خواطر
وكتابات عامة
أن تصيرَ جدًّا، ماذايعني؟
لويس اقليمس
25
ايار 2016
في عالم، حيث الأزواج لم يعد لديهم من قوة الأمس، أصبحت الجدودة (كون أن يصبح الإنسان جدّا) من المعالم الهامة، في عدد من البلدان التي تضمن حياة كريمة ومحترمة للمواطن الذي أفنى عصارة عمرِه في العمل. والسبب، توفر أوقات متاحة أكثر من ذي قبل لإمضائها وسط البيت العائلي التقليدي الذي يقبل بتواصل الحياة للأجيال، وفيها يكون للأحفاد حصة الأسد.
تدور الحياة بالشكل الذي تريدُه الأقدار، أو كما يشاء البعض أن يقول وفق مخطط "سماوي"، قد هيّأ كلّ شيء للإنسان والعناصر المحيطة به. حتى الأبوّة، تدخل في منهاج هذا المخطّط، وما على الشخص المعنيّ سوى التهيّؤ لهذه المهمة الجديدة في حياتِه. وإنه من قانون الطبيعة أن يتواصل الجنس البشري عبر التوالد والتكاثر، عملاً بوصية الخالق "انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها"(تك 1: 28). هذا هو مشروع الله الأبوي لبناء حضارة جميلة للبشرية واستمرار الخلق، على صورته ومثالِه، وفق المخطّط المرسوم! فانقطاع التوالد البشري، يعني وضع حدود للتكاثر بالحياة ورفض نعمة الله في الخلق. وهذا بحدّ ذاته انتحار للشعوب والمجتمعات والأوطان، على السواء. فقد اتضح لنا ذلك بصورة خاصة في بلدان الغرب المتحضّر، مع تطور الثورة الصناعية وتقدم التقنيات التي نالت من وقت وفكر الإنسان فيها الشيء الكثير، إلى جانب راحة البال والفكر والإيغال في المتعة الجسدية، بحيث نسيت أو أجلت إلى أجل غير مسمّى عملية التكاثر في جنس أبنائِها. وقد صدق القول فيها، أنها قد شاخت بسبب تقهقر احترامها لحياة الجنس البشري والرسالة الإنسانية التي أوكلَها الخالق لكلّ امرئ يولد على الأرض.
وبسبب هذا التراجع عن التوالد والتكاثر، واستخدام أنواع المبتكرات من وسائل منع الحمل والأنانية المفرطة في العلاقة الحميمية التي تُبعد الرجل والمرأة عن مشروع ضمان تواصل الجنس البشري وتناسلِه الطبيعي وفق المخطَّط الإلهي، فقد تراجعت نعمة الآباء في التمتع بالأحفاد بسبب عزوف الشباب في الغرب الماجن مؤخرًا، عن تحمّل المسؤوليات الأسرية والمجتمعية والوطنية المترتبة على عهود الزواج التي تأمر بها الأديان عامة. وبالنتيجة، تحولت بعض هذه الشعوب إلى حواضن تستورد البشر، أيًّا كانت أجناسُهم وخلفياتُهم، من أجل إدامة الحياة والمكننة الصناعية والمادية في بلدانها. وهذا ما أد خلها في دوّامة الحياة المتطلبة والمشاكل التي حصرَ لها، بسببٍ من عدم مراعاة الحكومات المتعاقبة للتركيبة الحياتية لشعوبها الأصيلة. فتهجّنت هذه الأخيرة وتميّعت وخرج الأمر والحكم من بين يديها، بسبب من عدم انسجام المستورَدين الجدد وصعوبة اندماجهم في المجتمعات الغربية المتقدمة، تلك الغريبة على أفكارهم ومعتقداتهم وأخلاقهم! وبفقدان التحكم في جنس المجتمعات الأصيلة والنقية للبلدان العريقة التي أثمرت في بناء أوطانها بسنوات من التعب والمثابرة والثورات المتعاقبة، تكون هذه قد سلّمت الراية خطاً لأجيالٍ فاقدة لقيمة الحياة المدنية ولرسالة الخلق والخالق معًا في احترام أصول الحياة الطبيعية للشعوب الأصيلة. ومنها، مساهمتُها من حيث تدري أو لا تدري بكسر الشعور الأبوي والعاطفي الطبيعي بين الأجيال المتعاقبة. فإنْ كانت تدري، فالمشكلة كبيرة. وإن كانت لا تدري، فالمسألة أكثر تعقيدًا، لأنها تكون قد فقدت نعمة نسمة الحياة الجديدة التي ينقلها الأجداد للآباء والأحفاد وبهم تتكون الأجيال وتُبنى الأوطان.
