هذا لا يعني، تفرّد جهة دون غيرها، كما أشرنا، في مسألة تمثيل الجماعة، كلّما استجدّت ظروف وبرزت الحاجة وتطلبت الأحداث. فمبدأ المشاركة في هذه الأنشطة والحراك بجميع انواعه واشكاله مكفولٌ وحقّ لجميع ممثلي الكنائس حتى لو حصل ذلك بطريقة تمثيلية وحسب الظرف والمكان والوقت. فهذا من شأنه أن يزيد من قوة المجتمع المسيحي ويعطيه زخمًا وفورة وطاقة لتحقيق المزيد من أماني وتطلعات ومطالب أبناء الجماعة الرازحة في معظمها تحت نير القهر والدونية والتهميش. والسبب في ذلك في معظمه، يعود إلى غياب وحدة الصف وتشظّي الخطاب السياسي بسبب التشنّج في التوجهات أو تأييد بعض المرجعيات الكنسية لهذا الحزب أو ذاك وهذا الطرف أو ذاك، ما يجعلها تابعة هي الأخرى للجهة التي تقف خلف أحزاب هزيلة أخفقت في مهماتها بشكل كبير، تمامًا مثل سياسيّي البلد، من خلال عجزها برفع الغبن عن أتباعها ومؤيديها وتحقيق مطالب الشعب في تأمين لقمة العيش والخدمات الآدمية والأمن والسلم الأهلي.
إنني أترقب راجيًا من أصحاب الشأن، المرجعيات الكنسية كافة وأعضاء اللجنة التنظيمية بهيئة الرأي، أن يكملوا المشوار والمهمّة التي تعهدوا بتحقيقها خدمةً للمصلحة الوطنية العليا وفائدة أتباعهم. فهذه الأمنية بحسب اعتقادي، لن تجد طريقها للتحقيق إلاّ إذا نالت مباركتَها العلنية من المرجعيات الكنسية كافة من أصحاب الغبطة والنيافة والسيادة رؤساء الكنائس.
والدليل على ذلك فشل محاولات عديدة لجهات حريصة في الشأن المسيحي الوطني. أمّا ما تلقته اللجنة التنظيمية في حينها في اللقاء الأخير مع صاحب المبادرة من إيعاز أو مباركة شفهية مقترحة للمضي قدمًا في المشروع المتعثّر، انطلاقًا من مبادرة جدبدة تصدر عن قاعدة علمانية بحتة، فهو مجرّد ذرّ الرماد في العيون وتنصّل من مسؤولية الراعي الحريص على قطيعه.
من هنا، كلام "ليكونوا واحدًا"، يقتضي توضيب البيت الأسقفي وعودة نشاطه بشكل أكثر إيجابية وبإيثار مصلحة الشعب المسيحي على مصالح طائفية ورئاسية وفردية. وفي حال تحقيق هذه الأمنية، نكون قد أعدنا القطار المسيحي إلى سكته الصحيحة التي أرادها المسيح. أمّا الخلافات مهما كانت، شخصية أم ملّية، سوف لن تنفع المكسور ولا تضمّد الجراح ولا تحلّ المشاكل.
وفي انتظار تحرير مناطقنا من دنس الإرهاب الماحق، نتأمّل لقاءً مرتقبًا شافيًا بإذن الرب وقوته وبمشورة الروح القدس ودعاء العذراء مريم وجميع القديسين، لدراسة مرحلة ما بعد داعش. فهذه لن تكون سهلة. فالضبابية تشوب المناطق المنتهكة وسط صفقات مشبوهة حول مستقبلها ومصير أبنائها وإدارتها. فليكن الجميع على قدر المسؤولية!
.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة