خواطر
وكتابات عامة
يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!
لويس اقليمس
5
نيسان 2016
تبادل المتندّرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، استهجانَهم وسخريتَهم لدعوة غريبة من أحد رجال الدّين، تطالب العراقيين بالكفّ عن أكل الشوكولاته (النستلة)،لأنّها من وسائل البذخ والإسراف. وبحسب الشيخ الجليل الصغير، صاحب الدعوة، أنّ من شأن مقاطعة هذه المادة الغذائية غير الضرورية أو الاستغناء عنها، يدخل ضمن سياسة التقشّف وتقليل الإنفاق التي تنوي حكومة العبادي "المحاصصية- التوافقية" تطبيقها، ضمن مفردات الإصلاح الاقتصادي الظاهرية وغير الفاعلة.
فالحكومة بكافة وزاراتها ومؤسساتها، تسعى اليوملتنويع مواردها بشتى الوسائل، عبر إيجاد نوافذ وأبواب، حتى لو كانت غريبة وهزيلة أحيانًا. فهي فاقدة القدرة الحقيقية على سدّ ولو جزءٍ ضئيلٍ من العجز والإخفاق في ميزانيتها.
ورأت بعض التعليقات، لشدّة تندّرها، بإمكانية استبدال "النستلة"، بمنتجات أخرى كالبقلاوة والداطلي وزنود الست وما سواها من المتوفر في الأسواق المحلية. ولكن، غاب عن بال الشيخ الجليل، أنّ حرمان العراقيّ من هذه المادة "المترفة" بحسب ما ذهب إله، هو وغيرُه، قد لا تشكّل سوى النزر اليسير ممّا ينفقه يوميًا الفاسدون والمترعون في مؤسسات الدولة والمكاتب الخاصّة والمراكز التابعة للأحزاب والكتل السياسية وزعمائها، و.. و.. و.. والقائمة طويلة.
كما أنّه، بين حظر أكل النستلة والتستّر على ما يسرقُه الفاسدون وعدم وجود متابعة جادّة لملفاتهم التي فاحت رائحتُها الكريهة هذه الأيام، مفارقة غريبة. فهي معادلة لاتستقيم، لا وطنيًا ولا اجتماعيًا ولا دينيًا، طالما بقي "العمى الوطنيّ"، دينيًا وفكريًّا واجتماعيًا وسياسيًا، قائمًا وضاربًا أطنابَهفي مكاتب الساسة الطائفيين الذين يبحثون عن أيّة فرصة مؤاتية للإيغال في الفساد وفي الكسب غير الشروع وفي استمرار سياسة التوافق والمحاصصة التي يتشبث بها جميع الزعماء، من سياسيين ورجال دين، لاسيّما المثلّث الحاكم، فيما الشعبُ بكلّ مشاربِه وجد فيها خللًا وكابوسًا وانتقاصًا من الإرادة الوطنية وإيغالاً في الفساد.
قبل أيام من استضافة رئيس الوزراء في مجلس النواب الموقر، تسارعت الكتل وممثلوها بتكثيف اللقاءات وعقد الاجتماعات والإكثار من المشاورات، لا لشيء، إنّما لأنّ الكثيرين ممّن هم في الحكم استشاطوا غيضًا من حركة الإصلاح التي هدّد بها رئيس الوزراء بالإفصاح عنها في سفرته الأوربية الأخيرة من دون الاستئذان من الزعماء "الشركاء" في العملية السياسية.
وذات الموقف تردّد في أثناء جلسة الاستضافة مطلع هذا الأسبوع، حين أكّدت الكتل وممثلو الزعامات السياسية عدم موافقتها على تفويضه بالتغيير الوزاري المرتقب ورفضهم الكلّي بالخروج عن التوافق. كما لوحظ عقد لقاءات جانبية جمعَتْ نوابًا من بعض الكتل مع قيادات في الرئاسات الثلاث، وكلّ فريق خرج بحصيلة تقضي بضرورة الإبقاء على التوازن التوافقيّ في الحكومة، أي تثبيت وضع المحاصصة.
والغريب أن السيد رئيس مجلس الوزراء، عدّ ترتيباته للإصلاح الوزاري، ب"التوافقي"، بالرغم من أنّ هذا يكرّس من الناحية العملية مبدأ "المحاصصة". وأنا، مثل غيري، لا أجد اختلافًا بين لفظتي "التوافق" و"المحاصصة".
وأرجو من سيبويه، أن ينتفض من قبره ليدلّنا جميعًا على الفرق بين المعنيين، سياسيًا واقتصاديًا وأدبيًا ودينيًا!
قد أشبّه دعوات من هذا النوع الغريب من المطالبات التي تثقل على كاهل وفكر المواطن العراقي، بكونها لا تقلّ إثمًا عن عمل المرائين الذين أشار إليهم المسيح، المصلح الاجتماعيّ المتزن محبّ البشر والبشرية.ففي انتقادِه لكتبة اليهود والفريسيين على عهدِه، الذين كانوا يحمّلون مواطنيهم البسطاء أحمالاً ثقيلة، فيما هؤلاء كانوا يعيشون في عوالمَ أخرى، تمامًا كالمرائين من سياسييّ عصرنا. فكلماتُه ما تزالُ تدوّي ويمكن أن تعيد ذات المشهد السياسيّ قبل أكثر من ألفي عام خلت. فالقول في أمثالهم:"أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ" (إنجيلمتى 23: 24)، تنطبق كثيرًا على الحالة التي يعيشُها شعبُ العراق. فالويلاتٌ العديدة التي أطلقها المسيح على الرئاسات اليهوديّة، وبها طالبَ الشعبَ بمحاربة الفاسدين من قياداته آنذاك، من الذين كانوا يركزون في تعاليمهم وأوامرهم على التمسّك بالشريعة التي كانوا يفسرونها حسب أهوائهم ومصالحهم، ومنها دفع العشور مهما كانت، كلُّها تتفق مع ما يعانيه العراقيون في المرحلة الآنية من فساد السلطة واستشراء الرشوة والكسب غير المشروع. فهؤلاء كما أولئك، يعملون وفق ذات المبدأ، حفاظًا على مصالحهم الشخصية والتراتبية، مهملين في مسؤولياتهم الرسالةَ المنوطة بهم من أجل خدمة الله والوطن وتحقيقالحق في عبادِه ونشد الرحمةفيالبشريةالمعذّبةوالدعوة إلى الإيمان الصادق، وليس التظاهر بالتديّن.
اليوم إذن، لا يختلف عن الأمس.
فسياسيونا، وجدوا في ثروات الشعب مالاً سائبًا وأطلقوا لأيديهم العنان، بموجب التخويلِ الذي حصلوا عليه من راعي العملية السياسية الأمريكي بتقاسم الثروة والسلطة، وفرضوا سيادتهم الحزبية والدينية والمذهبية على غيرهم، إن إكراهًا أو كواقع حالحتى يشاء القدر النحس! فقد فرضوا على الشعب دفع "العشور" بطريقتهم الخاصة، فاستقطعوا من قوت الموظفين المساكين ومن حال المتقاعدين البؤساء، ما عجز الله وبيوتُه عن دفعها طواعيةً. فيما همْ، استرجعوا مدّخراتهم من مرتباتهم الضخمة التي تظاهروا بتقليلها وتخفيضها أمام وسائل الإعلام للاستهلاك المحلّي ومن أجل كمّ الأفواه التي طالبت، والأصوات التي بحّت من أجلها، سواءً من المرجعيات أو من جانب المتظاهرين. فالرئاسات الثلاث ومَن يدور في فلكها من موظفين كبار، مهما برّروا وأفصحوا عن تقليل تلك المرتبات في سلّم الرواتب غير المنصف، فهُم يخرجون من نافذة أخرى بمبرّرات مبتكرة لاستعادتها بآليات ووسائل يعصى فكُّ أسرارها وأبوابها على البسطاء. فالمخصّصات والإيفادات وكوميسيونات العقود المستحصلة، كلّها كفيلة بعودة الثعالب والذئاب والأسود إلى الغابة الغنّاء للصيد فيها، كيفما شاءوا ومتى شاءوا.
وفي خضمّ الأحداث المتسارعة، من حذر جهاتٍ عديدة تخشى فقدانَ امتيازاتها، وأخرى تخشى على نفسها من كشف المستور ومن إمكانية التعرّض للمساءلة والمحاسبة والمقاضاة بسبب خروقات وسرقات وغسيل أموال وكسب غير مشروع، يبقى أملُ الشعب ومعه المرجعيات الدينية الوطنية المؤمنة بتكوين دولة مدنية حديثة مهنية من تكنوقراط أصحاب خبرة، مطلبًا رئيسيًا بقيام حكومة وطنية بعيدة عن المحاصصة. والمقصود بحكومة تكنوقراط، أن يكون وزراؤُها من المستقلّين وطنيًا، من أصحاب الشهادات المسلَّحين بخبرات عملية وفنّية، من غير الموالين أو المنحازين للكتل والأحزاب العاملة في السلطة.
والشأنُ ذاتُه ينطبق تمامًا، على اختيار رئيس الحكومة كي يكون من خارج التشكيلات الحزبية وبعيدًا عن أجواء الكتل السياسية التي فشلت في إدارة العملية السياسية منذ السقوط. فهذه، لم تأتي سوى بالوبال، ولم تنتج سوى الأزمات المتلاحقة، ولم تفلح في رأب الصدع في النسيج المجتمعي الذي تهالكَ وتراجع وانفرطَ عقدُه بسبب تقاطع المصالح بين الفرقاء الأعداء والنهج الطائفي الذي سمح بتسيّد فكر الإسلام السياسيّ على الساحة العراقية. فساستُنا رأوا البعوضة في عيون منافسيهم وفي مطالب شعبهم، ولم يروا الجَمَلَ، كلٌّ في حزبِه وطائفتِه ومذهبِه.
فقبلوا على نفسهم أن يبلعوا الجمل، فيما أشاروا شزرًا إلى البعوضة، بالرغم من صغر حجمها.
وفي انتظار ما سيؤول إليه الحراك السياسي في قادم الأيام، يبقى المطلب الأساسيّ لعموم الشعب، إحداث تغيير في دفة الحكم، والإتيان بحكومة قوية صادقة في ولائها للوطن والشعب، ومُنصِتة لصوت جميع المرجعيات الدينية الرشيدة من دون تمييز، وغير مهملة لأصوات المتظاهرين، وآخرُها تظاهرة الميلونية السلمية ليوم الجمعة 26 شباط 2016.
ومن شأن هذا النموذج من الحكومة الوطنيةِ المنهجي فقط، يمكن أن نشهد تطهير كلّ الأرض العراقية من دنس عصابات الإرهاب، وتحرير المدن والبلدات المغتصبة، وإعادة اللحمة الوطنية، ومحاربة الفساد وكشف الفاسدين ومحاسبتهم، واسترداد الأموال المسروقة والمهرَّبة، وإبعاد كلّ نهج طائفيّ يشكّل إعاقة لعودة الوطن إلى قوّته والشعب إلى رشدِه والساسة إلى صوت الحق والعقل والإنصاف. فالمطلوب حكومة قوية فاعلة نزيهة برئاسة وطنيّة مستقلّة مهنية الرؤية وقادرة على اتخاذ القرار، من دون الانصياع لضغوط الكتل والزعماء وبنبذ مبدأ المحاصصة وإسدال الستار عنه نهائيًا.
-------------------------------------
---------------------------
أعلى الصفحة
العودة للصفحة السابقة