عمومًا، الأبوّة، نعمة من الخالق، عندما تتجدّد على رسلِها، وبها ينعم الجنس البشري بكلّ وليد جديدٍ صالح يتربى في عزّ الوالدين الصالحين لإنضاج مجتمع صالحٍ هو الآخر. وما أجمل تشبيه "المرأة الصالحة بالنصيب الصالح، تُمنحُ حظًا لمَن يتقي الرب" (سفر يشوع بن سيراخ 26:3). وبهما ومعهما معًا، تتواصل الحياة للأجيال. فهي كالكرمة المثمرة في البيت، يأكل منها المجتمع ولا يشبع، يشرب من أخلاقها ولا يرتوي، وأولادَها كشتلات الزيتون على المائدة. فكم بالأحرى، إذا أضافت سمةُ التناسل الطبيعي الذي عرفته الشعوب منذ الخليقة، والتوالدُ الأسري التقليدي،إلى مهامِ الأبوة صفةَ"الجدودة"! وهل أجمل من أن يحمل "الجَدّ والجدّة"، على ذراعيهما أحفادهما ويشاركان السهر وهزّ المهود مع الوالدين مساهمة في تربيتهم كما أمر الله خلقَه!
ولكن، هل مثل هذا الفرح الغامر يكفي لإكمال سعادة هذا "الجد" أو "الجدّة"؟ بطبيعة الحال، يكون الجواب،لا! فالمهام كبيرة لإكمال مثل هذه السعادة وبلوغها لفائدة الأسرة وأهل الدار والمجتمع والوطن على السواء. وهي أكثر من قدر السعادة الغامرة التي أحاطت البيت العائلي الكبير والمجتمع المتجدد بالضيف القادم، بدءً من الاهتمام الذي ينبغي إيلاؤُه إياه، بعد أن ملأ الوسط فرحًا وبهجةً بتشريفه.ولعلَّ من أولى الأولويات ل"لجدود"، ما يمكن أن يقدّمه له من عطف وحنوّ وتدليل. فاحتضان الحفيد وغمرُه بالحب الأبوي والعاطفي، يمنحه بلا شك فضاءً من الطمأنينة والهدوء والسكينة في الروح، ولكن ليس من دون حدود! فالمعانقة المرفقة بالحنان والقبلات الحارة تكون من دعائم خلق نمطٍ من الألفة والعلاقة بين الطفل و "جدّه" الذي يرى فيه أحبَّ وأقربَ شخصٍ يلفُّه بمشاعر تزيد من عرى العلاقة، لاسيّما حينما يلجأ الطفل للفت الاهتمام بحركاتِه البهلوانية المتنوعة، يمنة ويسرةً، أوبعد تجاوزهمرحلة الفطام ليبدأ بالتلعثم والكلام والحبووالشعور بالاهتمام. حينها، يزيد "الجدّ" من كيل كلمات المديح والإطراء تعزيزًا لشخصية الطفل الذي يبدو متلهفًا لمثل هذه الكلمات الجميلة التي يفخر بها. فهذه سوف تشعرُه بالاطمئنان لوضعه ككائن بشري دخلَ حياة البيت والمجتمع المحيط به.
هناك مَن ينادي بتدليل الطفل، وهذا أمرٌ طبيعي داخل البيت الأسري. فالطفل، بطبيعته هو الذي يشدّ الأهل إلى تحبيبه وتدليلِه، لاسيّما إذا كان ذا منظرٍ بهيّ ومتميّز في حركاتِه وضحكاتِه التي تخلب الألباب. وهنا لا بدّ من التنبيه بعدم الإكثار من إغراق الطفل بالمزيد من المحفّزات ولاسيّما المادية منها من غير الضرورية أحيانًا، كالحلويات وأنواع البسكويت، إلاّ ألّلهمّ إذا كان القصد منها أحيانًا لغرض تشجيعه على الإتيان بفعلٍ مقبولٍ ومحبوبٍ وبانٍ لشخصيتِه. ولا بأس من تقديم محفزات وهدايا رمزية في فترات متعاقبة، تسهم في بناء شخصيتِه أكثر ممّا تجرُّه إلى اللامبالاة أو في التركيز على أدوات الأطعمة والسكريات التي قد تضرُّ به أكثر، بقدر ما تنفع آنيًا. فالهدايا التي يتم اختيارُها، يحبّذ أن تكون رمزية وقائمة على ما يبني شخصية هذا الكائن الجديد الذي نزلَ ضيفًا محبوبًا على الأسرة. فمثل هذه، تبقى في ذاكرة الطفل، ومعها يدوم اعتزازُه بها وتذكّرُه إياها حتى مع الكبر. وهذه تجربة شخصية تأكدتُ منها في محيط إيجابي. وسأسعى لتكرارِها ومعاودتها وتطبيقها اليوم، بعد أن صرتُ جدًّا لمرتين، من الابن والابنة، على السواء!
ولعلَّ أجملَ ما سينتظرُه الحفيد، قصص الكبار وحكايات الأجداد والجدّات، وهي تطوف بالصغير في عالم الأحلام ودنيا أيام زمان، كيف كانت الحياة تسيرُ مع الأجيال السابقة. فالطفل سيكون كلُّه شوقًا لسماع كلّ هذا، والإنصات إليه بشغف كبير، لكونِه ربما يختلف عن زمانِه ومكانِه وظرفِه. فلكلّ جيلٍ ظرفُه وفكرُه ومدركاتُه ورؤيتُه للأمور، وفي تقييمِها. وهي التي تساعدُه في فهم ما يجري حولَه وتكوين فكرة عمّا ينتظرُه من فعلٍ إزاءَ ما يسمع من ذكريات، وما يرى من صور ناطقة تسجل حياة الماضي.
ومن المسلّمات أيضًا، أن يرافق "الجدّ" الطيب، كل خطوات الحفيد ويسعفَه في كلّ واحدة منها، كي يسير فيها بصورة حسنة وإيجابية وبنّاءة لشخصيته، بدءًا من تلعثمِه وحبوِه ثمّ مشيِه الهوينى أولى خطواتِه أمام أنظار الجميع، ليتهيّأَ بعدها لمهمّة أسمى في ارتياده مراكز التنشئة من حضانة وروضة ومدارس وكليات وما يليها في مسافة الحياة. فكم من شخصٍ تماهى مع تشجيع الجدّ والجدة وبلغَ ما صبا إليه بفعل التشجيع والترغيب من منطلق الخبرة في الحياة التي ينقلها الآباء والأجداد إلى الأجيال بهذه الطريقة البنّاءة والإيجابية! فالأبناء يبقون دائمًا بحاجة لمثل هذا التشجيع والدعم والمرافقة الحنونة المصحوبة بالغيرة والمحبة.
وفي حالة تعدّد الأحفاد في العائلة الواحدة، ينبغي اتباع المساواة في رفد جميع الأحفاد بالحنان والعطف والمحبة، من دون تمييز، كي لا يشعر هؤلاء بالتفرقة بينهم على أي أساسٍ كان، إلاّ في التحفيز المحدودللمطيع والسامع للنصح والكلام البنّاء من غيرِه. ومن سعادة الأحفاد أن يلتفوا حول الجد والجدّة، كلما حصل لقاء وجمعتهم مناسبة. ولعلَّ من الأفضل أن تحصل مثل هذا اللقاءات بعيدًا عن ضوضاء التلفزة ووسائل الترفيه الإعلامية والاتصال الحديثة التي قد تسلب الأضواء من فحوى اللقاء وفائدتِه. وهذا بحدّ ذاته سيكون ضروريًا بهدف إخراج الأطفال من دائرة الضوضاء والصخب في استخدام وسائل التكنلوجيا والترفيهية المتجددة والمغرية لحدّ الإدمان منذ الصغر.
أن تصبح جدًّا أو تصبحي جدّة، يعني التكيّف مع وضع جديد في الحياة العائلية. هذه المرحلة هي تجاوز لمرحلة سابقة تمثلت بالأبوّة لفترة سنوات، كان لها طعمُها الخاص بها، بمقتضى ظرفِها ومكانِها ومحيطِها. فمن أجل مواجهة ما حصل من تطوّر في الحياة في المحيط المنزلي والمجتمع، فيما يتعلق برعاية الأطفال- الأحفاد، لا بدّ من نظرة تكيّفية وفق هذه المقاسات الجديدة كي تخرج العناية "الجدودية" بنتائج إيجابية وفق المعايير المتطورة في التربية والتعليم. حيث لا توجد حقيقة مطلقة البتة في هاتين الأخيرتين، إلاّ في اختيار الوسيلة الأقرب لبلوغ الغاية في التربية الصحيحة المستقيمة والقويمة التي تؤهل مواطنين أصحاء مغمورين بحب القريب وأفراد المجتمع وملتحفين بحب الخيروالبشر والوطن منذ الصغر. فما يغرسه الأجداد في نفوس الصغار صعبٌ زوالُه بسهولة، بل يبقى محفورًا في الذاكرة، تمامًا كما "العلم في الصغر يبقى محفورًا وقائمًا مثل النقش على الحجر"! فالأجداد، كلّما دخلوا في عمق العمر، يبقون مكتبة ضخمة من المعلومات والقصص والحكايات والذكريات والخبرات، التي يقتاتُ منها الأحفاد الصغار. وهذه تبقى محفورة في الذاكرة ما عاشوا.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة